السبت ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
عالمية المصير الانساني وأزمات الهوية:
بقلم عزيز مشواط

النزعات القومية والدينية و الاثنية في مواجهة عولمة الحداثة

تنظر العولمة الى شعوب العالم من منظور وحدة الجنس البشري بصورة تتجاوز الخصوصيات العقائدية أوالقيميةأواللغوية " ومن ثمة تسعى من حيث المبدأ الى تحطيم الحدود وإلغاء حالة الانغلاق بين الشعوب والأعراق والاثنيات،فلم يعد بالامكان الحديث عن حالة العزلة أوالنقاء الثقافي بفعل ما أحدثته ثورة الاتِّصالات وعولمة الاقتصاد من اختراق كاسح وتحطيم شديد لكل أشكال الحدود، لذلك صارت التخوم مفتوحة أمام عمليات التبادل بكل أنواعها .فكيف تحولت العولمة من اداة للبحث عن وحدة انسانية الى عامل انبثاق للنزعات الأصولية سواء كانت دينية أو قومية أو اثنية ؟

الاتصالات التي أسهمت في تحطيم الحدود أحدثت رجات كبرى وصادمة للذاكرة الجماعية التي تتشكِّل منها الهوية بمختلف أنواعها، فقد أدَّى تحطيم أسوارالانعزال الى انهيار أسطورة الصفاء الثقافي والعرقي وصارت المجتمعات مهددة بفعل افرازات ثورة الاتصالات وعولمة القيم المسنودة بأجهزة اعلامية ضخمةوبمؤسسات متعددة الجنسية من خلال أبعادها "العبر-قومية" .

التهديد الذي صار محط مساءلة و موضع نقاش حاد بفعل التخوفات التي اثارها، لا يجب ان يخفي الابعاد الاجابية للعولمة التي تؤكِّد عالمية المصير الانساني المشترك لكلِّ سكان المعمورة. لكن العولمة وهي تبحث عن وحدة عالمية مفترضة كشفت في أكثر من موضع عن سيطرة متخيل مبني على خطِّية زمنية مبسِّطة لحركة المجتمعات؛ من خلال النماذج التي فرضتها مؤسسات العولمة وهي نماذج مستمدة من قوة التقنية الغربية ونمط العيش الأورو أمريكي ،الامر الذي يهدد السيادة القومية من خلال البُعد "العبرقومي" للنشاط الحياتي البشري الذي بشرت به اتفاقيات الغاء الحدود التي لم تشمل الحدود بمعناها الاقتصادي و الجغرافي، بل تجاوزتها الى المستوى القيمي بما يعنيه ذلك من علاقات اللاتكافئ القائمة بين طرفي المعادلة،هذا اللا تكافئ افرز مقاومات تقف ضد الانسية الجديدة وضد مفهوم الهويات فوق قومية، وفي الوقت نفسه تحاول خلق نماذج جديدة .
وهكذا وعلى الرغم من ارتفاع شعارات انتهاء عصر القوميات في الشمال والغرب، نجد أنَّ المسألة القومية في ابعادها الهوياتية الدينية و العرقية لا تزال هي القضية الأساسية في الحِراك السياسي في الجنوب والشرق. ومازالت الحقوق القومية بندًا أساسيًّا على جداول أعمال الحكومات والأحزاب السياسية.

خلقت العولمة في سعيها نحو التنميط وخلق نموذج أحادي ما يشبه انفصاما جماعيا في أوساط المجتمعات المسماة ثالثية ،وذلك بفعل الاجبار الذي وجدت هاته المجتمعات نفسها ملزمة بالانخراط فيه،فالقيم العالمية الجديدة، والتي أضحت مفروضة بقوة المؤسسات الاعلاميةوالحقوقية واشاعتها عبر وسائط اتصال جد متطورة، خلقت فِصاما في توجُّهات هاته المجتمعات التي صارت مجبرة بفعل اكراهات اقتصادية على الدخول في سياق لبرلة الاقتصاد والقيم أوالانزواء في ركن من اركان المعمور في انتظار اوامر الغزو تحت يافطة عدم الالتزام بحقوق الانسان و غيرها من المبررات الأخرى ..

لقد فرضت العولمة منطقا جديدا على مجموعة من الدول و المجتمعات ،و أجبرتها إما أن تتخلَّى عن سيادتها، وإما أن تلغي دورها في النظام العالمي الجديد..

نجمت حالة الفصام هاته عن مضاعفات عملية التطور الشامل الناتج عن اتجاه كوني نحو التعقيد، مما أفرز نقاط التماس كثيرة بين الجماعات والأفراد استحالت معه كلِّ إمكانية للتقوقع، بل صار التداخل والتشابك ميزة الوجود الانساني ،في اطار اخترق كل نزعة خصوصية لصالح نزعة الاختلاط الثقافي العابر للاجناس و الحدود و الثقافات ، الأمر الذي يجبر الثقافات المحلِّية على الدخول في مواجهات عديدة و غير متكافئة في غالب الحالات ،فتعلن الجماعات الاثنية و الدينية الثقافية عن عداء مستعير لكل القيم الدخيلة أملا في الحفاظ على مرجعياتها و نقاط الارتكاز لديها،وهذا ما يرفع من حدة النزعات القومية والعرقية والدينية المحلِّية. يقول جيدنز : «إنَّ عملية إحياء النزاعات القومية المحلِّية وتزايد حدة الهويات القومية مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بتأثيرات العولمة». [1]

تكمن تأثيرات العولمة على الثقافات والهويات المحلية من خلال الفعل التفكيكي الذي تمارسه على كل الخصائص المميزة لجماعة معينة،حيث التهديد المستمر بالغاء الحواجز الثقافية،ومضاعفات ذلك على موازين القوى التي تميل لصالح الثقافات العابرة للقوميات .
يدفع التهديد الذي تفرضه العولمة بهذه الثقافات إلى البحث عن الصيغ الكفيلة بحفظ البقاء ،الأمرالذي يفرز سلوكات مقاومة بدعوى الخصوصية، والانغلاق على الذات بدعوى التميُّز والصفاء والقدسية،وتشكل العودة الى الماضي بحثا عن ملجأ افتراضي محتمل احدى وسائل اثبات الجذور والبحث عن تعويض ، في محاولة مستميتة لنفي المستجدات والمتغيرات العالمية.

واذا كان رفض المستجدات يرمي الى حماية الهوية من الذوبان فانه بالمقابل "يؤدي إلى مزيدٍ من إقصاء الذات وإلى فقدان الفاعلية المسهمة في التأسيس لثقافة جديدة. وهذا ما يفضي إلى خلق استقطابات جديدة تغدو بؤرًا للصراع ومنابع للتطرف والرفض والأصولية في مختلف أشكالها: الدينية، القومية، العرقية، إلخ. ترفض الثقافات المحلِّية "التهجين الثقافي" الذي تبشِّر به عولمة الحداثة خوفًا من الذوبان في مجتمع التعدد الثقافي؛ ويأتي هذا الرفض من الثقافة المحلِّية الكبيرة المهيمنة على الثقافات "الصغيرة" لأنَّ التعددية تهدد سلطتها.

عزيز مشواط
كاتب وباحث من المغرب


[1-جيدنز، أنطوني، بعيدًا عن اليسار واليمين – مستقبل السياسات الراديكالية، ترجمة شوقي جلال، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، سلسلة "عالم المعرفة"، العدد 286، أكتوبر 2002.


مشاركة منتدى

  • العولمة بمفهومها الشامل لا تغيّب التنوع الثقافي بل تدعمه لأنه يمثل ثراءا للبشرية. لكن ما يحصل الآن لمفهوم العولمة هو مسخ لكلمة حق أريد بها باطل. دعات العولمة الزائفة هم كبار أغنياء العالم سواء كانوا دولا أو مجموعات مالية متعددة الجنسيات. لقد أصبحت العولمة سيفا مسلطا على جل الشعوب حتى المتقدمة منها، وما مشاكل البطالة والإقصاء التي تعاني منها الشعوب المتقدمة في أوربا إلا دليل على شراسة النهج الذي يتخذه غلاة العولمة بمفهومها الأمبريالي.
    العولمة التي لم يتطرق لها الكاتب هي التي تبنيها الشعوب المناضلة من أجل مصير مشترك للبشرية تكون فيه مبادء المساواة وحقوق الإنسان وتلاقح الثقافات هي المنارة التي تنير الطريق نحو إنسان أفضل، ومحيط أفضل، وخير وفير لكل البشرية.
    إن التقدّم العلمي والتكنلوجي الحاصل خلال هذه السنوات الأخيرة يبشّر بقفزة نوعية للبشرية نحو الازدهار والرقي. لكن جشع المضاربين سواء كانوا دولا أو مجموعات مالية أدخلت البلبلة في الفكر البشري، وأضعفت حماس البشر نحو التقارب والتآزر لبناء مستقبل واحد يستند إلى حب الخير للجميع والتعايش الطبيعي كما هو الحال لكل المخلوقات التي أفرزتها الطبيعة في تجاربها الخلاقة منذ أن نشأت الحياة على الأرض...
    الهادي ثابت
    alhadithabet@voila.fr

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى