الاثنين ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٢

المدارس العلمية العتيقة في سوس بين التذكر والتنكر

محمد بادرة

حين اختار المرحوم المختار السوسي عنوان "سوس العالمة" لاحد اهم مؤلفاته فان ذلك لم يأتي من باب المغالاة او محاباة البادية السوسية، وهي المنطقة التي تكنى باسمها واعطى لها كل امكاناته الفكرية والعلمية وحتى المادية،فقضى فيها سنواتالجمر و الحجر و النفي و تجول في بواديها وقراها ومدنها، وكانت كلها اعواما من الجهاد العلمي والفكري والسياسي، في سبيل رفع الحيف السياسي والظلم التاريخي والاهمال العلمي عن هذه البوادي النائية التي كان لها الفضل في اقامة اول نظام تعليمي، احتضن اول قائد سياسي ودعوي اسس اول امبراطورية مغربية (عبد الله بن ياسين)، تم استمرت في انجاب قوافل من رجال الدولة، وشيوخ العلم والفقه والتريبة، وصناديد المقاومة والجهاد، لكن ما يزال هناك قصور واهمال وتهميش لدور البادية السوسية في بناء جزء من الصرح الحضاري والثقافي والسياسي لهذا البلد العريق، وهو ما جعل مؤرخنا السوسي يتفرغ للبحث والتحقيق التاريخي والتنقيب العلمي و الجغرافي والحفر الاركيولوجي والاثنوغرافي - ولو في حدودهرالدنيا – و نجح في استصدار وانجاز بحوث ودراسات تاريخية غاية في التدقيق والتبسيط والشمولية... لكن اهم ما خلفهلنا هذا الهرم العلمي الغزير الانتاج وابرز ما شغل حياته الثقافية والتاريخية هو اهتمامه الاشد بالمدارس العلمية العتيقة في سوس، وهي مدارس دينية وعلمية بنيت بمال وايدي البسطاء والاعيان والوجهاء، قامت بأدواررسياسية وتربوية واجتماعية ودينية عبر تاريخ المغرب القديم والحديث، تخرج منها المئات من رجال الدين والسياسة والاقتصاد، وكان لها الفضل في ترسيخ قيم الاسلام والحرية والجهاد حين حولت جبال سوس وبواديها الى ساحات وخنادق للجهاد ضد المستعمر الغازي وضد جبروت الجهل والامية.

يرجع ظهور المدارس العلمية والدينية العتيقة الى بداية تأسيس الدولة المرابطية، بل ان مدرسة "وكاك" هي التي انطلقت منها مدرسة عبد الله بن ياسين وتكونت منها الدولة المرابطية فيما بعد. يقول المختار السوسي (ان اول مدرسة عرفت في بوادي الغرب الاسلامي هي مدرسة "اكلو" بضاحية تزنيت.. في اوائل القرن الخامس الهجري وربما كانت قبلها مدارس اخرى وان كنا لا نعرفها الآن، تم تتابعت القرون والمدارس الى ان نيفت على مائتين. وهي مدارس شعبية يقوم بها الشعب بجهوده الخاصة ولم تعرف قط اعانة حكومية).

لقد استطاع المختار السوسي ان يعدد اسماءها واماكنها واعدادها وشيوخها وعدد طلابها الذين يعدون بالآلاف وزوارها الموسميون بعشرات ومئات الالف وهي كما وصفها انها مدارس شعبية (لاحكومية) محتضنة من طرف الساكنة اعيانا ووجهاء وفقراء، بنيت بأيدي وسواعد القرويين وبأموال وجهائهم واغنيائهم، تسير بعقول وخبرات طلابها وفقهائها،ولكل هذه المدارس انظمة وقوانين متوارثة منها ماهو مدون في صحائف والواح تقرا وتتلى بنودها على كل فقيه واعظ ومربي، او كل امامحافظ وملقنخاضع لنظام "الشرط" منذ اليوم الاول من التعاقد المعنوي معه، وتسلم له مفاتيح خزائن المدرسة العتيقة التي قد تحتوي على العشرات او المئات من الوثائق المحلية (ازرفان) و الكتب الدينية والمخطوطات وكل الموروث المادي والرمزي لهذه المدرسة.

الاسلوب البيداغوجي السائد في المدارس العتيقة

يكاد يكون النظام التربوي والاسلوب البيداغوجي المتبع في هذه المدارس العتيقة متشابها ومتقاربا لا من حيث قواعد التلقين وبيداغوجيا التواصل او اسلوب التعلم حيث ان "طالب العلم" قد يقضي فترة قصيرة او طويلة حسب رغبته وميولاته العلمية - الشرعية في هذه المدرسة او تلك، تم يمكنه ان ينتقل الى غيرها بعيدة او قريبة عن قبيلته وعشيرته او باديته فلا يجد صعوبة في الاندماج والمتابعة والتحصيل، كما لا يجد الصعوبة في مسايرة النظام "الاداري" للمؤسسة العلمية، مما يدل على وجود نظام تربوي وفلسفة تربوية وحكامة تدبيرية ومنهج بيداغوجي سهل الاستدخال،اذ ان طرق ووسائل التلقين تتمتع بالسلاسة والمرونة وتسهل على "طالب العلم" الاندماج الطوعي داخل المنظومة التربوية للمؤسسة، كما ان للطالب حرية اختيار المادة او العلم الشرعي التي يريد ان "يتبحر" فيه حتى "يجيز" له شيخه اعترافا بتمكنه وتخصصه في هذه المادة او هذا الفرع العلمي الشرعي، ويملك الطالب حرية اختيار "الفقيه" او "الاستاذ" او"الشيخ" الذي سيستزيد من علمه وثقافته الشرعية، وهو ما ينسجم احدث الطرق والنظريات التربوية الحديثة المدارس العلمية العتيقة في سوس ليست مدارس لتخريج العاطلين من الائمة والفقهاء ورجال الدين ولا مدارس اكليروسية، وانما هي مؤسسات تربوية واجتماعية واخلاقية كان لها دور حاسم في الجهاد ضد الامية والجهل والظلم والفساد كما كان لها دور حاسم في توحيد الكلمة والشهادة دفاعا عن الارض والوطن واللغات الوطنية والهوية الوطنية..
ان طالب العلم يتعلم من هذه المؤسسات العلمية العتيقة كيف يدير شؤون حياته الخاصة داخل المؤسسة وخارجها وبدون وصي، قد يخصص وقته الفارغ لطبخ وجبات طعامه وتنظيف ملابسه، بل وحتى حياكتها وخياطتها، وفي مدارس اخرى يتعلم الرماية والفنون الحربية (مدرسة تازروالت)

انها مؤسسات للتربية والتلقين والتكوين والتأهيل الاجتماعي:

"طالب العلم" مطالب بنسج علاقات اجتماعية مع محيطه ووسطه، وعليه ان يبدل كل جهوده في مساعدة الساكنة القروية في ضبط العلاقات الاجتماعية واحترام قواعد التعامل اليومي بين الافراد والجماعات وابطال كل الدسائس والفتن.

"طالب العلم" مطالب بتدبير شؤونه المادية والمالية،والبحث عن مورد رزقه دون الانقطاع عن "العلم" جامعا بين الدراسة والعمل، يمكنه ان يشتغل في الحرث والحصاد، و يمكنه ان يزاول مهنة السياقة او التجارة في حدودها الممكنة( الخياطة- الحدادة- ..) مما يدر عليه قدرا من المال تساعده على مواصلة ومسايرة متطلبات الحياة الخاصةكشراء ما يريده من ملابس وامتعة وكتب ومصاريف السفر والاقامة، يقول الاستاذ محمد بنسعيد ايت ايدر حين كان طالبا بمدرسة سيدي ابي عبد الله الواقعة بنواحي سيدي افني انه صادفت دراسته بهذه المدرسة العتيقة مجي ما سمي آنذاك بعام "البون" فاضطر الى ان ينخرط في ربط علاقات بأعيان ايت بعمران وسيدي افني لينخرط في بعض المعاملات التجارية ويبادر بشراء رخص المواد الغذائية (البونات) تم يعيد بيعها في المدرسة بالتقسيط بقصد تدبير اموره المالية...وبفضل عائدات هذه التجارة المتواضعة جعل من غرفته بداخلية المدرسة ملتقى للأصدقاء والمعارف ...) سيرة الكاتب (هكذا تكلم محمد بنسعيد) ص22.

واشار المجاهد محمد بنسعيد في نفس الكتاب الى ان مدرسة سيدي ابي عبد الله كانت تعيش على ما تموله بها القبيلة، علما ان القبيلة نفسها تعاني من الفقر والحاجة، ولكن احتضان المؤسسة يعتبر شرطا مقدسا لذى كل ساكنةالمنطقة.

وعن النظام البيداغوجي في هذه المدارس العتيقة فانه يكاد يكون واحدا فلا يجد الطالب الجديد صعوبة في الاندماج الفوري والطوعي داخل نسق هذا النظام التربوي مما يدل على ان هذه المؤسسات الدينية والتربوية تمتلك فلسفة تربوية تستمد اساليبها واهدافها من العلوم اللغوية والشرعية. ومن جملة ما يتم تدريسه في هذه المدارس العتيقة في سوس:

دروس في النحو، وتفتتح هذه الدروس عند الطالب بحفظ الأجرومية والقرطبية، تم متون ابن عاشر. وفيها يحفظ الامثلة والقواعد ويكتسب المبادئ الاساسية لقواعد اللغة العربية الفصيحة القديمة التي ستساعده على فهم معاني وسياقات النصوص الدينية.

تم ينتقل بعد ذلك الى منظومتي المجرادي والزواوي في الجمل واحكامها وبعدها لامية الافعال لابن مالك في التصريف ..

في المرحلة الموالية من البرنامج التعليمي يدرس الطالب تحفة الاحكام ومختصر الخليل في الفقه المالكي، وفي هذه المرحلة يمتلك الطالب حرية الاختيار بين هذا الفقيه اوذاك او بين هذه المدرسة او تلك من اجل تعميق معارفه في مجالي العلوم اللغوية والشرعية وهو ما يكسب لهذه المؤسسات مرونة بيداغوجية تسمح للطالب بحرية التنقل والاختيار بحثا عن "الافضل" او "الاخص" قصد التخصص في فرع من فروع العلوم اللغوية والشرعية

وفي مرحلة متقدمة من تعليمه يخوض "طالب العلم" في بحور البيان والبديع وفي التفسير والحديث ودروس الفلك والحساب بالمنظومة السملالية ومنظومة احمد بن سليمان الرسموكي.

الفريد والمثير ان كل هذه العلوم والفنون تكون باللغة الامازيغية المحلية (تاشلحيت) وقليلا ما تستعمل اللغة العربية الفصحى الا في مناسبات خاصة يكون فيها التباري حول نظم الشعر. ويقول المختار السوسي في خاتمة الجزء العشرين من المعسول بعد ان تكلم عن نشأة الفاسي في بيئة تتكلم اللغة العربية الدارجة يسمعها من ابويه ومن اقرانه ...واما الشلحى القح الذي يحيا في مثل جبال جزولة الذي ينشا في بيئة لغته الشلحية البعيدة عن العربية، فانه قد يحفظ القرءان وكثير منهم لا يستكملون حفظه الا عند البلوغ او اكثر وهو لا يدري حتى معنى الخبز والسمن والبصل والحصير والفأسلأنه ينشا في اقليم منزو ...)

وفي نفس السردية التاريخية لمحمد بنسعيد ايت ايدر يبين لنا هذا الاخير كيف انه الى حدود مجيئه الى مراكش كانت ثقافته تقليدية وكان عليه – وهو الامازيغي السوسي- ان يتعلم اللغة العربية من الصفر ذلك ان دراسته من قبل للفقه والنحو والحديث والتفسير كانت باللغة الامازيغية– نفس الكتاب السابق ص 49
اما عن كيفية القاء الدروس وطريقة القاء المتون فان للمدارس العتيقة خصوصية بيداغوجية تختلف حسب شيوخها وفقهائها لدرجة انها تنعت باسم المدرسة تمييزا لها عن باقي المدارس الاخرى، كالمدرسة الوكاكية، والمدرسة البونعمانية، والمدرسة الجشتمية، والمدرسة الادوزية، نسبة للمناطق التي تستوطنها هذه المدارس او نسبة الى فقهائها وعائلاتهم العلمية.

المدارس العتيقة وضرورة رفع التهميش عنها

تملك المدارس العتيقة سلطة دينية واجتماعية،وشيوخها وفقهاؤها هم من يفسرون نسق القيم التي تخضع لها الجماعة، تصدر الفتاوي والنوازل التي تهم شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية (نوازل وفتاوي في البيع والشراء والرهون ..)، وذلك وفق ما تقتضيه ظروف العصر، وهو اجتهاد في سياقه الخاص والعام بل ان العديد من هذه المدارس العتيقة اصدرت فتاوي في الجهاد ضد المحتل الاجنبي وهذا ما يدل على انها ليست فقط ماوي ومقصد لطلاب العلم، وانما كذلك هي مؤسسات اجتماعية وثقافية وتربوية وسياسية لها دور فاعل وسياسي وازن في منطقة سوس والصحراء ( الم يكن الفقيد الفقيه الصوفي الحاج الحبيب التنالتي وزيرا لمحمد الهيبة ماء العينين، وقد ساهم وشارك في تحريض القبائل في الصحراء وسوس للجهاد ضد المستعمر الاجنبي وقاد مع الهيبة حركة الجهاد والمقاومة ضد الاجنبي، وحين رجع بعد معركة سيدي بوعثمان اختار جهاد النفس وجهاد العلم حتى اصبحت مدرسته وزاويته مقصدا لطلاب العلم الشرعي والاصيل ..)

اننا اذ نذكر بدور المدارس العتيقة في سوس ومجدها العلمي والمكانة التاريخية التي تبواتها منذ القرن الخامس الهجري الى القرن الرابع عشر ووصل عددها في منطقة سوس الى ما يفوق المائتين، اما الكتاتيب القرآنية فهي تعد بالمئات وتتواجد في كل قرية و مدشر وهي بمتابه الروافد لتلك المدارس العلمية العتيقة.. وكلها قامت بدورها كاملا في مناطق لم تطاها مشاريع التنمية الاجتماعية والثقافية والتربوية واستطاعت ان تقاوم الاستعمار والجهل والامية دون ان تجد الدعم الكافي والعون اللازم من مؤسسات الدولة فتنكرت لها لا المؤسسات الرسمية فقط، وانما كذلك مؤرخي الدولة والمجتمع فها هو مؤرخ سوس العالمة يقف محتجا ومستنكرا (ان تاريخنا لم يكتب بعد كما ينبغي .. فليسمع صوت هذا السوسي كل جوانب المغرب من اعظم حاضرة الى اصغر بادية.. فلعل من يصيحون يندفعون الى الميدان فنرى لكل ناحية سجلا يضبط حوادثها ويعرف برجالها ويستقصي عاداتها..)

فالخطر الذي يتهدد هذه المؤسسات التربوية الدينية من حيث تهميشها واقصائها او تدجينها يساعد على استمرار الية التدمير الثقافي والهوية الثقافية الامازيغية باعتبارها موروثا رمزيا مرتبطا بالكيان المفاهيمي للذات المغربية في تمفصلاتها الروحية واللغوية والسوسيو تاريخية.

اننا في حاجة ماسة الى نقد الميتافيزيقا السائدة ومؤسساتها السياسية والثقافية المغروسة في الحقل التربوي والثقافي الوطني، لأنها معادية للتنوع الثقافي، وخانقة للاختلاف ومانعة للإفصاح عن الذات المتعددة والذاكرة المتعددة والجغرافية الثقافية المتنوعة... والمختار السوسي ادرك منذ البداية ان التراث الثقافي والتربوي والاجتماعي في سوس وغير سوس تعرض لكل انواع الدس والتحريف لذا امن المرحوم المختار السوسي بان اعادة احياء وترميم وتصحيح الوضع الثقافي والروحي للمؤسسات الثقافية والتربوية والاجتماعية بالمغرب رهين برفع الحيف عن الوضع الثقافي واللغوي في سوس والعكس صحيح.

محمد بادرة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى