الجمعة ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم محمد هيبي

المقامة التربويّة

حدّثنا الصابر بن عطاء قال: لما تجاوزت الخامسة والستّين وأصبحت من المتقاعدين، إعتزلت مهنتي وانتسبت إلى بيت من بيوت المسنّين. وبينا أنا وعددا من الرفاق، في جلسة يؤمّها كل مشتاق، نطوف العوالم والآفاق، ونجوب ساحات العلم والفكر الخلاق، ونتوارد ما لذّ وطاب، من الكلام الفكه المستطاب، دخل علينا أحد المدرّسين العظام، وحدّثنا عن زميل له ببالغ الاهتمام، قال: تقاعد زميل لي عن التعليم، بعد مكابدة وعناء عظيم. فقد كان يدرّس العربية، في مدرسة ثانوية. وذات مساءٍ تلبّدت غيومه وغاب بدره ونجومه، زارني زميلي المتقاعد، وحدّثني عن التعليم وتربية الجيل الصاعد، قال: لما بلغت سنّ التقاعد، بعد أن كلّ البصر ووهن الساعد، أقام لي مدرائي وإخوتي وزملائي، حفل تقدير وتكريم بهذا الحدث العظيم. وطلبوا إليّ أن أكون مسك الختام بين المتكلمين الكرام.

تقدّمني في الكلام المكرّمون، يشكرون أفضالي ويمدحون، وهم عن مكابدتي وعنائي غافلون. فلما جاء في الكلام دوري فوضت للرحمن أمري، وصعدت المنبر على عجل، وقلت دونما خوف أو وجل: أيها السيدات الفاضلات، المحجّبات منكن والسافرات، أيّها السادة الأفاضل، المتقاعد منكم والذي ما زال يناضل: لمّا دعيت للمشاركة في هذا الاحتفال، والمساهمة فيه بكلمة للأجيال، لجاهي في التربية واعتباري، وكثرة تجاربي وأسفاري، ولرجاحة عقلي الموسوم، وتمييزي بين الغيبيات والعلوم، تقبّلت الأمر بشوق، وقلّبته بروية وعمق، حزمت للمهمة أمري، واعتصرت مدّخرات فكري، فوجدتني مضطربا أيّما اضطراب، ومرتابا بأفكاري أيّما ارتياب: ما البضاعة التي سأعرض؟ وما الكلام الذي سأقول، في هذا الموقف المسؤول؟.

ثمّ قلت في نفسي، خلاصا من كل لبسِ: أمامي طريقان: إما أن أقبل الدعوة وإمّا أن أرفضها، فإذا رفضتها تيسّر الحال وزال الهمّ والإشكال. وإذا قبلتها فأمامي طريقان. إما أن ألقي كلمة هادفة، تنقذ القلوب الخائفة، وإمّا أن ألقي خطبة جوفاء مزخرفة بصنوف البلاغة والإنشاء. فإذا ألقيت خطبة جوفاء، منمّقة بصنوف البلاغة والإنشاء، رأيت في أعينكم البريق، وأحطتموني بالتهليل والتصفيق، فتيسّر الحال وزال الهمّ والإشكال. وإذا قررت أن ألقي كلمة هادفة تنقذ القلوب الواجفة فأمامي طريقان: فإمّا أن أتحدث عن الأخلاق، وإمّا أن أتحدث عن العلم. فإذا تحدّثت عن العلم أعجبتم بقدرتي على التحليل وتمكّني من التفسير والتعليل، فزاد عندكم التصفيق والتهليل، فتيسر الحال وخرجت من بينكم خليَّ البال. أمّا إذا قررت الحديث عن الأخلاق فأمامي طريقان: إمّا أن أتحدّث عن الأخلاق الفاسدة، التي أراها تملأ أيامنا، وإما أن أتحدّث عن الأخلاق الماجدة، التي لم تعد تشغل اهتمامنا. فإذا تحدّثت عن الأخلاق الماجدة، مجدتموني، وبعطفكم ورعايتكم كللتموني، ثمّ قمتم إلى تقبيلي وذهبت بعدها في حال سبيلي. وإذا قررت التحدّث عن الأخلاق الفاسدة فأمامي طريقان: إمّا أن أتحدّث عن التسيّب وسوء التربية وإمّا أن أتحدّث عن أمراض كالأراجيل والمخدرات. فإذا تحدّثت عن الأراجيل والمخدرات، قلتم: يريد لنا ولأبنائنا الخير ودعوتم لي بطول العمر، فتيسّر الحال ومرّ الأمر من غير إشكال. أمّا إذا اعتزمت التحدّث عن التسيّب وسوء التربية فأمامي طريقان: إمّا أن أتحدّث عن قصور السلطة أو أتحدّث عن قصور ضحاياها، أنا وأنتم. فإذا تحدّثت عن قصور السلطة، انتعشت نفوسكم الأبية ودبّت فيكم الروح الوطنية، فصفّقتم لي كرئيس، انتصر في معركة حامية الوطيس. وإذا أزمعت الحديث عن قصور ضحاياها، فأمامي طريقان: فإمّا أن أتحدّث عن قصور البيت وإمّا أن أتحدّث عن قصور المدرسة. فإذا تحدّثت عن قصور المدرسة، أدهشكم في الأمر ضلوعي، ونعتموني بالناقد الموضوعي، فضحك سنّي وسُرّي عني. أما إذا ارتأيت الحديث عن قصور البيت فأمامي طريقان: إمّا أن أتحدّث عن قصور الأمّهات وإمّا أن أتحدّث عن قصور الآباء. فإذا تحدّثت عن قصور الآباء قلتم: هو أب مثلنا، يكابد ما نكابد، ويعاني ما نعاني، ما أسعفته النبوة فناء تحت أعباء الأبوة، فالتمستم لي الأعذار وانقلبتم كلّ إلى دار. أمّا إذا اعتزمت الحديث عن قصور الأمهات فأمامي طريقان: إمّا أن أتحدّث عن قصور الأمهات المحجّبات وأمّا عن قصور الأمهات السافرات. فإذا تحدّثت عن قصور الأمهات السافرات تقبّلتم الحديث المتاح باسم التقدم والانفتاح، فأدركت وعيكم وشكرت سعيكم وتيسر الحال وزال همّي الذي طال. أمّا إذا آثرت الحديث عن قصور الأمّهات المحجّبات فأمامي طريقان: إمّا أن أحمّل المسؤولية للدين أو أن أحمّلها للمجتمع. فإذا حملتها للمجتمع منحتموني الشرعية، واتهمتم القوانين الوضعية، فتيسّر الحال وطاب بينكم المقام والمقال.

أمّا إذا قرّرت تحميل المسؤولية للدين فأمامي طريقان: إمّا أن أقع بين يدي الأدعياء وإمّا أن أقع بين يدي الأنبياء. فإذا وقعت بين يدي الأنبياء هان الخطب الجلل، وانفرجت الكروب والعلل، فهم رسل الله جلّ جلاله، ومن غيره يُرجى سؤاله؟ فهو ليّن بخطابه، لا يخذل من يقف ببابه. أمّا إذا وقعت بين يدي الأدعياء، فأمامي طريقان: إمّا أن أُتّهم بالكفر والإلحاد، وإمّا أن أتّهم بالضلالة والجهل. فإذا اتّهمت بالضلالة والجهل كالوا أمري لله، ودعوا لي بهديه وهداه. وإذا اتّهِمت بالكفر والإلحاد فأمامي طريقان: إمّا أن أقاتل وإمّا أن أتخاذل. فإذا تخاذلت ظفروا بمرادهم وأقنعوكم بحسن قيادهم، فجرّدوني وأمثالي من الفاعلية وأعادوكم إلى الجاهلية. وإذا قررت أن أقاتل فأمامي طريقان: إمّا أن أَقْتُلَ وإمّا أن أُقْتَلَ. فإذا قُتِلت كان خلاصي وبَعُدَ خلاصكم. وإذا قَتَلت فأمامي طريقان: إمّا أن أقع بين يدي قاضٍ يفهم القانون ويفهم أنّه وُضِعَ لخدمة الناس، وإمّا أن أقع بين يدي قاضِ يطبق القانون كسيف على رقاب الناس. فإذا وقعت بين يدي قاضِ يطبق القانون كسيف على رقاب الناس فسيقضي بإعدامي، فيكون بذلك خلاصي ويَبْعُدُ أكثر فأكثر خلاصكم، وإذا وقعت بين يدي قاضٍ يفهم القانون ويفهم أنّه وُضِعَ لخدمة الناس فأمامي طريقان: إمّا أن يُخلي القاضي ساحتي وإمّا أن يقضي بتحصيل حاصل، أن أعمل في خدمة الجمهور. فإذا قضى بتحصيل الحاصل فها أنا في خدمتكم وخدمة أولادكم منذ عشرات السنين أربّيهم وأعلمهم، وأحتمل ما لا يحتمل منكم ومنهم. وإذا أخلى القاضي ساحتي فسأعود إلى تحصيل الحاصل، خدمة الجمهور، خدمتكم وخدمة أولادكم. فهل بينكم من حرّ يعتبر، يذود عنّا وينتصر، ويجنّد الطاقات الواعية لإنقاذ الأجيال الآتية، فيتداركها قبل السقوط في الهاوية؟!.

وقبل الختام، أيّها السيدات الفاضلات والسادة الكرام، إعلموا أنّكم كلما توانيتم في اعتبار كلامي ستنسدّ كلّ الطرق أمامي، وسأقرر النزول عن هذه المنصة دون أن تكون لي في الكلام حصة. ولكن، ليس قبل أن أوضّح لكم سؤالي، الذي يزيد همّي وانشغالي: متى أيّها الأمهات والآباء، ستحققون المنى والرجاء؟ متى ستأخذون بجدية وتصميم، دوركم الفاعل العظيم، في معركة التربية والتعليم؟

وفقط من باب الحيطة والتأمين، إسمعوا نصيحة الناصح الأمين: ها قد رأيتم أنه كان أمامي دائما خياران، أما أنتم، فوالله ليس أمامكم إلا خيار واحد. إعلموا أن أمامكم وأمام أولادكم طريقا واحدا لا طريقين، يجب ألا تغفل عنه لكم عين. فخدمة لكم، ولأولادكم ولمجتمعكم، ولشعبكم طريقكم وخياركم الوحيد: التربية ثم التربية ثم التربية ثم العلم، واسلموا لي من كل ضيم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى