الجمعة ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠١٦
بقلم رشا السرميطي

المتخيَّل من مصائرنا هناك "في الرِّواية ربَّما" والباقي الحقيقي هنا

بعد قراءتي لرواية "السَّيدة من تل أبيب" عزمت أن أقرأ رواية " مصائر " للرِّوائي ربعي المدهون، وقد صدرت الطبعة الأولى من الرِّواية التي بين يدي عن المؤسسة العربيَّة للدراسات والنَّشر- بيروت 2015. يذكر أنَّها الرِّواية الفائزة بجائزة البوكر للعام 2016 تلك الرواية التي تقع في (266) صفحة من الحجم المتوسط، حملت بين دفتيها مصائر – فكان الفلسطيني، اليهودي، الانجليزي، والرُّوسي- مسالمين ومستسلمين يمرون عن مصائرهم بهدوء وأمل، لعلَّهم يلتقطوا ما تبَّقى لهم من حياة ممكنة على الأرض التي يختارونها بملء إرادتهم، باستثناء الحرب القائمة حتَّى الآن، بتغاض عن شلالات الدِّماء الدَّافقة، وتلك الأجيال التي تكبر مقتاتة بكسرات خبز مغموسة بالدَّم والقهر على انتحار الحب، حب الحياة بالتأكيد، تختار الرِّواية لشخصيات أبطالها " مصائر" تليق بأوجاعهم، كمشهد من أرق ترسم رواية " مصائر" حال المنهكين بتاريخهم وحلمهم الواهن الذي يتبدَّد على أثير الأصوات المتعالية من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وربما هي صياغة واقعيَّة لحقيقة الحدث هناك.

يتضِّح للقارئ منذ الصَّفحة الأولى بعد العنوان، ما كتبه ربعي المدهون كشيفرة للسِّر من الحركة الأولى:" إلى السيِّد " باقي هناك" المتخيِّل، وكل من بقي هناك في الحقيقة". مايتضِّح لاحقًا بأنَّ ما قدَّمه الرّوائي مجرد تخيُّل لواقع ربما يحلم به ككاتب وإنسان متعب من ملامح الواقع القائم منذ سنوات على أرض النِّزاع "فلسطيننا" الحلم المتمنى لكل فلسطيني أصيل.

يتجسد أبطال الحركة الأولى للاعداد لهذه المعزوفة التي عنونها الروائي ببراعة، فاختار:"مصائر"، والذي بعد قراءتي لها، تمنَّيت لو كان عنوانها " مصائرنا "، بحضور الشَّخصيات: جولي زوجة وليد دهمان، والدتها " إيفانا" الأرمنية العكاوية التي تزوجت جون البريطاني، جميل حمدان العائد من زمن يساري النَّكهة من موسكو، وزوجته اليهودية الرُّوسيَّة لودميلا، ويليم باير وزوجته لين، الشاعرة اليهوديَّة ليا بورتمان وصديقها كواكو. وفكرة إيفانا المثيرة بحرق جثتها بعد الموت وحمل حفنة منها لتكون في تمثال داخل مدينة عكا، التي هربت منها في الحرب لأجل الحبِّ، حيث يعدو بنا الرِّوائي في رحلات مكانيَّة تبدأ من عكا عندما تجوّل وليد متعبا بالماضي، يسير بخطوات مبتورة، أرجلها حمص سعيد ومطعم أبو خريستو وبعض تفاصيل غيَّرت أسماءها الأيام وأبدلت ملامحها، بينما كانت جولي تصعد السُّلم إلى بيت سميَّة بلا سلالم، ذاك البيت الذي احتضن ذكريات والدتها إيفانا، وكانت تنفذ رغبتها بوضع التِّمثال الذي يحمل رماد جثَّتها المحروقة، وقد تحول لاحقًا نزلا للسَّائحين في حلمها المتخيّل، لتقضي على كذبة تبرز آخر الرّواية حيث تطردها العائلة اليهوديّة، ولا ترحب بفكرتها حتى باعادة رماد جثة أحد أصحاب هذا البيت الفلسطيني الذي سلب إبان الحرب، وأصبح الآن بقبضة سلطة اسرائيلية-غرباء ويطردوننا من بيوتنا مرتين- على هذه السمفونية توقف الكاتب.

ينعطف المدهون بقارئه فيصطحبه بجولة يقودها الرُّباعي: وليد، جولي، جميل، ولودا لتنتهي رحلة عشرة أيام بفكرة "مصيريّة" تقترح بها جولي أن يبيع زوجها وليد بيتهما في لندن، ويعودان للإقامة في عكا، يأخذنا الروائي ناحية حمام الباشا، أزقة عكا الحميمة، متعكزّا على ما " تبقى هناك" وتتم الجولة ليبلغ الرفقة سوق الخضار القديم في المجدل عسقلان، مسقط رأس وليد دهمان، تبدأ خارطة التيه لأربعتهم " وتنبت مصائرهم" مختلفة، ليستدلوا من خلال بقايا الجامع الذي تحول لحانه، وبعض كلمات- أم وليد- عبر الهاتف على يافطة كتب عليها" منزل عروسي"، وهو آخر بيت تبقى في حارة دهمان، يدخلان لتستقبلهم امرأة يهوديَّة تدعى "رومه"، وتبدأ حكاية المكان تنهض العاصفة من رائحة جثث علقت آثارها على الجدران، الأبواب الخشبية، النوافذ الكالحة، الزرافيل، معصرة الزّيتون، جاروشة الحبوب، تفاصيل رغم سرقتها لها واغتصابها، لكنّها لم تستطع أو توَّفق " رومه" المستوطنة أن تتقن الشرح عنها، كيف لا وهي ليست لها، بيت الدهامنه الذي تحوَّل لبيت عروسي، وهنا قسم الروائي اللحظة المتخيلة بعيدا عن الممكن منها واستحالته، فكتب للقارئ عبارة قادرة أن توقظه من حلمه، وتنزل به من سماء غيوم رسمها لأرض وعرة حقيقيَّة يقف عليها:" ودَّعت بيتنا الذي كان بيتنا" وكأنه على يقين بأنّه لم يعد " مصيره " ليكون بيتنا في الحاضر الباقي فينا، يمر وليد في نواحي عسقلان بمساعدة مرشدة سياحية احتلت المكان، فكانت مضللة أكثر من دليل، وأصبح لها موقف يثير جدلا حول نقدها أجرة لقاء ما قدمته من معلومات صادقة وأخرى كاذبة، لقد برع الكاتب في أن ترك النهاية مفتوحة للقارئ حول مخالفتها لقوانين دينها والعمل في يوم السبت، وبين احترامها لذلك وعدم قبول النقد، يغادر المدهون بقرائه بأسطر فضفاضة دون التضييق على أفكارهم بما يفكر " هو " المتأمِّل " بالعودة المجازية " هناك" وإن كانت على متن رواية تحيي كل شيء صامت فينا، نحن " المقيمون هناك " فعليا.

يؤكد أيضا على الجانب الانساني لأي حرب سواء كان ذلك على المنتصرين فيها أم المغلوبين، في صفحة (64):" إن سكان العمارة ليست الحكومة، أو الكنيست الاسرائيلي المتخصص في سن قوانين تعذيب الفلسطينين"، ويكمل:" هذه ليست عودة، أنا لن أعود إلى البلاد لكي أعيش غريبا"، وهنا يبرز موقفه ككاتب من " شبه العودة" في مشاركة الاسرائيلي المغتصب لأرض وبيت وشجرة هو من يملكها وجده من زرعها.

يدخل همسات لودا:" كل فلسطيني بقدر يرجع لبلده، لازم يرجع" وهنا يؤكد الكاتب على ضرورة استمراريّة حلم العودة الذي ورد في الرّواية متخيلا ممكنا، هو أيضا في الواقع مسموح به، وإن تطلب الأمر من ذوي النفوذ والقوى المالية ممن نجحوا على قطع لسان الغربة وذنبها بأن يرجعوا للبلاد، ويشتروا فيها البيوت، ويقيموا المشاريع والمحال مؤقتا في ظل وجود المستوطنين وبحالة من التعايش الإنساني ما بين شعبين تعرض كلاهما لنفس المحرقة! هل حقا كانت نفس المحرقة؟ لم تخل الرحلة من سردية مفعمة بالمزاح أضفت على النص نكهة رشيقة حملت القارئ على البكاء والضحك في آن.

الحركة الثّانية " فلسطيني تيس" وهي الحركة المتممة للأولى ولا تنفصل عنها، رغم اشارة الكاتب بأنّ الحركات الموسيقيّة منفصلة، وجدتني أكمل السيمفونية المؤلمة بدلالة شيفرة السّر للحركة الأولى:" إلى السيّد " باقي هناك" المتخيّل، وكل من بقي هناك في الحقيقة". والتّيس هو الغبي والجاهل في المعجم الوسيط، والتيس عند العرب رمز للحيوان البريء المملوء بالسّذاجة أحيانا، وهو المنساق خلف القوم ليس انقيادا، بل تبعية وإمعة (معهم على الخير، ومعهم على الشّر) ومن هذا الشّح المبسط نستشف رؤية الكاتب الحر بفكره وقراءة الواقع الفلسطيني الذي مرت به البلاد منذ 48 و 67 حتى يومنا هذا، يأخذنا الكاتب ما بين طرافة الطرح لرواية تكتبها جنين اليافاوية، ويقرأها وليد دهمان الغزي المقيم في بريطانيا، وتتخلل أحداثها قصة باسم التلحمي، وذاك " التيس" الذي لم يكن تيسا يلحق ببقية قومه ويهاجر، بل رجع، يلف بنا الرّوائي ربعي المدهون في دائرة إنسانية مضنية جعلت الفرقة والاحتلال تبني جدرانها وحواجزها حتى في منظومة حياتنا العاطفية والاجتماعية، ليغدو الحب هشّا ضعيفا لا يقو على فك القيد، ويكون ضحية اختلاف الميلاد والوثائق الشخصية التي تؤهلنا للإقامة في وطن متفتت ومتشتتة أنحاؤه، وهنا تتجلى لدى المدهون ببراعه تيه " الهوية" وضياع " الأنا" جنين وباسم يفترقان لأنّ بيت لحم ذراعها أقصر من أن تضم فتاة يافاوية، ولأن يافا ضاقت على أحلام رجل تلحمي، ينفصلان في الرواية، ويبقيان معًا " تيك أويه" فتقيم هي بيافا، ويقيم هو في بيرزيت، ويلتقيان كلَّما جمعتهما المشاعر على وجبة جائعة من الحب، الشوق والاقتراب ربما.

جنين ابنة محمود دهمان الباقي هناك في الرملة بعد ضياع الدهامنة في المجدل وعسقلان، تتعرف لشاب اسمه باسم في المهجر، يتزوجان، وما إن تلوح الفرصة لهما حتى يعودا إلى يافا، تتعب جنين كادحة لبناء حياة أليفة تجمعهما على أرض الوطن الحلم الذي عادا إليه في الرواية، ويتعب هو من عراقيل الاحتلال ووزارة الداخلية المتلظية بأوامر إيالا الموظفة الاسرائيلية في الرواية أيضا، وبالواقع تحديدا الذي جمعهما " هناك"، تدور صراعات وقوافل من حيرة فكرية في فضاء هذا الجزء من الرواية ما بين العرب الباقين هناك- في فلسطين الحلم المتخيل للعودة، وما بين الإسرائيليين الذي احتلوا هناك- أيضا في حلم متخيل أن يخرجوا من هناك- وما بين الفلسطينيين المهجرين الحالمين بالعودة إلى هناك، والساخطين على الباقين هناك، الفلسطيني المنكوب يبدأ بالتّكسر والانشطار، ضفة، غزة، فلسطين 48 والقدس التي تخضع لسيطرة اسرائيل كقوة سيادة، كثيرة من التهشمات الفكرية الاجتماعية والانسانية تنتشر في أسطر الرواية هنا، يمر عنها الكاتب فاتحا الأبواب، متصديا لها غير خائف من الفلسطيني اللائم، ولا الاسرائيلي اللائم أيضا، يقرأ الواقع من منظوره الفكري ككاتب حر بما لديه من أفكار، لا يرغم قارئه على قبولها، لكنه يعلنها، كساخط أحيانا، وكمستسلم لواقعية الفكرة في أحيان أخرى، ينبش قبو الجد والجدة ويمسك المفتاح، يضمه حينا، ويرمي به حينا آخر مفزوعا، تلوكه الحيرة بأضراس الممكن، المسموح، والمستحيل.

الفنانة الاسرائيلية – بات شالوم تمثل صورة اليهود العاديين الحالمين بحياة هانئة بعد الاجرام الذي تعرضوا له من النازية، وبذات الوقت ندموا على الهجرة لفلسطين التي تسمى اسرائيل ضمن قيادتهم وسلطتهم، فهي لم تؤمن لهم سوى حياة القلق والخوف وعدم الأمان في مكان هم يعرفون بأنه ليس لهم. باقي هناك الذي عرفت لاحقا بأنه والد جنين وقد استعارت شخصيته لبناء روايتها " تيس فلسطيني " لم يكن التيس الذي سار وراء قبيلته، كالمعزة السوداء خالف، فاختلفت مقاديره، واختلفت نظرة الآخرين من أبناء جلدته له، تارة رأوه المناضل الباقي هناك، وتارة اعتبروه الخائن الباقي هناك أيضا ليعيش اسرائيليا، لكنّه بكلتا الحالتين كان " الباقي هناك" وكأنّ الكاتب المدهون هنا بالتحديد يريد أن يرفع جلدات اللوم عن أبناء الشعب الفلسطيني في مناطق 48 التي يتلقونها من الإسرائيليين ومن الفلسطينيين في غزة والضفة والقدس، وما أحوجنا لهذه الوقفة التساؤلية التي تلقي سهامها في أعين القارئ، بسمفونيّة: ترى هل كان المهاجرين في الحرب " فلسطينية تيوس " ؟ ويبدو جليّا بأنّ المدهون ينحاز في آرائه ككاتب للباقين في البلاد، يقول:" طب هو اللي باقي في البلاد مش أحسن ألف مرّة من اللي هاجر ودشرها".

تتضح مناصرة الكاتب لقضايا المرأة فقد كانت غزيرة في الرواية، وفتح عدة أبواب مقفلة بكمكة الأفواه والعيب والممنوع، يتطرق لقصص النساء اللواتي يتعرضن للقهر والمذلة والقتل تحت ذرائع جرائم الشرف والعادات والتّقاليد، فلا العلم ينجي، ولا الثقافة تنقذ الفتاة الشّرقية من مجتمع القبيلة وتخلف الذّكر الذي لا يراها نصف المجتمع بل وتكمله. ويتطرق أيضا لقضايا المرأة من جديد، حيث ظلم الميراث من خلال عائلة باسم وتقسيم الإرث في بيت لحم، يقول:" كل شي بتملكيه رح يروح لغريب" وكأن الصهر الذي احتضن بنت العائلة يبقى غريبا في الملك رغم تقديم العائلة له أغلى إرث وهي جنين بالرواية. كما يطرق باب الخرافة وكلمسة ممازحة دائمة طغت على أحداث الرواية؛ ليتطرق لقصة التطهير وقلي المطهر منه كشعوذة لتنجب المرأة ذكرا، ولا أدري مدى استخدام هذه الخرافة بالمجتمع والزمن الذي كتب عنه المدهون روايته "مصائر".

يستشهد بما كتب على قبر اميل حبيبي:" باق في حيفا" وهي هذه الرسالة يؤكد على موقفه كفلسطيني وإن كان مغتربا من البقاء على الحلم والإيمان بحتميّة العودة، مهما طال انتظارها في محطات فشل الانتصار الفلسطيني، ويتابع وليد دهمان بطل روايته فيقول على لسان مقوّله:" اسرائيل اللي شايفاها يا جنين مرحلة عابرة في تاريخ فلسطين" ليؤكد مرتين موقفه. مابين الحياة الافتراضية والواقع الحقيقي والحياة التي نتخيلها تخرج جنين من أحداث روايتها " فلسطيني تيس" بعد مرور وليد دهمان على أحداثها، يؤكد أيضا الكاتب موقفه من هجرة الفلسطين بما قالته جنين عند رفضها لباسم ترك يافا، وتقول:"إن من جر والدها إلى هجرته هي تياسة الآخرين، لم يتحمل محمود دهمان الذي لم يكن وقتها " باقي هنا" هجرته أكثر من شهرين" حتى نزح للرملة تاركا امرأته وطفلتها ذات الشهرين (غزّة)، عاد ليصبح " باقي هناك" الرواية ويبقى هناك في الحقيقة.

أسس فرعا اسرائيليا للدهامنة! جملة أرعبتني عندما قرأتها، هل حقا نعتبر من " بقي هناك" وتناسل من أجداد اعتبروا عرب اسرائيل أصبحوا اسرائيلين ذوي أصول عربية فلسطينية؟ تضربني الصَّاعقة فأتذكر بأنّني سمعت هذا الوصف من فلسطيني أعرفه، فأغفر لربعي ما كتبه، لابد سمع ذات التوصيف كما سمعته أنا، يعتصرني الألم عند هذه العبارة لكنّني لا أتدخل كقارئة بوقع صداها في داخلي وداخل كل عربي فلسطيني يقيم هناك، لا نعمِم المتخيّل، ولا الحقيقي أيضا. يتكرّر الوصف في صفحة (226) يقول الكاتب على لسان وليد دهمان:" أنا فلسطيني بريطاني"، أتساءل: لأنّني مقيمة بالقدس، وأحمل بطاقة شخصية اسرائيلية، هل أعرّف نفسي نابلسية اسرائيلية مقيمة في القدس من أصول فلسطينيّة!!! توترني الفكرة رغم دهشتها، لكنّ الأوراق غالبا هي من تعرِّفنا وتسمح لنا وتمنع عنّا أيضا للأسف. أما قصة زكريا الذي طرد من الكويت ليبدأ حياة جديدة، ولم يترحم على ماضيه، أو يلطم خديه ويشكو غربته، بل سارع إلى بناء حياة جديدة له ولأفراد أسرته، ليتخلى عن مهنته كمعلم ويصبح طباخا! رأيتها لفته من الكاتب للوقوف مليا على واقع الفلسطينيين والتوقف عن الولولة، ثمة جديّة تتطلب منا أخذ مواقف، وعدم انتظار الآخرين ليأخذوا مواقف نيابة عنا، هل حقًا بهذا الطرح يشير المدهون لضرورة التعايش مع الواقع ونسيان ما يدافع عنه طيلة أحداث الرواية؟ بالتأكيد لا هو يسرد فقط " مصائر" لشخصيات بنيت عليها روايته وربما كانت واقعية أم خيالية أيضًا. خالد الكندي المولود في الكويت ورجع لوطنه غزة ليموت ويقال عن شهيدا اعلاميا كان بمثابة " مصير" يقدّمه لنا الكاتب، شبه الحب الذي عاشته جنين في خمس مرات كانت مجرد وهم وحياة افتراضية لتفاصيل لا تشبهها كأنثى، وما أقساها عندما كادت ترتبط برجل مستعرب اسرائيلي! وآخرها حقيقة باسم المقيم في بيرزيت، هي " مصائر" مازال الكاتب ممسكا بعنوان روايته بعد أكثر من (135) صفحة وهذا يسجل له في الرِّواية.

الحركة الثالثة يختلف بها إيقاع سيمفونيّة المدهون، يتعرّض لموقف النّاس من فوز إيميل حبيبي بجائزة الآداب للدولة الإسرائيليّة، ما بين مؤيد ومعارض، تتبادر لذهني شعلة من الأفكار وأنا .. أفضل كتمانها، يفتح جدليّة حوار آخر بين شاؤول ودهمان ومآل كل منهما حينما تنتهي الحرب ويفوز احداهما، ويفارق بين وجه نظر كليهما، فيترك الأمر مفتوحا لقارئه ليفكر، وربّما يقرر أيضا نتيجه تسبق عالم " متخيل " رسمه الكاتب في حريَّة آفاقه الفكريَّة الشاسعة. يأتي على ذكر الراديو والرسائل التي لم تصل في تيه عن عنوان أصحابها، يمتد الشتات بين أرمل ومطلقة، يزداد الشتات للأردن للسعودية، ولا تلتقي مقادير الفلسطيني سوى في دمعة وهمسة " مصائر".. وترهات على عتبة ممَّرات العبور للبلاد، بأحكام غرباء سلبوا منَّا أحقيَّة سيادة أرضنا، حلمنا، وأمنياتنا العتيقة في " الباقي هناك" من شعب وهويّة.

الحركة الرابعة ينقطع الوتر، وتصدر الآلة نشازات متكرَّرة منها ما أعجبني وما لم يعجبني. إلى حيفا أم إلى القدس، لا أدري! تيه الفكرة، ضعف بعض التفاصيل، رأيتها في الداخل الفسطيني أقوى، ربما وفق الكاتب بدليل من هناك أفضل ممّا وجده بالقدس، وربما لأنّني ابنة القدس وأحبّها وجدت الوصف قليلا عليها، ربما " المصائر" أعجبتني ولم تعجبني أيضا، لقد نجح هذا الرّوائي – ربعي المدهون في اصطيادي وباتت الحيرة تلتف حول أفكاري، تحررها أحيانا، وتقيّدها فتختنق بعض الوقت، بدا واضحًا حب الكاتب لحيفا، كأنّني رأيته منحازًا لجمالها وبهائها، وقد أعجبني وصفه لها، كعروس متمددة من جبل الكرمل وتغسل قدميها بالبحر، وأسعدني الوصف.

من أطرف الأفكار التي " تخيّلها" وليد دهمان المار من هناك، وترجم تفاصيلها ربعي المدهون في رواية " مصائر" فكرة:" بناء متحف" لضحايا الفلسطينيين المعذبين في محرقة دير ياسين". وكأنّ كاتبنا يريد أن يومئ بظل الفكرة لدى الآخر" المستعمر هناك" بأنّ ما جاء بكم " هنا يوما" وأخذتموه " هناك " من أصحابه الحقيقين سيأتي يوم ويتساوى أولاد العم بالحقوق والواجبات، ربما تحت احتلال ثالث لهما فيعيشان أخوة بعد حروب دامية، وعلى رأي المثل الطّريف:" ما محبّة إلا بعد عداوة، بس مش قتل ودم وهتك عرض يا مدهوننا في بعدك المتخيّل. والأطرف حقا نقده لمن " بقي هناك" ويعمل خادما عند اليهود، كم كانت ملاحظاتك دقيقة كاتبنا رغم قصر الزّيارة لكنّك عريتنا أمام أنفسنا على الأقل وإن لم يعترف البعض بذلك. فمعظم العرب يخدمون اسرائيل ويتوه عن الكثيرين الاجتهاد لتقلد أهم المناصب في اسرائيل بحجة التطبيع والتضبيع من الاسم الهش " اسرائيل" برغم اندماجي بالسرد الخيالي هنا إلا أنه مستحيل، أعدك باستحالته ما بعد بعدي بمئة جيل، وتبقى الفكرة حرّة لا يحق لقارئ أن يقيّدها بمفهوميّته وقدرته على تصديقها وتكذيبها تلك القاعدة.
من أشد الأفكار ايلامًا لقارئة مقدسيّة ما كتبه الروائي في صفحة (227) ردا من شرطي يحتل أحد أبواب المسجد الأقصى:" لأ يا أستاذ ما تفهمناش غلط.. احنا بس بنخاف من تسلل المستوطنين والأصولين واليهود.. بتعرف الوضع، كل يوم والثّاني بيحاولوا يقوموا باقتحام". عندما قرأت الأسطر أوّل مرّة صعقت، وحزنت، كيف لذاك الفلسطيني المنتمي طول روايته وفي الحقيقة أن يطوي معاناتنا ومنعنا من الصّلاة بهذه الطريقة المستفزّة لي، لكنّني بعد قراءتها مرات أخرى، بدأت تتوارد لذهني أفكار مغايرة، ربما قصد المدهون من رصد هذا المشهد نمذجة السماح للأجنبي وطريقه محاورته من قبل ذاك الشرطي، فهو لا يعرف أنّه عربي فلسطيني ومن غزة، وزوجته "المتأوئوة" توحي بأجنبيتهما، ثمَّ إنه وبخباثة وذكاء أخذ على الشّرطي اعترافا بتسلل اليهود والأصولين والمستوطنين، يا لك من داهية! ضحكت بعد هذا التّحليل لكنّ ضحكتي لن تمحوها ضآلة مشهد عظيم كهذا، كنت أنتظر الأكبر بحق " المناضل هناك" والمتألم لأجل الصَّلاة " هنا " أيضًا، بعض الإنصاف من زائر وفيٍّ " للباقي هناك – في القدس.

من أروع الأفكار قصة مدينة الفنانين ومشوار وليد وجنين مع مارك:" المدينة التي احتلتها" جنين لتكون " هناك" وتؤسس مكانا لروايتها " فلسطيني تيس" وكأنّه هنا يعود ليستتيس من يفكر بأنّ العودة وامتلاك المكان سهلا على غير كاتب وكاتبة ومساحة من "التخيّل" الذي ينتج كتب، ويقيم الأوطان على الورق، لا أدري شعرت بغرابة هنا، وغربة ربما.. يرفع الكاتب ربعي المدهون الثّقل عن المثقف، فهو ليس القائد، وليست السلطة بيديه، سواء كان كاتبا، فنانا، مسرحيا.. يقول صفحة(254) مارك الفنان الاسرائيلي: أنا لن أحل المشكلة الفلسطينية الاسرائيلية، أنا مارك ( ربما الانسان الفنان) بإضافة من قارئتك مدهوننا.. يكمل: أنا مارك أسألك: هل ترغب في الانتقال للعيش هنا في يافا؟ يافا التي تركها ربعي المدهون غير مصنفه على لسان الاسرائيلي لا هي فلسطينية ولا اسرائيلية، يافا الأرض التي لا تكون جنسيتها تابعة لمن يمتلكها، يا إلهي أي بعد أذهب إليه؟ رحت لأبعد من هول الفكرة، وفهمت كثيرا من الأحداث التي عصيت على ذهني كقارئة خلال بدايتي لحراثة هذه الرواية المميزة التي زرعت كلماتي في قراءتها وأزهرت وردا وشوكا أيضا.

يحتتم روايته ربعي المدهون بقوله صفحة (243): أخيرا أصبح هذا الوطن للجميع"، حتى في حلمه المتخيّل كان منصفا لفلسطين، الوطن الحقيقي هناك، والباقي هناك ينتظر كل فلسطيني أكل من خيرات هذه الأرض واستفاء بزيتونها، ولامس حجارتها، فصلى تحت قبابها وكنائسها. تنتهي الرواية بكشف " مصائر- الحقيقي - الموجود هناك" والوهمي المقيم " في الرواية هناك" أيضًا، وما بينهما اتخذ رحلة بلا تذكرة على قرار مناسب اتخذه وليد دهمان، صعدت روحي معهما (وليد وجولي) إلى الطَّائرة، متعلِّقة بحبال الكلمات القادمة من رواية جديدة، ورحلة أخرى، في القدس سقطت من قلبي دمعة بلّت عنوان الرّواية:" مصائر" أو "مصائرنا" في مجازي المبتكر، أغلقتها، ضممتها إلى صدري، ولم تنته بعد.


مشاركة منتدى

  • رواية تطبيعية انهزامية تنتصر للجلاد وتطالب الضحية بالاستسلام للأمر الواقع، تنفي حق العودة وحق الشعب الفلسطيني في وطنه ولهذا فازت الرواية لأنها دعوة للتطبيع مع الصهاينة وهو موقف الكاتب السياسي، أرجو أن تقرئي ما كتبته رولا سرحان عن الرواية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى