السبت ١٣ آب (أغسطس) ٢٠٢٢

المجلات الثقافية

مجلة (اليوم الأول)؛ عروس من عرائس الثقافة والفكر، تزينت وأشرقت على عقل القارئ المصري في أول يوم من أيام شهر يونية، ومصرنا منذ أن عرفت الطباعة والنشر، لها تاريخ مجيد في عالم المطبوعات الثقافية، والمجلات الأدبية والفكرية، أقول المجلات الأدبية لأنه في الحقيقة لدينا تاريخ عظيم لا يمكن أن نجد مثيلا له في أيٍ من دول الشرق، إلا الشام وتحديدًا لبنان، وإن كان أدباء الشام قد تركوا وطنهم وجاءوا إلى مصر من أجل إصدار الجرائد والمجلات، واستقبلتهم مصر بالترحاب، وصارت وطنهم الثاني، وحققوا نجاحات أدبية عظيمة وجنوا أموالا ضخمة، ويرجع هذا إلى طبيعة الشعب المصري، المحب للأدب، ويتذوقه شعرًا ونثرًا، وهو العاشق لجميع الفنون!

إن المصريين اهتموا بالأدب والفكر، منذ أن إندلعت ثورة ١٩١٩ في كل أنحاء مصر، والتي انطلقت معها الإرهاصات الأولى لعصر النهضة والليبرالية مع بداية القرن العشرين.

عدد لا حصر له من المجلات التي ظهرت وتهافت المصريون عليها، وتركت أثرًا بالغًا في ثقافتهم وغيرت من أفكارهم ورؤيتهم تجاه الكثير من القضايا المهمة وعلى رأسها الاستقلال الوطني ونظرة المجتمع إلى المرأة، وعلاقة المصريين مسلمين ومسيحيين ببعضهم، كما ساهمت هذه المجلات في تطور اللغة العربية والأساليب المستخدمة، وكذلك الموضوعات التي تطرقت إليها مع العناية بفنون الأدب عمومًا.

عشرات من المجلات الأدبية والثقافية التي يصعب حصرها في هذا المقال، ولكن على سبيل المثال لا الحصر أذكر مجلة"المقتطف"الشهرية، لصاحبيها الدكتور"يعقوب صروف"(١٨٥٢-١٩٢٧) والدكتور"فارس نمر"(١٨٥٦-١٩٥١) حيث أصدرا المجلة في عام ١٨٧٦، لقد ترك لنا كتابها العظام كنوزًا في جميع مناحي العلوم والآداب، إذ استكتب فيها الدكتور"يعقوب صروف"كبار أدباء مصر والشام - رواد عصر النهضة - ولو تصفحنا العدد الرابع (إبريل) من عام ١٩٢٤، كعينة عشوائية، نجد أن كتاب هذا العدد هم مصطفى صادق الرافعي، وأمين الريحاني، والأمير عمر طوسون، ومي زيادة، وإيليا أبو ماضي، وأمين سعيد، وإسماعيل مظهر، وعبد الرحيم محمود وثابت ثابت، وتناول هؤلاء الكتاب في مقالاتهم الشعر وعلم التشريح، وعلم الاقتصاد ومالية الحكومة المصرية، والنقود في الجاهلية وصدر الإسلام، وعلم النفس، والتاريخ وكذلك البترول والحرب القادمة، والصباغة وصناعة الأصباغ، كما أن في هذا العدد أبوابًا ثابته، للحديث عن الزراعة والتدبير المنزلي، وكذلك بابًا للنقد، والأخبار العلمية، مع باب للمسائل يعتني بالأسئلة التي يرسلها القراء إلى المجلة والرد عليها، وكانت أغلبها أسئلة علمية أو لغوية!

ومع مجلة المقتطف، تأتي مجلة"الهلال"تلك المجلة العظيمة، التي ما تزال تشرق علينا أول كل شهر منذ أن خرجت إلى القراء في عام ١٨٩٢ عندما أصدرها الأديب والمؤرخ"جرجي زيدان"(١٨٦١-١٩١٤)، ولو تصفحنا أيضًا العدد الرابع (إبريل) من عام ١٩٢٤، سوف نجد أن كتاب هذا العدد هم نخبة من كبار الأدباء والشعراء، والعلماء، أمثال مي زيادة، خليل مطران، جبران خليل جبران، محمد جميل بيّهَم، أمين الريحاني، توفيق قندلفت، سلامة موسى، أحمد أبو الخضر منسي ومحمد كامل شعيب. وتناول هؤلاء الأفذاذ كثير من الموضوعات في مجال الشعر، والتاريخ المصري القديم، والتاريخ الإسلامي، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعالم الأرواح، والفن والتمثيل العربي، والعلوم والفنون، كذلك التراجم وسير المشاهير الذاتية، مع باب خاص يجمع بين الهلال وقرائه.

وفي العام نفسه، خرجت مجلة"الأستاذ"، التي أصدرها المجاهد"عبدالله النديم"عام ١٨٩٢ واستمر يصدرها أسبوعيًا حتى عام ١٨٩٣، وكان"عبدالله النديم"(١٨٤٢-١٨٩٦) يقوم بتحريرها كاملةً ويكتب موضوعاتها بنفسه، من الصفحة الأولى وحتى الصفحة الأخيرة، وتعددت مواضيعها، وكما ذكر أخوه"عبدالفتاح النديم الإدريسي"في مقدمة المجلة بعد الفاتحة:"وجعلناها خزانة لشوارد العلوم وفوائد الرسوم لا تتقيد بفن، ولا تقتصر على موضوع، فتنشر ما يحسن نشره، ويلذ سماعه من المعقول والمنقول، مما لا يطعن في دين، ولا يمس شرف شخص، ولا يقرب من الأهاجي، ولا يتعرض لأمور السياسة الحاضرة.."

ثم في أسلوب رشيق، تتوالى في العدد الأول مقالات"المجاهد عبدالله النديم"، وكان أول هذه المقالات بعنوان"شكر النعم"كان في بدايتها تأبين ورثاء وبكاء على وفاة الخديوي"توفيق"ثم بعد الرثاء مباشرة يقول:"وما زحزح الهّم عن الفؤاد ومسح دموع الحزن بمنديل السرور إلاَّ ارتقاء صدر الصدور وعين أعيان الأمراء وخلاصة العائلة المحمدية وبدر سماء بيت الإمارة أفندينا الخديو المفخم ذي الفخامة والجلالة مولانا"عباس حلمي الثاني أيده الله تعالى"!

واستمر الأدباء والمثقفون في إصدار مثل هذه المجلات، وإن تعددت أسماؤها، وتباينت موضوعات، لكن القاسم المشترك الأعظم بينهم، كان المشروع الثقافي المصري، والتأكيد على قوة مصر الناعمة، مع إحياء اللغة والاهتمام بالأدب، ومسايرة الغرب واستحداث موضوعات وأجناس أدبية جديدة لم تكن مستخدمة من قبل، كذلك دراسة التراث، والبحث في تاريخ الأدب العربي، والسعي من أجل خلق مجتمع متحرر ومتحضر.

ومن هذه المجلات الشهرية مجلة"المنار"والتي أصدرها الشيخ"محمد رشيد رضا"عام ١٨٩٨، ومجلة"الزهور"التي أسسها"أنطوان الجميل"عام ١٩١٠، ومجلة"الحديقة"التي أصدرها"محب الدين الخطيب"عام ١٩٢٢، ومجلة"العصور"التي أصدرها"إسماعيل صبري"عام ١٩٢٧، ومجلة"أبولو"التي أصدرها الدكتور"أحمد زكي أبو شادي"عام ١٩٣٢، ومجلة"الثقافة"التي أصدرها"أحمد أمين"عام ١٩٣٩وكانت أسبوعية، ومجلة"التطور"التي أصدرها أنور كامل عام ١٩٤٠، وهي إسبوعية أيضًا. ومع كل هذا الكم من المجلات، فإن"الرسالة"الصادرة عام ١٩٣٢، وهي مجلة إسبوعية للآداب والعلوم والفنون، ومجلة"الرواية"الصادرة عام ١٩٣٧"وهي مجلة نصف شهرية، اللتان أصدرهما الدكتور أحمد حسن الزيات وشارك في تحرير"الرسالة"معه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الذي أصدر هو الآخر مجلة"الكاتب المصري"عام ١٩٤٥، هذه الإصدارات الثلاثة تعد إصدارات فارقة في تاريخ المجلات الأدبية والثقافية، وتحفل أعدادها بأعظم الأعمال الأدبية والمقالات الفكرية، بل كانت جسرًا حضاريًا عبرت عليه النظرياتها الفكرية والفلسفية والنقدية من شمال المتوسط إلى مصر، ولقد تبنى هؤلاء الرواد الكثير من حركات التنوير والتغيير، وساهموا كذلك في حفظ التراث العربي، وإن كنت أميل أكثر ناحية مجلة"الكاتب المصري"وما تركته من أثر ضخم على البيئة الثقافية العربية عمومًا والمصرية تحديدًا، فمنذ أن صدر العدد الأول في إكتوبر عام ١٩٤٥، وحتى العدد الأخير في مايو ١٩٤٨، كان العميد يفسح المجال أمام كبار الكتاب في مصر وأوروبا للكتابة في المجلة، وفي الوقت نفسه تعهد الكثير من الشباب الذين أصبحوا فيما بعد هم حملة التنوير في مصر والعالم العربي.

إن الاطلاع على عدد واحد من هذه المجلة الثرية يجعلك تشعر بكل تأكيد أنك دخلت واحة ثقافية عامرة، ولديك من الفكر والثقافة ما لا تجده في عشرات الكتب!

كل هذا ولا تزال هذه المجلات العريقة تحتفظ برونقها وعظمتها، وإن كنت أطالب وزارة الثقافة في جعل هذه الإصدارات متاحة للشباب، لكي ينهل منها الثقافة والفكر الحر، فإن ما فيها من أفكار وآراء لا يقدر الزمان على محو أثرها أو إصابتها بالوهن أو الشيخوخة، بل هي أفكار ناضجة وطازجة حلوة المذاق تفيد العقل والجسم معًا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى