الأربعاء ١٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم سعاد درير

المرأة والعنف

كثر الحديث عن المرأة والعنف في الآونة الأخيرة، حتى ليخيل إلى المرء أن العنف حديث العهد بالمرأة، وأن المرأة لم تتوارثه جيلا بعد جيل. وإلا ما الذي جعل المرأة تسكت عن الكلام المباح في العنف طيلة سنوات وعقود وأزمنة؟

قد يتساءل سائل: هل يقتصر العنف على المرأة العربية فقط؟

ويتساءل سائل آخر: هل للتحضر والتمدن صلة بالعنف الممارس على المرأة؟
وأتساءل أنا: عن أي عنف نتحدث؟

كنت أتصور أن المرأة العربية وحدها تتعرض للعنف، وإذا بي أتابع شريطا سينمائيا أجنبيا يكسر أفق توقعي لأكتشف أن المرأة الغربية تتجرع الكأس نفسه، مع تفاوت طبعا في الدواعي والشكل وأسلوب التنفيذ، وإلا اعتبرنا حالة بطلة الفيلم - الذي تابعته- حالة استثنائية من النساء المعنفات، ربما لأن الزوج (أداة العنف) كان يعيش حالة اختلال نفسي، لاسيما وأنه غض الطرف عن كونه رب أسرة وأبا لولدين أو ثلاثة أولاد كان يفترض أن يحيطهم بكل الحنان والأمان، في حين أنه صار بأفعاله المنافية للأخلاق ولحقوق الإنسان إرهابيا، والفرق الوحيد بينه وبين سواه من الإرهابيين أن الآخرين يهددون أمن دولة، بينما كان هو يهدد أمن زوجة، إلى حد أن تعنيفه لها بالضرب المبرح والجرح والشتيمة تجاوز حدود ما يخطر على البال ليتحول إلى نية مبيتة في القتل ومحاولة تصفية حياة.

بعيدا عن التباسات العنف في الفيلم الأجنبي ذاته - على اعتبار أن السينما نقل وتشخيص للواقع أحيانا كثيرة - أتجاوز عمدا قضية المرأة الغربية، وأكتفي بالوقوف عند حالة المرأة العربية.
فما المقصود بالعنف الممارس على المرأة العربية؟

ساد الاعتقاد عند عدد من النساء والرجال أيضا أن العنف لا يسمى عنفا إلا إذا ترتبت عنه دماء وكسور وكدمات... لكن هل من العدل أن نتجاوز التفكير في ما يحدثه العنف من آثار تلحق الأذى بنفسية المرأة؟ تلك جراح نفسية تغور في العمق وتشظيات روحية وتمزقات داخلية، لأن الجراح الجسدية تلتئم، والعظام تجبر، بينما تصعب مداواة الشروخ النفسية التي تلقي بظلالها على سائر أعضاء الجسد.

ماذا نسمي الحالات الآتية إن لم تكن عنفا؟

 حين يتحرش رجل راشد بقاصر أو بامرأة متزوجة.
 حين يمنع الرجل المرأة من العمل.
 حين يمنع الرجل المال عن المرأة ويجبرها على كسب المال بأي طريقة.
 حين يفرض الرجل رقابة على المرأة الكاتبة ويتدخل في اختياراتها الفكرية أو يمارس عليها نوعا من الإرهاب الفكري.
 حين يتدخل الرجل في شؤون المرأة ويقيد حريتها الشخصية.
 حين يجبر الرجل المرأة على ملازمة البيت ومقاطعة الأهل والصديقات.
 حين يدخر الرجل جزءا مهما من راتبه لجلسات المقهى وسهرات الأنس ويحرم أبناءه من طيب المأكل والمشرب والملبس.
 حين يقلل الرجل من شأن المرأة أمام الآخرين والأخريات ويهينها ويعمد إلى الإساءة إليها بذكر عيوبها وهفواتها في حضورهم.
 حين يربي الرجل أبناءه على تسييد الذكور وتهميش الإناث بغض النظر عن فارق السن والمؤهلات.
 حين يخون الرجل زوجته أو يريد أن يتزوج بثانية فيهدد الأولى بالطرد أو بانتزاع الأطفال إذا مانعت.
 حين يتحاشى الرجل تنفيذ أي عقوبة جسدية - على المرأة - بيديه، ويكتفي بعنف من توقيع لسانه: سبا وقذفا واستصغارا واحتقارا... وهو عنف أشد وقعا وأعمق أثرا من العنف المادي، لأنه دائم وبطيء المفعول كالسم.
 حين يقضي الرجل يومه في العمل وليله في المقاهي والسمر، ويتجاهل وجود زوجة في انتظاره.
 حين يرسم الرجل ابتسامة في وجوه الآخرين والأخريات ويحييهم بنظرات دافئة، بينما يعبس في وجه زوجته ويقابلها بنظرات باردة إن نظر إليها أصلا.
 حين يستسلم الرجل لسلطة رئيسه في العمل بينما يصب جام غضبه وحنقه على المرأة ويقهرها بأوامره انتقاما لنفسه من الرئيس.
 حين لا يتجرأ الرجل على مواجهة غيره من الرجال الذين قد يتعمدون الإساءة إليه، بينما يتجرأ فقط على مواجهة المرأة - الزوجة المسكينة التي لا حول لها ولا قوة.
 حين يحمل الرجل المرأة مسؤولية الأبناء ويعاقبها على فشلهم.
 حين يتعمد الرجل باستمرار تذكير زوجته الناجحة في عملها بأنه صاحب الفضل عليها وبأنه هو من صنع ذلك النجاح ولولاه ما وصلت إلى ذلك، إلى درجة أنها تندم على اليوم الذي نجحت فيه وكانت له يد بيضاء في نجاحها.
 حين يستغل الرجل ظروف عمل المرأة - الزوجة أو مرضها في التقرب إلى الخادمة أو أي امرأة تعمل تحت كنفه.
 حين يستاء الرجل من زوجة ليست على الموضة، أو أكل عليها الدهر وشرب، ويعيش مراهقة متأخرة مع فتيات في سن بناته هروبا من زحف الشيخوخة.
 حين يبحث الرجل عن زوجة مطلقة أو أرملة بدون أولاد موظفة في قطاع عام لتنفق على مزاجه وعلى البيت.
 حين يدفع الرجل بناته القاصرات إلى الخدمة في البيوت أو يدفعهن إلى الانحراف ويستبد هو بالأجر.
 حين يفصل الرجل بناته عن الدراسة ويقيدهن بزواج غير متكافئ سرعان ما يؤول إلى الفشل.
 حين ينفرد الرجل بالقرار ولا يتشاور مع زوجته وأولاده حتى في المسائل التي تتوقف عليها حياتهم ومستقبلهم، علما بأن البداية الخاطئة تقود حتما إلى نهاية خاطئة.

هذا غيض من فيض حالات العنف الذي يعصف بالمرأة العربية ويلغي إنسانيتها ويهدد كبرياءها ويعبث بكرامتها. ربما يكون اعتراف المرأة بتعرضها للعنف خطوة مهمة على طريق إصلاح حالها وتسوية وضعيتها والتفكير جديا في قضيتها بحثا عن حياة كريمة، لكن التحديات تظل بعيدة عن مستوى التطلعات، لأن ما تعيشه المرأة من إكراهات ينذر بالعتمة ويؤكد انسداد الأفق.

وفي هذا المقام يحضرني مشهد علق بذاكرتي منذ وقت قريب. فما أن شارفت عتبة بيتي حتى انتبهت إلى وقع خطوات تقاسمني خلوة الطريق، وسرعان ما صاحب الخطوات نداء مصدره امرأة في مقتبل العمر تسألني ماء. دخلت، وما أن عدت إليها بالماء حتى استغربت لملابسها الثقيلة في يوم قائظ، واستغربت أكثر لإقبالها الكبير على الماء هي وطفلها الذي لم يبلغ مرحلة المشي بعد. سقت طفلها أولا ثم أفرغت محتوى القنينة في جوفها وعلى وجهها. كاشفتني بأمرها هي القادمة من مدينة صغيرة مجاورة هربا من عنف زوجها، وسألتني عن مكان جمعية الرفق بالنساء المعنفات الذي يقينا وصف لها خطأ.

وجدت مشقة في مصارحتها بابتعادها عن عين المكان. لقد ضاعت الغريبة بين شوارع مدينة كبيرة، وقذف بها جواب من استوقفتهم للسؤال إلى حي ناء حيث أقيم. صحيح أنها وضعت قدميها على فضاء تنتصب فيه مؤسسات شتى، لكن لا وجود حيث أقيم للجمعية التي تريدها، ناهيك عن أن مسافة خطوات فقط تفصل بين بيتي والغابة. كان اليوم قد شارف الغروب بينما كانت المرأة الشابة تقود طفلها إلى وجهة مجهولة.

ما الذي يدفع امرأة شابة وأما لطفل -لم يبلغ ربيعه الأول- إلى التشرد والتيه في زحمة مدينة غريبة إن لم يكن العنف؟

ولماذا لا تفكر المرأة في مقاومة العنف قبل أن تنجب أطفالا تلقي بهم في أحضان مصير مجهول ومخفوف بالأخطار؟
وهل تستوعب جمعية أو مؤسسة لمقاومة العنف ضد المرأة سيولا من النساء الفارات - من جحيم العنف- والمذيلات بأطفال ورضع؟

وماذا عن مصير هؤلاء النسوة وأولئك الأطفال بعد انتهاء رحلة الاستماع إلى شكاويهن؟
وهل يكون أمام المرأة حل آخر غير أن تعود بأطفالها إلى بيت الرجل - مرتكب العنف - لتلقى حتفها على يديه أم أنها تختار نهاية أخرى مفتوحة على أرصفة الشوارع؟

...؟...؟...؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى