الثلاثاء ٩ شباط (فبراير) ٢٠١٦
بقلم المحجوب المحجوبي

اللغــة والتــواصــل

المبحث الأول

ان البحث في التواصل ونظرياته وأنساقه، ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تاريخ وصول الرأسمالية مرحلة الامبريالية. ويتجلى ذلك من خلال الأبحاث التي أنجزت في حقلي الفيزياء والرياضيات حول مفهوم حساب الاحتمالات واحتمال الحدث، وإمكانيات قياس هذا الاحتمال، حيث عثر فيها على بعض مقدمات التواصل ودعائمه. وهذه الأبحاث هي التي أعلن عنها في مداخلات كل من العالم الفيزيائي النمساوي "لودفيغ إدوار بولتزمان"، "اندريفتش ماركوف" و"رالف ويندون هـاريلي". ولكن منذ الأربعينات من القرن العشرين، أي قيل الحرب العالمية الثانية، عرف البحث في التواصل تحولا نوعيا، إذ أثمر التعاون العلمي الكبير بين المهتمين بالرياضيات ومهندسي الاتصالات اللاسلكية مساهمات ذات أهمية كبيرة تجلت في التوصل إلى أن الخصوصيات النظرية لكل نسق من العلامات المستعملة من لدن الكائنات الحية والتقنية، لها غايات تواصلية. ولتحقيق هذا الإنجاز المعرفي أقبل منظرو التواصل على معالجة بعض مظاهر التواصل اللساني بمنظور جديد. وانطلاقا من النماذج التي اقترحها المهتمون بالرياضيات استطاع الحقل اللساني تعديل تصوراته وتجديدها وتحقيق بعض مفاهيمه والتعاطي مع إشكالات جديدة وخاصة ما يتعلق بالمعنى والسياق في التواصل وآثار النقل والتشويش.

ويمكن القول إجمالا أن البحث في التواصل لم يرق إلى مستوى النظرية ولم يشيد نماذجه المعروفة إلا في أواخر الأربعينات من القرن العشرين في الولايات المتحدة وبعيد الانتهاء من الحرب العالمية الثانية. وهكذا سيظهر علماء من مختلف المشارب والتكوينات في مجال التواصل والاتصال أمثال "شانون"، "ويفر"، "واينر" و "لاسويل". وفي الخمسينات ستظهر إبداعات أخرى لعلماء آخرين من أمثال "شروم"، "كاتز"، "لازار سفيلد"، و"ماكلين"، لتتلوها نماذج أخرى في عقد الستينات والسبعينات والثمانينات. ولازالت النماذج تتطور وتنهل من حقول معرفية مختلفة، وتوظف في ميادين إنسانية متعددة.

ظهرت كلمة communication في الفرنسية في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي وتعود إلى الأصل اللاتيني communes، الذي يفيد المشاركة وتكوين العلاقة. كما أرجع البعض هذه الكلمة إلى الأصل common بمعنى عام أو مشترك.
وتطور هذا المعنى وأصبح يعني "النقل"، وسيطر في الفرنسية المعاصرة على باقي المعاني الأخرى.

وفي اللغة الانجليزية ظهرت هذه الكلمة في القرن الخامس عشر وجذرها اللاتيني communis كان أخصب وأغنى في المعنى، وهو مرادف لـ ـcommunion أي مشاركة.

وأثناء القرن الثامن عشر، وبعد تطور وسائل النقل، أصبح المصطلح يعني الطرق والقنوات والسكك الحديدية. ومنذ بداية الثلث الأول من القرن العشرين صار يعني في الولايات المتحدة وبريطانيا مصنع الطباعة والسينما والراديو والتلفزيون، وشاع هذا المفهوم في فرنسا وخاصة في استعمالات الفنانين والصحفيين. لكنه لم يؤخذ به في المعاجم الفرنسية الكبرى.
يبدو من خلال ما سبق أن استعمال مصطلح التواصل في الفرنسية والانجليزية خضع تاريخيا للتطور، فمعناه تطور من الأصل اللاتيني إلى أن صار يعني في المعاجم الكبرى:
إرسال شيء ما لشخص معين
التحدث عن شيء ما.
التحاور مع شخص ما.
الانتقال من مكان إلى آخر.

وقد أضاف "روبير" في سنة 1970 معنى آخر جديدا في معجمه le grand Robert، وهو تدخل العلاقة الدينامية في عمل ما.

والثابت من خلال ما سبق أن المعاجم الفرنسية والانجليزية استخدمت كلمة "التواصل" كأحد مرادفات المصدر العربي "التشارك" أو"التفاعل".

1-مفهوم التواصل وأهميته

إذا كان التواصل موضوعا لمجموعة من العلوم والحقول المعرفية المختلفة مثل الرياضيات والإعلام وهندسة الطيران والاقتصاد والطب واللسانيات وغيرها، وتتجاذبه أيضا مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، فمن الطبيعي أن تتعدد تعاريفه ومفاهيمه ودلالاته ومعانيه. وبالرغم من تداوله في مجالات متباينة لا زال غير واضح ودقيق لدى مستخدميه بسبب تفرع أهدافه وتنوع وسائطه وتداخل أبعاده.

فعلى المستوى اللغوي يعتريه بعض الغموض بسبب غناه المعجمي، فهو من جهة يتقاطع في الدلالة مع مجموعة من المصطلحات مثل الترابط، الالتئام، الجمع، الإبلاغ، الإخبار، التخاطب، التحاور والاقتران...الخ، ومن جهة ثانية يتقاطع في الدلالة والجذر مع مجموعة أخرى من الكلمات مثل الوصل، الصلة، الصُّلة (الوصلة)، الاتصال، الوصول، التوصيل، الإيصال، المواصلة، الوصال والتوصل.

و بالنظر إلى ما أورده ابن منظور في معجمه "لسان العرب"، نجده قد عرض لمعاني المجموعة الثانية والشواهد الدالة عليها، وانتهى إلى أن " الوصل " ضد الهجران، وأنه خلاف الفصل، و"التواصل"ضد التصارم، والتصارم هو التقاطع، ومنه تصرم الشيء وانصرم أي تقطع وانقطع. وهو بهذا لم يصف التواصل بمرادفه بل بنقيضه في محاولة منه لحصر معناه وتمييزه عن معاني الألفاظ الأخرى. وذهب الأستاذ عبد الرحمان طه إلى أن التواصل يدل على معان ثلاثة متمايزة فيما بينها:
 أحدها، نقل الخبر، واصطلح على تسمية هذا النقل بـ "الوصل".
 ثانيها، نقل الخبر مع اعتبار مصدر الخبر الذي هو المتكلم، وأطلق على هذا الضرب من النقل اسم "الإيصال".
 ثالثها، نقل الخبر مع اعتبار مصدر الخبر الذي هو المتكلم، ومقصده الذي هو المستمع، وسمى هذا النوع من النقل "الاتصال"

وفي الاستعمالات المعرفية والعلمية باللغة العربية يتم التعبير بمصطلحي الاتصال والتواصل باعتبارهما ترجمة مرادفة للمصطلح الفرنسي communication، وهما وإن تقاطعا في الجذر والدلالة لا يفيدان الترادف، وذلك لاختلافهما في البنية الصرفية. فالتواصل مصدر، ومنه الفعل المزيد "تواصل" على وزن "تفاعل"، وهذه الصيغة الصرفية تدل على اشتراك طرفين أو أكثر في إنجاز الفعل في وقت واحد. فالأول يعتبر مرسلا والثاني مستقبلا، وحسب الشروط المقامية قد يصبح المستقبل مرسلا والمرسل مستقبلا وبذلك يحضر التخاطب والتفاعل بينهما. أما الاتصال فهو مصدر للفعل المزيد "اتصل" الوارد صرفيا على صيغة "افتعل"، وهو لا يفيد الاشتراك لأن الفاعل المنجز للحدث طرف واحد فقط. فالتواصل إذن لا يعني الاتصال، لأنه ذو طبيعة خاصة ويأتي في مرحلة ثانية بعد أن يتم الاتصال الذي هو أعم وأشمل، أي أن التواصل جزء من الاتصال ولا يتحقق بدونه. وكثيرة هي المواقف والوضعيات التي يتحقق فيها الاتصال دون ان يتحقق التواصل بفعل التشويش أو المعيقات التواصلية التي تتأثر بها عناصر العملية التواصلية.

والتواصل على المستوى الاصطلاحي يستخدم بمعان متنوعة تتدرج من التفاعل بين الأفراد إلى استخدام شبكات الاتصال التكنولوجية، ويحدث عندما يتبادل الأفراد المعلومات، أي عندما يدرك بعضهم بعضا ،وعندما يتبادلون الرسائل فيما بينهم، ولا يقتصر ذلك على الجانب اللفظي فقط بل يتضمن الإيحاءات والإشارات والمظهر وأوضاع البدن...

وقد ذهب" كارل كولي" عالم الاجتماع الأمريكي ورائد علم النفس الاجتماعي إلى أن "التواصل هو الميكانيزم الذي بواسطته توجد العلاقات الإنسانية وتتطور. إنه يتضمن كل رموز الذهن مع وسائل تبليغها عبر المجال وتعزيزيها في الزمان. ويتضمن أيضا تغييرات الوجه وهيئات الجسم والحركات ونبرة الصوت والكلمات والكتابات والمطبوعات والقطارات والتلغراف والتلفون وكل ما يشمله آخر ما تم في الاكتشافات في المكان والزمان".

يبدو من خلال هذا التحديد أن التواصل خاصية طبيعية وعملية اجتماعية تربطه بالإنسان منذ ولادته وبالمجتمع منذ نشأته، وضرورة من ضرورات استمرارية الحياة الاجتماعية، وجوهر بناء العلاقات الإنسانية وتحقيق التكامل الاجتماعي. فهو من جهة يقوم بوظيفة نقل الرموز الذهنية وتبليغها بوسائل لغوية وغير لغوية، ومن جهة أخرى، يؤدي وظيفة تأثيرية وجدانية تقوم عليها العلاقات الإنسانية. وأساس هذا التواصل التشارك والتفاعل، أي أنه يكون مقترنا بفعل في الاتجاهين معا، فإذا بادر المرسل إلى خلق العلاقة التواصلية باللفظ أو بغيره، فعلى المقصود بتلك المبادرة أن يسعى إلى المشاركة من خلال إظهار استعداده وإصدار ردود أفعال تؤشر على توفر شرط الاستقبال. فالفعل التواصلي إذن يقوم على تبادل أدلة وبنى ذهنية ومعان ومشاعر وأحاسيس وتجارب وخبرات ومواقف، في إطار من التشارك والتفاعل، شريطة توفر قصد الإرسال لدى الباث وقصد الاستقبال لدى المتلقي، وإلا ضاعت الرسالة وتعذر تحقيق الغرض الأساسي منها.
وقد أشار "ميد" إلى أن المبدأ الأساسي في التنظيم الاجتماعي هو التواصل الذي يؤدي إلى المشاركة مع الآخر، وهذا يتطلب أن يظهر الآخر استعداده، وهذه المشاركة تكون ممكنة بواسطة نوع التواصل الذي يحققه الإنسان. ويؤكد أن المشاركة تكون سابقة منطقيا وانطولوجيا عن التواصل اللفظي، وأنها تعبر عن الاتجاهات الاجتماعية والإنسانية الأساسية التي يمكن اختصارها في أهميتين هما "التعاون والتبادل". فالإنسان يدخل في علاقات تواصلية لا نهائية، لكنه قد لا يكون واعيا بقيمة وأهمية الممارسة التواصلية دائما. وكلما كان هذا الوعي مترسخا لدى المتواصلين كان السعي إلى التبادل والتعاون حثيثا.

والجدير بالإشارة هنا إلى أنه في عملية التواصل ينبغي أن تكون العلامات والدلالات التي تثيرها الرموز لدى المرسل إليه متماثلة مع المعاني والدلالات التي تثيرها لدى المرسل، وإذا لم يتحقق ذلك يصح القول بأن التواصل بينهما تعذر، لأنهما لم يشتركا في الأفكار إثر انتهاء عملية التواصل. فالمتكلم حين يصدر الكلام تكون له غاية من وراء ذلك، أي أن له هدفا يريد تبليغه للمخاطب، والرسالة تكون حاملة لدلالات، فإذا لم تحدث أثرا قي الفرد المتلقي تكون المشاركة غير متحققة.

وتتأكد أهمية التواصل من خلال النظرية السيكولوجية التي اقترحها "ابراهام ماسلو" سنة1943، المتخصص في علم النفس التحليلي، وهي خلاصة ملاحظاته للمرضى الذين كانوا يترددون على عيادته. ويرى فيها ان الناس عندما يحققون احتياجاتهم الاساسية يسعون الى تحقيق احتياجات ذات مستويات أعلى. وذهب الى ان كل شخص نشأ في بيئة لا تشبع حاجاته، من المحتمل أن يكون أقل قدرة على التكيف في حياته وعمله. وقسم تلك الحاجات الانسانية الى خمس، تنتظم في تدرج هرمي يمكن توضيحه فيما يلي:

 الحاجات الفيزيولوجية: وتمثل قاعدة الهرم، وهي أهم الأشياء الأساسية بالنسبة للإنسان من طعام وشرب ومسكن، وهي التي يمكن ان بوفرها العامل من خلال راتبه الذي يتقاضاه.
- الحاجات الأمنية: بعد إشباع الحاجات الأولى يتطلع الإنسان الى بيئة عمل خالية من الأخطار ومتسمة بالاستقرار.
- الحاجات الاجتماعية: وتعني حاجة الفرد العامل إلى الانتماء عن طريق خلق علاقات صداقة والحصول على رضا الآخرين ونيل قبولهم.
 الحاجات الى التقدير: أي كسب احترام الآخرين وتقديرهم والرغبة في الظهور بمظهر يحظى بالسمعة والاحترام وتحقيق مكانة متميزة ثم النجاح في العمل. ولهذا فالمسؤولون الذين يحفزون العمال او الموظفين من خلال التركيز على حاجات التقدير تتحقق اهداف مشاريعهم.
 حاجات تحقيق الذات: وهي تمثل قمة الهرم، وتعني حاجة الفرد الى توفر الظروف التي تساعد على إبراز قدراته على الخلق والابتكار وتحقيق النجاح حتى يشعر بوجوده وكيانه.

وأشار "جورج روسو" و"جنفييف روسو" إلى أننا ونحن نستعرض حاجاتنا الضرورية، نادرا ما نجد التواصل من بينها، علما أن هذا البعد حيوي ومخصص للجنس البشري، " فهو حيوي إلى درجة أننا ننسى ذكره، فالتواصل، على الحقيقة، هو التعبير عن الحياة". والباحثون والمهتمون بمجال التواصل أكدوا على أنه حاجة أكثر أهمية لا غنى للفرد عنها إن أراد إشباع الحاجات الأخرى . والحاجة إلى التواصل لا تهم فقط العامل أو الموظف، بل تهم كل كائن بشري، لأنه بعد من أبعاد الشخصية الإنسانية، ويوجد داخل الذات ويشكل جزءا من تكوينها وممارستها وما تجسده من أفعال وردود أفعال. وهو بهذا كله يكتسي فعلا سمة الضرورة والحتمية.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح لتوسيع الرؤية، كيف نظر علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة لهذا المكون الحيوي؟

أ- المنظور النفسي

يعتبر التواصل علاقة وجدانية تفاعلية ذات آثار ايجابية على الصحة النفسية للأفراد والتوازن العاطفي للمجتمع، وإذا لم يتحقق تكون له آثار سلبية على الفرد والمجتمع على السواء. فالتواصل إذن هو علاقة بين الأفراد وبدونه تصبح الحياة الاجتماعية مستحيلة. وهذه العلاقة تعني عملية نقل انطباع أو مشاعر أو تأثير أساسها الكلام أو الحواس. وخلال العملية التواصلية لابد من إثارة انتباه المستقبل ومراعاة حالته النفسية والظروف المحيطة به ومدى ارتباط الرسالة بحاجاته النفسية وبالقيم والمعايير الاجتماعية. ويسوق سيلامي Sillamy في هذا السياق مثل الفصامي الذي فقد القدرة على التواصل مع الغير، فانزوى داخل عالمه الخاص فصار غريبا على مجموعته وهو بذلك يحتاج إلى أن يحجز في ملجأ.
وغياب التواصل يعني حضور العزلة، وهذه العزلة هي الانفصال الذي يمثل الاستثناء، ويعتبر مكونا أساسيا قد يأتي على تدمير الشخصية بما تحمله من إحباط وقلق وتمزق ومعاناة، سيما إذا كان اضطراريا. وهو يشمل التأثر الذاتي بين الفرد وذاته، ويتمثل في الشعور والوعي والتخيل والتفكير وغير ذلك من العمليات النفسية الداخلية، كما يشمل التواصل بين فرد وآخر من خلال الحديث والتفاعل، وينعكس ذلك كله في تحقيق التوازن النفسي والتوافق مع المجتمع، ويعد من العمليات الخارجية التي يعبر بها الانسان عن ذاته.

ويتأكد الأثر السيء للانفصال أو فقدان التواصل من خلال ما وضحه الطاهر بن جلون في معرض تحليله لوضعية المهاجرين الذين قصدوا فرنسا في فترة السبعينات وما بعدها دون أسرهم، حيث أبرز أن من بين أسباب شقائهم النفسي، الذي يبدو لديهم في شكل اضطرابات جنسية وصحية، غياب الصلة والحنان، أي "حاجتهم إلى الحنان وافتقارهم إلى العلاقات الإنسانية والنقص في الحب، والوحدة وفقدان التواصل ونقص المداعبات..."

من هنا تتبين أهمية التواصل ودوره الحيوي في ضمان التوازن النفسي والعاطفي لدى الأفراد والجماعات، واتضح من خلال المثال الذي سقناه كيف أثر غياب التقدير والحب والحنان في البناء النفسي للمهاجرين وامتد ليشمل علاقتهم بمحيطهم الاجتماعي.
وقد أظهرت تجارب في الولايات المتحدة الأمريكية أجريت على القردة أن حال الكائنات الحيوانية لا يختلف عن حال الإنسان في هذا الإطار (التواصل في بعده النفسي)، حيث تم فصل أحد صغار القردة عن أمه وتعويضه بأم اصطناعية محشوة بالقش. ولما اقترب الصغير منها لم يتلق منها أية إشارة تفيد بأنها حية من مثل اللمس والمداعبة والاحتضان، فغضب منها وساءت علاقته بها فصار ينتقم منها من خلال ضربها ونتف شعرها، لكن دون رد فعل، ولما يئس وسيطر عليه الاكتئاب انعزل في ركن وامتنع عن الشرب والأكل حتى مات.
ب-المنظور الاجتماعي
ينظر علماء الاجتماع الى التواصل رغم ما يوجد بينهم من اختلاف وتفاوت في تعريفه، على أنه ظاهرة اجتماعية تساهم في ضمان تماسك وتلاحم العلاقات الاجتماعية. إذ لا يمكن لأية جماعة إنسانية أن تنشأ وتعيش وتستمر دون وجود علاقات بين أعضائها. فهو الوسيلة الداعمة لبناء وتنظيم واستقرار أو تغيير الحياة الاجتماعية القائمة في أصلها على التواصل. والإنسان لا يمكنه أن يعيش بدون تواصل، فهو ينخرط في علاقات اجتماعية متنوعة وغير نهائية، بشكل مباشر أو غير مباشر، باللغة أو بغير اللغة. وخلال هذه التواصلات اللانهائية تصدر عنه أفعال وردور أفعال، في شكل مشاعر أو اتجاهات وجدانية أو سلوكات وأفكار ...فالتواصل بهذا المعنى هو أحد الظواهر الاجتماعية التي تقوم على التأثير في المواقف والاتجاهات والقيم وأنماط السلوك والتفكير.

وتؤكد النظريات السوسيولوجية بأن التواصل نسق من الأنساق الاجتماعية الفرعية التي تتأثر وتؤثر في طبيعة البناء والنظم الاجتماعية الأخرى. وهذا يعني أنه يرتبط بتبادل القيم وغيرها بين الأفراد والجماعات والتفاعل بينهم وإدماجهم في ثقافة وهوية المجتمع ومن ثمة المساهمة في بنائه على المستويين السياسي والمدني.

والملاحظ أن جميع المعطيات الاجتماعية التي تعكس أشكال التفاعل الاجتماعي من مثل التعاون والتنافس والصراع والتوافق ... هي عمليات تتم عبر الفعل التواصلي الدينامي. كما أن الثقافة في علاقتها بالحياة الاجتماعية للأفراد والجماعات وباعتبارها أحد أبرز العوامل في تشكيل وظائف البناء الاجتماعي تتأثر بعامل الفعل التواصلي والعمليات التواصلية. فالمشاركون في التواصل " يرتبطون بتراث ثقافي يستمدون منه بعض العناصر ويعملون على تحديدها. ولذلك فإنه من الزاوية الوظيفية للتفاهم يعمل النشاط التواصلي على نقل وتحديد المعرفة الثقافية، ويقوم بوظائف الاندماج الاجتماعي وخلق التضامن. أما من زاوية التنشئة فان النشاط التواصلي يقوم بدور تشكيل الهويات الفردية".
وان الحديث عن الاندماج الاجتماعي يدفعنا إلى استعراض رأي الفيلسوف هابر ماس الرائد في الفلسفة النقدية الألمانية المعاصرة، حيث يتناول مسألة التواصل من منظور السوسيولوجيا بوصفها فعلا اجتماعيا. وهو في ذلك" يفرق بين تناول التواصل من منظور الفاعل للتواصل وبين تناوله كما لو كان فعل حوار أو تحاور تتدخل فيه أطراف متعددة".
والواضح أن علماء الاجتماع يرجع إليهم الفضل – بحسب هابر ماس-في بلورة المنظور الجديد للتواصل بقوله:" إن تحول المنظور الذي انتقل من الفعل الغائي إلى الفعل التواصلي بدا مع "ميد" و"دوركايم"، فهما إلى جانب " ماكس فيبر"، ينتمون إلى جيل المؤسسين للسوسيولوجيا الحديثة".

في هذه الفقرة ينتقد "هابر ماس" بعض النظريات الاجتماعية ويصف تناولها للفعل التواصلي بالقصور، ومن ذلك النظرية الوظيفية التي بقيت حبيسة مفهوم الفعل الغائي الموجه باعتباره أحد أهم مرتكزات التصور الفلسفي الأرسطي. والأفعال التي يقصدها "هابرماس" هي تلك الأفعال التي تكون فيها مستويات الفعل بالنسبة للفاعلين المنتمين إلى العملية التواصلية غبر مرتبطة بحاجيات السياسة، بل مرتبطة بأفعال التفاهم. وهذا التفاهم لا يمكن أن يتحقق إلا بواسطة اللغة التي تعتبر في نظره عاملا مهما لفهم العلاقات التواصلية. ولتأكيد هذا التصور إزاء الفعل التواصلي الذي يقود إلى فهم أفضل للعلاقات الاجتماعية، ميز هذا الفعل التواصلي عن غيره من الأفعال الأخرى، فهو لا يسعى للبحث عن إمكانيات التأثير في الغير، بقدر ما يبحث عن الكيفية التي تحقق التفاهم والتوافق المتبادل دون إكراه.
والملاحظ من خلال هذه الخلاصات أن عنصر التفاهم هو المتغير الأساسي والغاية المثلى للفعل التواصلي، ولا يتحقق إلا بشرط عدم تأثير طرف على آخر، لأن التأثير عنصر ناتج عن الإكراه. فالتفاهم هو رديف للفعل التواصلي يهدف إلى الاتفاق/الإجماع. ولابد في هذا السياق من توافر شروط الحجاج خلال الاستعمال اللغوي ضمانا لتواصل كامل. واعتبر أن اللغة اليومية الطبيعية هي عماد كل تواصل اجتماعي. ولضمان التفاهم خلال الممارسة التواصلية اليومية أكد على ضرورة القيام بالمهام التالية:

وصف الأشياء بواسطة اللغة.

التعبير عن مقاصد المتكلم.
تأسيس علاقات بيذاتية بين المتكلمين المتحاورين.

وانطلاقا من هذه الشروط وغيرها ينظر إلى اللغة في بعدها التواصلي التداولي لا في بعدها المعرفي.
ج-المنظور الفلسفي
إن الخطاب الفلسفي القديم لم يطرح قضية الغير في علاقتها بالأنا كما طرحتها الفلسفة الحديثة، بل تناول مفهوم الغير وناقشه في إطار تصورات منطقية وانطولوجية صرفة. ولم يناقش خصوصية الذات ومستوى وعيها بمكوناتها الفردية وكينونتها الوجودية والأخلاقية في حضور الغير أو الشخص الآخر.

وإننا نسعى في هذا الإطار إلى تحديد مواقف بعض الفلاسفة المحدثين من الغير، في محاولة لضبط العلاقة التواصلية بين الأنا والغير. وباستقرائنا لآراء هؤلاء، اتضح أن ثمة موقفين أساسيين متناقضين من وجود الغير:
فالفيلسوف الفرنسي " ديكارت " مؤسس الفلسفة الحديثة يرى أن الغير في إطار فلسفة الكوجيطو، ليس ضروريا بالنسبة للأنا التي هي الأساس في المعرفة، أي العيش بمفردها في استغناء تام عن الآخر. وبذلك فالغير خاضع للشك والاحتمال، والأنا موجودة يقينيا، وضرورية أنطلوجيا. ويذهب الفيلسوف الألماني "هيجل " إلى أن الوعي هو أساس وجود الغير. وتقوم نظريته "جدلية السيد والعبد" دليلا على ضرورة هذا الغير بالنسبة لوجود الأنا والذات على حد سواء. فالعلاقة بينهما علاقة سلبية قائمة على العدوان والصراع الجدلي. فالعبد والسيد، في نظره، يحاولان تحقيق وجودهما من خلال الصراع الجدلي لتفادي الموت والاندثار. فالسيد لا يمكنه الاستغناء عن العبد، والعبد لا يستطيع الاستغناء عن السيد، وهذا الصراع الجدلي هو الذي يفرز اجتماعيا وطبقيا ثنائية السيد والعبد.

ويعتبر الفيلسوف الوجودي " جون بول سارتر" بدوره الغير بأنه ممر ووسيط ضروري للأنا على مستوى المعرفة والإدراك، لكنه جحيم انطولوجي وعدم سلبي، وبذلك فالعلاقة بين الأنا والغير مستحيلة وغير ممكنة ما دام هذا الغير متطفلا على الذات، فهي قائمة على الصراع والعدوان، ففكرة الصراع مع الآخر في نظره هي محور الوضع البشري. وعن ذلك عبر في كتابه "الوجود والعدم" بقوله:" أنا، والآخرون إلى الجحيم".

وبالمقابل يرفض" ميرلوبونتي" الطرح الفلسفي القائم على استحالة العلاقة بين الأنا والغير، ويعتبرها ممكنة بينهما وإيجابية وقائمة على التواصل والتعاون والإخاء، وهذا التواصل يتأسس في نظره على اللغة باعتبارها الأداة المحققة للتعارف بين الذات والغير. فهذا الغير ضروري بالنسبة للذات لتتكيف مع الوجود سلبا أو إيجابا.

ويؤكد هذا التصور ما ذهب إليه "ماكس شيلر"في كتابه " التعاطف، طبيعته وأشكاله". فالغير ضروري للأنا، والعلاقة بينهما إيجابية وممكنة وقائمة على التعاطف الكلي البناء والعطاء الوجداني المثمر والتشارك الفعال والتعايش المستمر. وهو بهذا يرفض كل علاقة قائمة على الحقد والكراهية والإقصاء والتهميش والتغريب، فالغير يستحق من الذات النظرة الكلية المحترمة الموحدة، النظرة التي يلتحم فيها الداخل بالخارج والجسم بالروح والظاهر بالباطن دونما تجزيء أو تقسيم مصطنع.

وفي إطار أعم وأشمل، يشير "مارك جيوم" إلى أن العلاقة بين الأنا والغير أو الذات والآخر أو بين ثقافة وأخرى، لا تقوم على النبذ والإقصاء والتهميش والتغريب والصراع والحرب والعداء، بل تقوم على الحوار والإنصات والتسامح والاحترام والتقدير المتبادل. وفي انسجام مع ذلك يؤكد " كلود ليفي سراوس" على أن العلاقات بين المجتمعات ينبغي أن تقوم على التكامل الثقافي بدلا من صهر ثقافة الآخر في ثقافة الأنا، أو مسخ حضارة الآخر وتغريبها وطمسها ومحاربتها والقضاء عليها. فمن حق الشعوب أن تحافظ على استقلالها وهويتها الثقافية وأن تساهم في بناء الكل الثقافي والحضاري.

2-عناصر التواصل

يمكن أن نصنف العملية التواصلية إلى مجموعة من العناصر/العوامل المرتبطة فيما بينها:
المرسل
يحتل دورا أساسيا ضمن عملية التواصل فهوالذي يبعث برسالة أو بمجموعة من المعلومات تحمل دلالات أو معاني بهدف إحداث أثر لدى المرسل إليه كتغيير أو تعديل فكرته أو سلوكه أو اتجاهه أو موقفه ...، ويمكن أن يكون المرسل فردا أو فردين أو أكثر أو جهازا من الأجهزة الإلكترونية المعروفة التي تقوم بوظيفة الإرسال، إنه مصدر الرسالة، ويتحدد دوره في عملية تركيب وتسنين الرسائل في نظام من الأنظمة اللغوية وغيرها مراعيا مجموعة من العوامل المتعلقة بالشخص المرسل إليه كمستواه الثقافي والمعرفي، وكذا الجانب النفسي. والوضع الاجتماعي والاقتصادي، فهو حامل للإواليات أي المسنن حيث ينتقي من داخل الشفرة أو السنن عددا من العلامات.

المرسل إليه أوالمتلقي أو المستقبل

والمقصود به كل من يتلقى الرسالة ويتفاعل معها ويتأثر بها، وهو الهدف المقصود في عملية التواصل، وشأنه في ذلك شأن المرسل، إذ يمكن أن يكون فردا أو اثنين أو جماعة أو جهازا من الأجهزة الإلكترونية المعروفة الخاصة بالاستقبال، ويمكن له الاستجابة لها أو رفضها، انطلاقا من ميوله واتجاهاته ورغباته، وقد يتخذ موقف اللامبالاة من الرسالة ولا يتفاعل معها. ويشترط في المرسل إليه امتلاك قدرة على فك رموز المعلومات المشفرة، وإلا تعذر تحقيق الرسالة لأهدافها.

وهكذا يعتبر المرسل والمستقبل من العناصر الأساس في الفعل التواصلي، وبدونهما يكون من الصعب معرفة ما يجري داخل عقول الآخرين .وهما معا يتحملان، على قدر متساو، مسؤولية نجاح أو فشل العملية التواصلية .فإذا كانا يشتركان في الإطار المرجعي اللغوي والمعرفي والثقافي أو ما يصطلح عليه البعض ب"الخبرة"، فإن التواصل يكون تاما أو شبه تام ،أما إذا اختل هذا الشرط بدرجة من الدرجات فإنه يتعذر على المرسل امتلاك الخبر أو معظمه الوارد في الرسالة، كما يتعذر على المرسل تحقيق التأثير باعتباره الهدف النهائي الذي يسعى إليه، وهو النتيجة التي يتوخى تحقيقها كل قائم بالتواصل. وتتم عملية التأثير على خطوتين، الأولى هي تغيير التفكير، والخطوة الثانية هي تغيير السلوك.
الرسالة:

وهي تمثل محتوى الإرسال وتتمحور حول إطار مرجعي معين وتنسج أبنية، أي أنها تمثل المعنى أو الفكرة أو المحتوى الذي ينقله المصدر إلى المرسل إليه، وتتضمن المعاني والأفكار والآراء التي تتعلق بموضوعات معينة وتنقلها إلى المتلقي وفق القواعد والقوانين المتفق عليها. إنها بمعنى آخر تجسد أفكار المرسل في صور سمعية في الخطاب الشفوي، أو علامات خطية في الخطاب المكتوب، أو إشارات وحركات عديدة إذا كانت الرسالة تندرج ضمن التواصل غير اللفظي. وإن المعلومات التي يرسلها المرسل عبر الرسالة تحيل على المرجع العام المشترك بين المرسِل والمرسَل إليه. ويتجلى الفرق بين رسالة وأخرى من خلال هيمنة كل وظيفة من الوظائف الست وحسب القصد من التواصل والحيثيات التي تشمل العملية التواصلية في عمومها.

المرجع:

يمثل الموضوع الذي تتمحور حوله الرسالة، أي ما يتحدث عنه طرفا التواصل. و"ينشأ نتيجة تطبيق إجراءات تأسيس محدَّدة وفق بروتوكول مقبول بالإجماع، ونتيجة وجود إمكان متاح لأيِّ كان من أجل متابعة هذا التَّطبيق متى عنَّ له ذلك". إنه بشكل عام ما يُتحدث عنه من موضوعات العالم.

الوسيلة أو قناة التواصل:

وتعرف بأنها الأداة التي من خلالها أو بواسطتها يتم نقل الرسالة من المرسل إلى المستقبل، وتختلف الوسيلة باختلاف مستوىات التواصل والوسائل المستعملة من قبل المرسِل والمرسَل إليه، مثلاً: النُّور يشكل قناة التواصل البصري، أما الهواء فيشكل قناة للتواصل الشفوي وجهاً لوجه، بينما الكهرباء والكيمياء فهما قنوات للَّتواصل الآلي. وفي التواصل الجماهيري تكون الصحيفة أو المجلة أو الإذاعة أو التلفزيون. وهكذا فلكل عملية تواصلية قناة ملائمة ومحددة. وقد تتعرض القناة لبعض المعيقات والتشوهات نتيجة الخلل الذي قد يصيبها، مثل الكتابة غير الواضحة، والظروف المناخية غير المناسبة والأصوات الخارجية التي لا يمكن لأطراف التواصل السيطرة عليها.

6-السنن:

هو مجموعة من العلامات والقواعد المؤلفة من هذه العلامات التي يمتح منها المرسل لتكوين رسالته ويعمل المرسل إليه على التعرف على نسق العلامات ذاك. وبهذا يميز جاكبسون بين مستويين للغة: الاول يتعلق باللغة الموضوع، والثاني يرتبط بما وراء اللغة أي باللغة الواصفة للغة، وهكذا فالخطاب حين يركز على السنن يؤدي وظيفة ميتالغوية أي وظيفة واصفة أو شارحة. ويمكن للتواصل بين المتخاطبين أن ينحصر بسبب التفاوت في مستوى اللغة والثقافة، فقد يتعذر في هذه الحال تفكيك الترميز من طرف المرسل إليه.
وهذه العناصر يمكن تمثيلها بالمخطَّط الآتي:

المرجع

المرسِـل
...
الرِّسالة
...
المرسَل إليه

الشَّكل 1: يمثِّل مخطط عناصر عمليَّة التَّواصل حسب جاكبسون

لقد حددنا العناصر المختلفة المتضمنة في سيرورة التواصل: المرسل، المرسل إليه، الرسالة، المرجع، القناة واالسنن. ويطابق كل عنصر من هذه العناصر الستة، في إطار التواصل باللغة، وظيفة لسانية. وهذه العناصر تحضر كاملة في كل تواصل لكن بدرجات متفاوتة، فعنصر الهيمنة هو المقياس الأساسي في تحديد وظائف اللغة في العملية التواصلية. والفضل يرجع لرومان جاكبسون في تحديد وظائف اللغة الست خلال كل فعل تواصلي. إذ يرى أن" الغرض الَّذي نهتم به يتحكم في طبيعة تقسيم الوظائف وتحديدها ".


مشاركة منتدى

  • هذا الموضوع جد مفيد و لهذا يجب علينا الاحساس بالمسؤولية قليلا فلا يجب على الانسان الانغلاق عاى نفسه دون مراجعة العواقب و النظر للامام لذلك التواصل طريقة جيدة لاخراج كل ما في قلوبناو اذهاننا و شكرا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى