الأربعاء ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم أمل الجمل

(الناس في بلادي). كما يراهم المخرج هاشم النحاش

هاشم النحاس، اسم طبع بصمته العميقة في عالم السينما التسجيلية المصرية. حصدت أفلامه جوائز دولية وعربية، فمثلاً فيلمه (النيل أرزاق) حصل على الجائزة الأولى في مهرجان "ليبزج" الدولي عام 1972، كما اختير مؤخراً في فرنسا كأحد أهم الأفلام في تاريخ السينما التسجيلية في العالم.

بعد دراسته الأدبية بالجامعة بدأ هاشم حياته مدرساً للمرحلة الإعدادية، ثم اتجه لكتابة النقد السينمائي قبل أن يلتحق بالدراسات العليا بالمعهد العالي للسينما لدراسة فنون التصوير والمونتاج فتخرج فيه عام 1972. شارك في تأسيس أول جمعية للسينما واهتم بكتابة المقالات في النقد السينمائي وتأليف وترجمة الكتب. سافر إلى العراق عام 1975 ليعمل في مجال تدريس السينما، وقبلها قدم 14 فيلماً تسجيلياً قصيراً تدور في أنحاء كثيرة من الأراضي المصرية. أعد للتليفزيون سيناريو وحوار تمثيلية "العيب" عن رواية "يوسف إدريس" وإخراج إبراهيم الصحن. وتمثيلية (الموعد) عن قصة لـنجيب محفوظ.

اتسمت أفلام هاشم النحاس بالشاعرية والإنسانية والإحساس المرهف، بكثرة وبزوغ التفاصيل، بإختفاء التعليق الصوتي والأشياء الزاعقة، بالإعتماد أساساً على الصورة تدعمها الموسيقى والمؤثرات الصوتية، بتدفق المونتاج، باللقطات القريبة المشحونة بالمعاني، بالقرب الشديد من الإنسان، بغرس الشجن والأسى في نفس المتلقي، بلفت الأنظار إلى قوة وعفوية وعذوبة الانسان المصري، بإضفاء مسحة من الرقة والحب والجمال لموضوعات خشنة بطبيعتها إن لم تكن شديدة الخشونة.

فالناس في بلادي كما يراهم "هاشم النحاس".. صبي غض تتشبث أصابع يديه وقدميه بعمود القلع، يتسلقه ليحكم الحبال حول الشراع، وآخر نحيل على حافة القارب يلطم البحر بعصاه لتدخل الأسماك في الشباك. الناس كما يراهم في بلادي.. كهل يتبادل التجديف مع حفيده، وامرأة تجدف بذراعيها بينما طفلها يرضع من ثديها لبعض الوقت قبل أن يُمسك بالمجداف معها ليحركه بيديه الصغيرتين، أو رجل في منتصف العمر يُلقي بالشباك على امتداد ذراعيه وسط المياه، فيستخرجها مرات ترتجف بالأسماك، وأحياناً يفحصها بأنامله الخشنة ثم يلفها حول إصبع قدمه الكبير ليرتق ما بها من ثقوب وفجوات. الناس كما يراهم في بلادي.. رجال يُقطعون في الحجر الأبيض تحت قيظ الحر، وآخرون يحملون فوق أكتافهم كتله الثقيلة. إناس يغرقون في بحر العرق والغبار بينما يُعبئون التبن في شباك كبيرة. وبدوي يحفر بئراً للمياه في قلب الأرض، أو فلاح انغرست قدميه في الطين على ضفاف النيل، فظل جسمه كالمكوك يروح ويجيء، للأمام والخلف بينما يديه تجران الطمي بالفأس وتملأن به "القفف" فيحملها الشباب ويسيرون بها كالبهلوانات فوق لوح رفيع من الخشب معلق في الهواء. الناس في بلادي كما يراهم "هاشم النحاس".. امرأة تشق بكفيها الطين، تعجنه بلا هوادة ثم تقبض عليه وتُسبِّكهُ في قوالب الخشب، وعجوز حرقته الشمس أخذ يُشيد قمائن الطوب اللبن قبل أن يُشعل فيها اللهب.

تلك هى الوجوه التي يتأملها "هاشم النحاس" في أفلامه وهى تصنع الحياة. يُصورهم من منظور إنساني متحرر من التعصب والتعالي، جميعهم داخل الكادر دون فوراق جنسية أو عمرية، فالرجل بجواره المرأة، يدها بيده، والكهل يدعمه الشاب. ورغم أن الوجوه المنهكة المكدودة أحرقتها الشمس، وحفر فيها الزمن أخاديده لكن ملامحها المستبشرة أو الوجلة لا تزال قادرة على الإبتسام بصفاء، على الضحك أحياناً والغناء في بعض المرات. ربما تأثر مخرجنا بقصيدة "الناس في بلادي" لـ"صلاح عبد الصبور" التي يقول فيها:

الناس في بلادي جارحون كالصقور
غناؤهم كرجفة الشتاء، في ذؤابة الشجر
وضحكهم يئز كاللهيب في الحطب
خطاهمو تريد أن تسوخ في التراب

أما الناس في أعمال "هاشم النحاس" فمختلفون. هم دائماً في حالة كد وتعب يبذلون مزيداً من الجهد الشاق. أفلامه مثل "النيل أرزاق" - "البئر" - "شو أبو أحمد" - "الناس والبحيرة" تُصور حياة آلاف البسطاء وما يلاقونه من فقر مدقع، تُجسد معاناة أهل الريف وسكان الصحراء والصيادين، تكشف عن الإصرار والإرادة، عن جرح الصحراء بحثًا عن النهر، أو تنقيباً عن البئر. تُبرز صراع الإنسان مع الطبيعة من أجل البقاء على قيد الحياة، والكيفية التي يُطوع بها حياته حتى يوفر قوت يومه. أفلامه تُجسد أبعاد المأساة التي تغلف ضفاف النيل فتُثير فينا الحزن بقدر ما تُثير فينا الإعجاب بقوة وصلابة هذا الإنسان.

كان "صلاح عبد الصبور" ينسج عصب قصيدته من التناقض المميز لهؤلاء البشر، فهم:

يقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون
لكنهم بشر
وطيبون حين يملكون قبضتي نقود
ومؤمنون بالقدر

لكن رؤية "هاشم النحاس" تختلف فمركز النواة في أفلامه هو إرادة هذا الإنسان وصراعه الدائم مع البيئة من أجل لقمة الخبز وشربة الماء. لذلك نراه يلتقط ساعات الكد والشقاء. بل نراه يقتنص بكاميرته السينمائية وبأسلوبه الشعري كل ما هو إنساني في عالم هؤلاء البشر، كل ما هو متوتر وصامت ومليء بالشجن، كل ما يتعلق بالإحساس، بالفن، بالقدرة على قهر الصعاب، والتغلب على الظروف القاسية مهما حاصرهم الجفاف والشدة.

رؤية "هاشم النحاس" هذه لم تأت من فراغ. كانت رد فعل معنوي لهزيمة الجيش المصري عسكرياً في يونيو 1967. فهو من جيل الستينيات، عاش فترة شهدت مداً ثقافياً ومعرفيا متدفقاً انعكس على العديد من مجالات التأليف والترجمة التي فتحت العيون على تجارب الآخرين وعلى مختلف التيارات والاتجاهات، كان من بين دوافعه عندما اتجه لصناعة السينما التسجيلية ـ وخصوصاً بدءاً من "النيل أرزاق" 1972 ـ أن يُثبت أن الإنسان المصري لا ينهزم وأن الهزيمة العسكرية يمكن أن تكون هزيمة لبعض المحترفين أو للسلطة، أن المصري قادر على مواصلة الحياة وعلى مواجهة مشاكله والإنتصار عليها، لأن معركة الحياة نفسها هى المعركة الحقيقية. ومن هنا جاء اهتمامه بجوهر الانسان المصري وخصائصه الكامنة وعاداته وتقاليده وميراثه الشعبي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى