الأحد ٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم صبحي حديدي

الناقد صبحي حديدي : النقد عمل معرفي وليس إبداعيا

حاورته سميرة عوض - الرأي الأردنية

يرى الناقد والمترجم العربي المقيم في باريس صبحي حديدي أن مفهوم "الآخر" ليس منحصرا في صورة الغريب أو الأجنبي أو المختلف، معتمدا ـ هو شخصيا ـ في تعريفه للآخر على أنه كل ما ينفصل عن الذات لكي يقع أمامها، وفي مواجهتها، ليكون شبيها بها أو على نقيض منها.
(الرأي) التقت حديدي خلال مشاركته في الندوة النقدية ضمن برنامج مهرجان جرش النقاشي حول "صورة الآخر في القصيدة العربية المعاصرة"

مثيرا في ورقته التساؤل الكبير: من يكتب الآخر؟ متوقفا عند أربعة أنماط من تمثيل وتمثل الآخر في القصيدة العربية المعاصرة: الآخر ـ الذات عند سليم بركات، والآخر ـ الإبداعي عند عباس بيضون، والآخر الصوت الغنائي عند نوري الجراح، والآخر ـ الجسد / اللغة عند حمدة خميس، كما تناولت الورقة بشيء من التفصيل قصيدة محمود درويش وتحديدا "خطبة الهندي الأحمر، ما قبل الأخيرة، أمام الرجل الأبيض" التي تقترح نمطا خامسا وفريدا هو الآخر ـ الشعب والآخر ـ الثقافة.

وحديدي الذي يرى أن الترجمة "والنقد أيضا" فعل معرفي وليس إبداعيا، ناقد وباحث ومترجم سوري، يعيش في فرنسا، ولد العام 1951 في القامشلي، تخرج في جامعة دمشق / قسم اللغة الانجليزية وتابع دراساته العليا في فرنسا وبريطانيا.
قدم دراسات نقدية، درس تجارب شعراء قصيدة النثر خصوصا ونقل الى اللغة العربية العديد من الأعمال الفلسفية والروائية والشعرية من بينها كتاب "مونتغمري واط "الفكر السياسي الإسلامي" 1979، فضلا عن ترجمته لكتاب "تعقيبات على الاستشراق" لكتابات منتقاة للراحل ادوارد سعيد.
يعترف حديدي بأن شعر محمود درويش أعاده الى الشعر .. ونقد الشعر، بعد أن كان منحازا الى نقد الرواية العربية بوصفها الأكثر قدرة على خدمة المشهد والنضال العربي.

إنصاف شعراء (النثر)

 إذا تحدثنا عن مشروع عربي نقدي لقصيدة النثر، يبرز اسمك في طليعة النقاد العرب الذين اهتموا بقصيدة النثر، وأسسوا لما يشبه نظرية نقدية بهذا الخصوص .. هل ما تزال اهتماماتك ذاتها في خوض غمار قصيدة النثر نقديا؟

 في الواقع لم أسع الى تأسيس نظرية نقدية حول قصيدة النثر، بقدر ما بذلت سلسلة جهود، لاستكشاف خصائص ما يكتب من شعر، ويصنف ضمن خانة "قصيدة النثر"، وهذا النتاج لا يحتاج بالضرورة الى تأسيس نظري، وإنما يحتاج أكثر الى استكشاف سلسلة علاقات وروابط مع القارئ، ومع الذائقة السائدة.

نظريا أعتقد أن إشكالية قصيدة النثر طرحت في الغرب وحسمت، وما دمنا نتفق على أن قصيدة النثر، بالرغم من جذورها في النثر العربي القديم، والنثر العربي المعاصر الذي يضم الكثير من خصائص الشعر بالرغم من هذا تظل شكلا مستوردا من الغرب، وتظل بنت الغرب، وما دام الغرب قد حسم النقاش حول قصيدة النثر وشرعية هذا الشكل في الكتابة، فإنني في الواقع لم أعبأ كثيرا بالعثور على تأسيس نظري يسبغ شرعية على هذه القصيدة، وإنما أحاول تطويع ما أمكن من عدة نظرية، بهدف دراسة هذه القصيدة وإنصاف الشعراء الذين يكتبون نماذج جيدة وممتازة منها.

أجيال.. قصيدة النثر

 وكيف ترى الى الجيل الجديد من كتاب القصيدة النثرية؟

 على صعيد العالم العربي، لعلنا نمتلك الجيل الأول الذي طرح المصطلح واشتغل فيه، أقصد أدونيس، توفيق صايغ، أنسي الحاج، وبالطبع الأهم والأبرز بينهم في الواقع، وربما سيظل أفضل شعراء المرحلة الأولى وأقصد محمد الماغوط.
وتركز الجيل الثاني عمليا فيما نسميه "القصيدة اللبنانية" على يد عباس بيضون، وبول شاؤول وغيرهما، وفيما بعد هنالك جيل آخر يمثله بسام حجار، وعناية جابر .. إلخ. وهذه هي المرحلة الثانية من كتابة قصيدة النثر ـ واعتبر أنها المرحلة التأسيسية الأكثر إشكالية وصعوبة لأن الرواد الذين كتبوا أمثال الماغوط، توفيق صايغ، وادونيس لم يجدوا معتركا صعبا لدى القارئ يجعلهم يدافعون عن الشكل الذي يكتبون به، لأن قصيدة التفعيلة كانت هي التي تدير المعركة مع قصيدة العامود، وكانت قصيدة النثر بالتالي شبه متفرجة على معركة حسم المصطلحات وحسم الأشكال.

الجيل الثاني أي جيل بيضون وبول شاؤول والقصيدة اللبنانية وطبعا هناك عدد كبير من الشعراء أيضا من خارج لبنان، أذكر على سبيل المثال قاسم حداد مثلا، الذي تولى إدخال قصيدة النثر الى شعر الخليج العربي بأكمله، وكان له أثر كبير ومباشر في تطوير هذه القصيدة، وان كان في البدايات ـ طبعا ـ جمع ما بين تأثير ادونيس وما بين استقلاليته الشخصية في الشكل، هذا الجيل هو الذي تولى العبء الأكبر في تطوير موضوعات وأشكال قصيدة النثر.

أما الجيل الحالي، أي أواسط جيل الثمانينات ومطالع التسعينيات فهو ـ ربما ـ الجيل الأكثر نضجا، والى حد كبير الأكثر هيمنة على المشهد الأدبي، وأيضا يمكن القول انه الأكثر استقرارا.

وعلى سبيل المثال ما دمت أتحدث في عمان، فإنني أتذكر الشعراء الذين حضروا هنا في جرش أمثال أمجد ناصر، هناك العديد من الأصوات الهامة جدا في قصيدة النثر العربية المعاصرة، أذكر تحديدا ما فعله سليم بركات في جيل عباس بيضون، والجيل الحالي واصل الاشتغال أيضا، واذكر بصفة خاصة سركون بولص الذي كان أيضا من جيل بيضون وحداد واستمر حتى الآن في جيل التسعينيات.
هذا الجيل الثالث والذي نعيشه اليوم اعتقد انه ـ إذا شئت ـ جيل المرحلة المأساوية من تاريخ قصيدة النثر، لأن المطلوب من شعراء هذا الجيل أن لا يدافعوا عن المصطلح وشرعية قصيدة النثر فحسب، بل أن يثبتوا أن هذا الشكل قادر على الحياة وقابل للتطوير، وهذا ما يفعله كل على طريقته.

لو أخذنا مثالا ما يسميه أمجد ناصر "قصيدة الكتلة" هذا شكل من أشكال الاجتهاد العميق في شكل قصيدة النثر، لأن الشاعر أدرك أن هناك مأزقا في الاستمرار بكتابة قصيدة لا تتميز عن الآخرين الا في مهارة الشاعر باقتناص الصور والمجازات، ولهذا ذهب أمجد للبحث عما يسميه هو (قصيدة النثر).
إذن هذا جيل تحمّل مسؤولية الدفاع عن المصطلح، وبالوقت ذاته يتحمل، وسوف يتحمل ـ كما أرى ـ مسؤولية تطوير الشكل الذي أظن انه للأسف بات شكلا محافظا على عكس ما نتوقع.

 ثمة أشكال لا نهائية ـ لنقل ـ ستدخل على القصيدة العربية كما هي الآن، فما تعليقك؟

 الشعر شكل مفتوح، وكما تعلمين، قد نعثر على الشعر في لوحة تشكيلية أو في سيمفونية موسيقية، وقد تعثر عليه في ائتلاف ملابس امرأة أنيقة، يمكن أن نعثر عليه في الشارع عفويا اعتباطيا... الخ.
لكن الشعري في الكتابة يحتاج الى وقفة معمقة عند الشكل، ووقفة أخرى عند ارتباط الشكل بالذائقة السائدة، اليوم لا نستطيع أن نكتب ملحمة على غرار هوميروس، رغم أنه من الشرعي أن تكتب ملحمة، وكذلك يبدو غريبا أن نجد الآن من يكتب معلقة ونحن في مطالع القرن الحادي والعشرين، ولكن شكل المعلقة لم يفقد شرعيته، لكن بهذا المعنى اقصد أن أشكال الشعر مفتوحة تتجاوز نفسها دون أن تلغي نفسها، وهي مفتوحة بمعنى أنها تتصل بقدرة الشاعر على تطوير موضوعاته وأشكاله وإحساسه بأن الشكل بات على علاقة جامدة، أو راكدة مع الذائقة، ويحتاج بالتالي الى تطوير والى اجتهاد.

وبهذا أظن أن الشعر العربي، الآن أشكاله مفتوحة، وقد نجد عودة الى قصيدة التفعيلة، وأعطي مثالا ملموسا، شاعر مثل: سركون بولص قضى أكثر من ثلاثين سنة وهو يكتب قصيدة النثر فقط، في المرحلة الأخيرة كتب عددا كبيرا من قصائد التفعيلة وبالتالي يمكن أن تشهد ردة أو عودة الى شكل التفعيلة، ويمكن أن نشهد تطويرا استثنائيا وخاصا لشكل قصيدة النثر، وبهذا المعنى فإن موقفي من الأشكال يظل ديمقراطيا، أنا ابحث عن الشعري بصرف النظر عن الشكل، وابحث في الشكل عن براعة صناعة الشكل وبهذا المعنى أنا اقبل كل الأشكال، ومعيار الشكل هو ما يصنعه من شعر في الواقع.

العويس: جائزة محترمة

 في شهادتك التي قدمتها إبان تسلم الشاعر البحريني قاسم حداد جائزة العويس، اعتبرت أن منح هذه الجائزة لشاعر قصيدة نثر .. هو تكريم لقصيدة النثر ذاتها؟

 لقد شاركت في تحكيم جائزة العويس وأعرف كيف تتخذ القرارات، وبالمناسبة هي جائزة رفيعة ومحترمة، وهي "نوبل" العرب، ولجان التحكيم تعمل باستقلالية وحرية تامة.

وأعتقد أن منح الجائزة لقاسم حداد يمثل نقلة استثنائية على مستويين:
الأول: أن منح الجائزة لقاسم حداد صنع نقلة في الجيل الشعري، فقبل قاسم حداد حصل على الجائزة محمد عفيفي مطر الذي ينتمي الى جيل أمل دنقل وجيل ما بعد صلاح عبد الصبور، وجيل ممدوح عدوان وجيل علي الجندي، الخ على صعيد العالم العربي وبالتالي منحها لقاسم حداد يشكل نقلة الى جيل ـ بمعنى السن ـ إذا شئت ـ هو جيل قاسم حداد.

وفي مستوى الأشكال، للمرة الأولى تمنح لجنة جائزة العويس جائزتها الى شاعر يكتب قصيدة النثر وهو بدأ وما يزال يكتب قصيدة التفعيلة، ولكن السمة الغالبة على نتاجه كمحصلة هو قصيدة النثر، وبالتالي اختيار حداد يعتبر شكلا من أشكال التكريم لقصيدة النثر، والاعتراف بشرعيتها، خصوصا أن هناك آراء عديدة مؤخرا يبدو فيها وكأن قصيدة النثر، غير شرعية، وأنها لا تنتمي الى الشعر، وان من يعترف بقصيدة النثر هم الشعراء، وقلة قليلة من القراء، خصوصا وان المؤسسات والجامعات والجهات الأكاديمية لا تدخلها في عداد الشعر.

يمكن القول أن لجنة تحكيم العويس تمتعت بالجسارة وهي تمنح حداد جائزتها، وهو بالطبع يستحقها، بصرف النظر عن مسألة الجيل والشكل، ولكن هذه الاعتبارات يجب التوقف عندها.

جوائز وأدباء!

 هل تعتقد أن الجوائز العربية الموجودة حاليا، أو تلك التي تمنح على مستوى الدولة الواحدة تسعى بالفعل الى صنع ناقد أو أديب أو شاعر أو لنقل هل هي عامل محفز في الإنتاج الإبداعي للمبدع العربي؟

 لا نستطيع الحديث بشكل مطلق، أنا أميز جائزة سلطان العويس عن كل الجوائز العربية الأخرى لسبب جوهري وبسيط هو أن "جائزة العويس" وحدها الجائزة المستقلة التي تعطي لجان التحكيم الحرية المطلقة في اتخاذ القرار كما إن نظامها الداخلي لا يسمح بأي تسويات ومساومات سرية بين أعضاء لجان التحكيم، فعضو لجنة التحكيم لا يعرف زميله في اللجنة المختصة الا ساعة الاجتماع، فعلى سبيل المثال لا يعرف عضو لجنة الرواية أسماء أعضاء اللجنة، هنالك سرية تامة، وهنالك نقاش معمق، وهنالك فرصة لإقناع الآخرين، والتصويت لا يتم الا بعد نقاش مستفيض.

أنا أحترم الأدباء والمبدعين الذين يحصدون الجوائز العربية، وان كنت لا احترم بعض هذه الجوائز خصوصا تلك التي لها شروط "مذلة" ولا تقبل ترشيح شاعر قصيدة نثر ـ على سبيل المثال ـ أولها اشتراطات سياسية معينة بمعنى الجوائز المسيسة.
وعلى سبيل المثال لدينا سلسلة الجوائز المحلية التي تمنح محليا في أي دولة فهي غالبا ما تمنح لاعتبارات مختلفة أما سياسية أو شللية أو بناء على الإنتاج الكمي للمبدع.

 هل تشاركني الاعتقاد بأن الناقد يعاني دائما، في البحث عن شكل معين للأدب، حتى يتخصص فيه، تماما كما يعاني المبدع في اختيار الشكل الرئيسي لإبداعه، رواية... قصة.. شعر .. مسرح... الخ هل هنالك معاناة حقيقية لدى النقاد في هذا الإطار؟

 أعتقد أن الناقد يعاني بمعنى الصراع بينه وبين ذائقته الشخصية، المرء قد يميل الى الموسيقى الكلاسيكية أكثر من موسيقى الجاز، أو الروك، وبالتالي يفضل نوعا على آخر، وهذا شيء له علاقة بتربيته الشخصية، وذائقته، ومزاجه.
وبالنسبة للأنواع الأدبية، من واجب الناقد أن يكون مستعدا لدراسة أي نوع أدبي، أن كان شعرا أو رواية أو قصة قصيرة .. الخ، ولكن قد يكون التخصص مفيدا أحيانا، وقد يكون التصالح قليلا، أو التآمر قليلا مع المزاج الشخصي للناقد، وما يحب وما يكره من الأنواع الأدبية مفيدا أيضا، من أحيانا أخرى.

درويش أعادني للشعر

وبالنسبة لي فقد بدأت بسبب اعتبارات نظرية تخص اعتناقي المبكر للنظرية الماركسية بدأت الكتابة حول الرواية، لأنني كنت اعتبر الشعر رفاء وترفا، وان الرواية هي وحدها التي تخدم الشعب، وتخدم قضايا النضال الاجتماعي وبالتالي هي كما يقول "جورج لوكاتش" ملحمة البرجوازية المعاصرة، وظل هذا الحال سائدا في الواقع ـ وأقول ذلك للإنصاف ـ حتى قرأت محمود درويش بعمق، واعترف أنه أعادني الى الشعر، بمعنى أنني أدركت أن الشعر ليس أرقى أشكال التعبير الأدبي والجمالي فحسب، بل أرقى من أي نوع أدبي وفني آخر، ويمكن للشعر أن يلعب أدورا اجتماعية وإنسانية أكثر أهمية وخطورة بكثير مما تفعله الرواية.

ولهذا بدأ مزاجي يتطور باتجاه الشعر وللعلم لم انقطع عن الكتابة عن الرواية بين حين وآخر، وان كنت أصبحت أكثر ميلا للكتابة عن الشعر.

من جانب آخر حدث أن مزاجي تحول قليلا من الانحياز الى التفعيلة الى القناعة بأن الكثير من مستقبل الشعر العربي ينبع من قصيدة النثر، ولهذا بدأ انحيازي واضحا لقصيدة النثر، دون أن يعني ذلك كما قلت أنني لست ديمقراطيا في التعامل مع كل الأشكال للكتابة الشعرية، وأظن أن لهذا علاقة بالمزاج الشخصي وبالذائقة الشخصية، ـ كما قلت ـ لما يحبه ويكرهه الناقد كانسان.
هذا من جانب ومن جانب آخر أظن أن هذا له علاقة بالنتاج الأدبي الذي يتوفر بين يدي الناقد حين يكون هناك شعر أشكالي، ويثير النقاش اليومي، ويفتح شهية الناقد الى الدراسة، ويضع أمامه تحديات فتح أسرار النص والتوغل عميقا فيه، والوصول الى مغاليق العمل الأدبي، حين يتوفر مثل هذا النتاج، فإن الناقد ـ أيضا ـ يجد ميلا الى التوقف أكثر عند الشعر، من أنواع أدبية أخرى، وكما تعلمين الآن ليس لدينا مشكلة في التنظير النقدي للرواية، بل في التنظير النقدي للشعر تحديدا، وهذا يعني إن الشعر نفسه يوفر للناقد شكلا من أشكال التحريض المباشر، وأحيانا غير المباشر، كي يحيل الى كتابة النقد الشعري أكثر من غيره.

 قلت ذات مقابلة من غير الممكن أن يتفوق الناقد على النص، وان المبدع دائما يتفوق على الناقد لكنني أعتقد أن الناقد أيضا بحاجة الى أدوات وعمق وقدرة على تأويل النص وفتح مغاليقه وإعطائه أبعادا جديدة، تحليلية وجمالية، فيها إضاءة للنص، وعلى الناقد اختيار النص الإشكالي لمشاكسته، أو لمتابعته؟ خصوصا وان المبدع يكتب بطريقة ما ربما لا يعرف سببها؟

 الحقيقة لا أظن أنني في يوم من الأيام سأتفوق كناقد على المبدع، لسبب بسيط هو أن النقد في نظري نشاط معرفي في حين أن الأدب نشاط إبداعي، والإبداع ليس معرفة، الناقد يميل لأن يفرق وينبغي أن يفرق في التحليل في حين أن المبدع لا يكتب وهو يفكر في آليات الإبداع التي هي مختلفة عن آليات النقد، وبالتالي أدرس مجموعة شعرية كما أسوق "دراجة" بشكل "اتوماتيكي" ينبغي أن أحلل، وان استحضر الوعي وأدوات التحليل، الأمر الذي لا يفعله المبدع الشاعر الروائي، ذلك أن الإبداع يأتي على شكل طفرات شعرية وطفرات إبداعية خاصة.
وما يملكه الناقد من أدوات في التحليل لا ينبغي للشاعر أن يملكها وليس من واجبه أن يملكها ولكنه أمر سيء للغاية أن يدرب الشاعر نفسه على الكتابة وكأنه ناقد، لأنه في الواقع سيكتب أدبا مصطنعا وفيه الكثير من التكلف.

هناك الكثير من النماذج إذ يكتب الشاعر دون أن يدرك كامل الخصائص الجمالية والفنية لكل ما يكتب، وهذا أمر طبيعي، وينبغي لهذه الخصائص أن تكتشف من قبل الناقد، وإذا عجز الناقد عن اكتشافها، أنا أقول لك: راهني أن القارئ سوف يكتشفها، لأن للإبداع حضورا إنسانيا طاغيا، وهذا هو سر حاجتنا للإبداع.

ثمة الكثير الذي لم يكتشفه معاصرو شكسبير مثلا، فاكتشفه آخرون وثمة الكثير الذي نتذوقه الآن في شعر المتنبي ـ على سبيل المثال ـ وسيتذوقه ـ ربما أفضل منا ـ أجيال أخرى قادمة، هذه عملية سيرورة متواصلة، وبالطبع يغضب مني الكثير من النقاد الأصدقاء، لا لأنني أقول أن النقد نشاط معرفي وليس إبداعيا، لأنه فعلا كذلك، في حين بعض النقاد يعتبر النقد إبداعا مثله مثل الشعر مثلا، وهنالك من يشاطره هذا الرأي من الشعراء.
أنا لا أعتقد ذلك، أظن أن التحليل يفسد نهائيا فرصة أن يتحول الناقد الى شاعر، وفي الواقع هنالك الكثير من النقاد الجيدين الذين كانوا شعراء فاشلين وهذا أمر طبيعي، وهذه ليست قاعدة ولكن المقولة الشائعة، التي تقال على سبيل النكتة صحيحة .. هنالك كثير من النقاد الجيدين الذين كانوا اما روائيين فاشلين، أو شعراء فاشلين، وبالتالي فشلوا لأن التحليل سيطر عليهم أكثر من قوة الإبداع التي تأتي تلقائية.

ترجمة ادوارد سعيد

 لكنك ناقد مبدع ومتنوع في أعمالك، فضلا عن ترجمتك لأعمال ادوارد سعيد في مسألة "حوار الآخر".. فما الذي دفعك للترجمة؟

 في الحقيقة كنت انوي ترجمة كتاب ادوارد سعيد "حوار الآخر" بتكليف من دار الآداب اللبنانية الا أن ظروف ادوارد سعيد الصحية ـ آنذاك ـ حالت دون ذلك، وأقلعت عن الفكرة بعد ذلك.
وسبق أن ترجمت كتابا خاصا، كنا اتفقنا سعيد وأنا على صناعته، ذلك أنه لا يوجد لدى سعيد كتاب اسمه "تعقيبات على الاستشراق" لقد اخترت بمعاونة سعيد وموافقته عددا من المقالات التي يرد فيها سعيد على منتقدي كتابه "الاستشراق" واخترت أيضا مقالات يراجع نفسه فيها، ثم تحاورنا وأصدرنا الكتاب على هذا الأساس.
وبهذا إذا كان هناك من جانب إبداعي فهو إبداع ادوارد سعيد بمحاورة ناقديه، وبمحاورة نفسه.
الترجمة فعل معرفي ونشاط ثقافي شديد الأهمية، وأنا استغرب من أي مثقف أو ناقد لا يمارس الترجمة، فالترجمة واجب مهم، ولكن فعلا أنا لا اعتبر أنني أقوم بأي عمل إبداعي حين أترجم، أو حين اكتب دراسة نقدية، أيا كان مستوى نجاحي في ذلك، أو توفيقي في دراسة مجموعة شعرية، أو دراسة كتاب، أو ترجمة كتاب، فأنا لا أعتبر ذلك إبداعا، الإبداع يخص الأنواع الإبداعية وكل ما عداها نشاط معرفي، وإلا لقلنا أن فيلسوفا ـ أي فيلسوف ـ هو مبدع مثله مثل أي شاعر آخر.

 أنت معرض عن نشر كتاباتك النقدية ومقالاتك المنشورة في غير صحيفة ومجلة عربية أو أجنبية في كتاب، أو جمعها بحيث يتاح للقارئ أو الدارس متابعتها، فلماذا هذا العزوف؟

 هو في الواقع ليس عزوفا، بقدر ما هو تأجيل للمسألة، لدي العديد من المشاريع، والكتب الحبيسة في "الكمبيوتر" والتي تنتظر النور ذات يوم، وأنا أعتقد أن انجاز هذه الكتب يرتدي أولوية أكثر من جمع مقالاتي ودراساتي السابقة في كتب، رغم أهمية هذا الإجراء، وارى أن الكتاب ينبغي أن يولد منذ الصفحة الأولى وحتى الصفحة الأخيرة ككتاب، وان يؤلف ككتاب، أي أن يوضع له مشروع وتخطيط خاص وان يجري تأليفه فصلا بعد آخر ككتاب، وليس عن طريق تجميع عدد من الدراسات وإطلاق (اسم( غالبا ما يكون مضللا عليها.

طبعا ذات يوم سوف تجمع دراساتي سواء على يدي أو على يدي سواي والأهم بالنسبة لي الآن أن أنجز الأعمال التي أعتبر أنها هامة والتي من جانب آخر لا أجد أنني في عجلة من أمري لإصدارها، الى أن أرضى عنها تماما.

أتابع المشهد من باريس!

 أنت ناقد جدلي ـ لنقل ـ تقيم في باريس، تنشر في صحيفة "القدس العربي" اللندنية و "النهار" البيروتية، وتنشر في دورية "الكرمل" الفلسطينية ودوريات أخرى، والسؤال كيف تتابع كل ما يصدر في العالم العربي من إنتاج إبداعي .. من غربتك الباريسية؟

 في السنوات السابقة كان الأمر صعبا فعلا، وكان الحصول على النتاج الشعري والمجموعات الجديدة والإنتاج الأدبي إجمالا للأقطار العربية أمرا غير متيسر بالنظر الى صعوبة التوزيع في أوروبا، وفي فرنسا تحديدا، أحاول توسيع حجم اطلاعي على ما ينتج من أدب في العالم العربي عبر وسيلتين الآن.
الوسيلة الأولى هي "الانترنت" والتي باتت توفر الكثير من الفرص للاطلاع على النتاج سواء من خلال قراءته في الصحف والدوريات العربية التي لم تكن تصل الى أو ما تزال لا تصل الى باريس "ورقيا" ولكنها تصل عن طريق الانترنت، أو عن طريق ما ينشر مباشرة على الصفحات والمواقع الشخصية الالكترونية للشعراء.
وعلى سبيل المثال صديقنا قاسم حداد وموقع "جهة الشعر" الذي قدم خدمة ممتازة وهو أشبه بمكتبة شعرية آخذة بالتطور والاغتناء قدمت خدمة ممتازة لدارس الشعر العربي.
من جانب آخر أيضا هناك اللقاءات التي تتيحها مناسبات مثل مهرجان جرش الشعري مثلا، حيث يتاح لي أن أتحاور مع المبدعين العرب واطلع على نتاجهم أيضا، وارصد بطريقة أكثر دقة واقترابا ملامح المشهد الذي لا يتاح لي أن أراقبه من بعد.

 هنالك الكثير من المبدعين الذين أثبتوا فرادتهم وتميزهم في شتى أنواع النتاج الإبداعي، لكن يلاحظ أن العديدين منهم ـ وبعد مرور فترة زمنية ـ لا يعود مستواهم الإبداعي كما كان.. أو كما بدأوا، هل تحاكمهم أو تطالهم سكين النقد؟ أم تشفع لهم أسماؤهم وانجازاتهم السابقة؟

 لو أعطيتني مثالا لأجبتك بشكل أفضل، ولكن كظاهرة أقول بصراحة إنني أحاول بذل ما استطيع من جهد لإنصاف الإبداع العربي الجيد والمتميز، اما الإبداع العربي الوسط والرديء فإنني لا أكتب ضده، ولا أتناوله أصلا، واتركه لناقد أهم مني واكبر هو القارئ.
الآن بالنسبة الى المبدعين الذين خبا إبداعهم أو تضاءل أو تراجع، هذه سنة الحياة، ولا يمكن لأي مبدع في أي ميدان أن تبقى جذوة إبداعه متقدة طيلة الأزمنة، وطيلة العهود، حتى الرياضي الجيد يعتزل في فترة إحساسه أن الكثير من مهاراته قد تراجع.

المبدع ـ في نظري ـ الذي يواصل الكتابة وهو يعلم أنه أخذ يكتب أدبا رديئا هو جانٍ على نفسه، ولكن أنا من جانبي لا اذهب إليه، احترم تاريخه، لكن لا امتدحه ولا أنال منه، ولكن ينبغي فعلا أن يحافظ مبدعون من النوع الذي تقصدين على تاريخهم وإبداعهم. وان يعتزلوا الكتابة كما يفعل زين الدين زيدان، فإذا كان لاعب كرة قدم أعطى وتألق، ثم شعر أنه لا يستطيع أن يعطي أكثر، بل انه سوف يتراجع فينبغي أن يقف حيث انتهى، وان يمارس ما يجعله يُذكر على الألسن بطريقة محترمة. ولنقل أن شاعرا كان كبيرا ثم اخذ يتراجع، أنا أظن أن من الخير له أن يتوقف عن الكتابة، وان يتأمل في سيرته الشعرية، وان يحاول إذا وسعه الأمر إن ينظر حول تجربته الشخصية، وأن يفيد الناس حول كتابته، أكثر مما يكتب الشعر، وهنالك مثال اعتبره ملموسا وهاما جدا لمحمد الماغوط، الذي قرر في وقت شهد ذروة عطائه أن يتوقف عن كتابة الشعر، لأنه شعر أنه لن يقدم الشعر الذي ننتظره منه.
وهذا موقف ينبغي أن نحترمه عليه، فكتب المسرح، ثم كتب المقالة الرشيقة والجميلة، وما نزال نحترمه كشاعر دون أن نقول انه بلغ دركا أسفل في الكتابة الشعرية.

 إذا أردنا الحديث عن "نص المنفى" لماذا عجز الأديب العربي عن كتابة نص المنفى كما فعل أدباء آخرون، قضايا بلادهم اقل أهمية وإنسانية ربما ـ من قضايانا ـ لماذا عجز العرب عن هذا النوع من الكتابة الذي يستعيد ألق القصيدة/ الكلمة؟

 أنا اختلف معك تماما، نص المنفى ليس هو بالضرورة الذي يشكو عذابات المنفى، ويتوجع حنينا الى الوطن، أو يعبر عن قضايا سياسية، أو يتكلم باسم المنفيين، نص المنفى هو الذي يكتبه الآدمي بعيدا عن وطنه في حال اغتراب، أو في حال سفر، أو هجرة، وبهذا المعنى، فإن تسعة أعشار شعر محمود درويش هي نصوص منفى، وتسعة أعشار شعر ادونيس، هو أدب منفى، لأنه كتب خارج الوطن، ـ وطن درويش أو وطن ادونيس ـ وكتب ضمن سياقات اغتراب، وسياقات علاقة مع عالم آخر خارجي، وكتب سواء في التعبير عن المنفي أو في التهرب الذكي والبارع والحيوي من ضغط الإحساس بالمنفى. وهذا أيضا جدلي وحيوي في الحالتين.
أما الأدب الذي تقصدين، مثل الذي يكتبه نوري الجراح، والذي يكتبه امجد ناصر الذي يحن الى المفرق مثلا، أو عمان ولكنه يكتب في الغربة فهو أدب منفى، ما تتحدثين عنه وهو الوقوف عند شروط النفي والمنفي والوطن الخ. هذا في معظم آداب الأمم هو أدب أقلوي خاص لا يكتبه كل المبدعين، وليس كل المبدعين بقادرين على كتابته بطريقة خاصة وأخاذة، فشاعر كبير مثل "لوركا" الذي كتب في نيويورك قصائد حنين الى اسبانيا ولكنه لم يكن ممنوعا من الذهاب الى اسبانيا، هو شعر أنه منفي في نيويورك المدينة الوحشية رمز الرأسمالية، وان كان نفيه ليس من صنع خارجي أو من صنع ذاته، كان نفيا له علاقة بآلة الحضارة، التي تمثلها نيويورك.

ويحضرني شاعر آخر كبير له مزاج واتجاه يساري مثل بابلو نيرودا كتب في منفاه الايطالي عددا من أجمل قصائد الحب، ولكنه لم يكتب الا القليل من القصائد التي تتغنى بـ "تشيللي" رغم انه كان في المنفى، شرط المنفى لا يعني بالضرورة أن يكتب المرء أدبا منفويا ـ إذا صح استخدام هذا التعبير.

 كيف ترى الى حركة التقدم العربي، هل هناك أصوات نقدية شابة لافتة؟
 أنا اردد دائما أن النقد العربي لم يعد بحاجة الآن الى جهد جماعي يبذله عدد من النقاد، ـ دون صيغة موحدة للعمل ـ كل على طريقته.
في الخمسينيات والستينيات كان عدد من النقاد يبرزون بطريقة خاصة، وكنا وما نزال نقول عن الراحل إحسان عباس أنه شيخ نقاد الشعر، أو شيخ النقاد، ولكن مثال إحسان عباس لن يتكرر، وكذلك مثال شوقي ضيف في مصر، هؤلاء النقاد الذين اشتغلوا في النقد منذ اللبنة الأولى وأسسوا النقد العربي، كي يعلموا الناس سلسلة من المعارف في دراسة الأدب، الآن الأدب بحاجة الى جهد جماعي يفعله عدد من النقاد الشباب، وهم ليسوا كذلك، كما نقول عن الشعراء الشباب وقد بلغوا الخمسين من عمرهم لكن يظل هنالك تقصير كبير في العثور على التوازن من حيث الكم والنوع بين ما ينتج من إبداع، وبين ما ينتج من نقد حول الإبداع، أو نقد في النظرية المحضة أيضا، إذ هنالك خلل واضح نعيشه في الواقع لأسباب معرفية، كما لدينا خلل كبير في علاقتنا مع المعلوماتية مثلا، أو احساسنا بموسيقى الجاز مثلا، لدينا أيضا تقصير وتخلف ـ إذا صح القول ـ في العلاقة مع النقد، والتنظير النقدي.

 معظم الدوريات تركز على الإبداع والمنتج الأدبي، في حين المساحة المعطاة للهامش النقدي أقل، هل ترى كناقد ضرورة لاستحداث دوريات متخصصة بالنقد على مستوى العالم العربي؟

 ليس بالضرورة أنا أقول أن واحدة من أهم وظائف الناقد لا نمارسها، أو أحيانا نبدو وكأننا نحتقرها، الا وهي المراجعة النقدية، كبار النقاد في الغرب يعتبرون المراجعة النقدية، أي الكتابة عن المجموعة الشعرية في صحيفة، وليس في مجلة ضخمة وشهيرة، الكتابة في صحيفة واجب هام جدا في تحريض القارئ وتعريفه بصدور مجموعة جديدة. أنا من جانبي أمارس هذه الوظيفة واعتبرها أشد أهمية في الواقع من أن أعكف في بيتي ستة أشهر لتأليف مجلد ضخم ـ كتاب نقدي ـ هذا ربما يفسر انحيازي الى الدراسة والمقالة المنفردة أكثر من الكتب التي تجمع الدراسات ... الخ.

وبهذا المعنى أقول أن ما يكتب في الصحف يشجع المواطن على القراءة.. فهو يطالع أخبارا تمس حياته اليومية فلماذا لا يعرف الإصدارات الجديدة والنقدية، ولذا، أشجع حبسها في إصدارات دورية نخبوية لا يطلع عليها الا عدد قليل جدا من المهتمين فيبدو وكأننا نقبرها قبل أن تولد.

 هل تكتب أيا من أنواع الأدب، شعر، قصة، رواية، مذكرات؟

 أبدا، وكلا أبدا، ونهائيا.

حاورته سميرة عوض - الرأي الأردنية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى