الاثنين ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم علي دهيني

النقد.. وأبواب الحياة

النقد.. وأبواب الحياة

الغبي "يظن" نفسه حكيما، والحكيم "يقول" عن نفسه إنه غبي.

هذه الجملة سمعتها أو قرأتها لا أذكر، وحتى إذا كانت من لسان عربي أو غيره، المهم أنها تستبطن الكثير، وهي تعبير كامل عن فقدان التوازن الفكري.

إن أكبر مصائب الشعوب هي لغة الشكوى التي هي من أبرز عناوين الاستسلام والانهزام والتقوقع على الذات والهروب من المواجهة مع الذات أولاً لتكون منتجة فاعلة لا متقاعسة خاملة، ثم مع الحياة.

ووجه آخر مما تضج به الصفحات وتمتلئ به الشاشات والساحات من تهشيم للذات والبكاء والنواح على أطلال الإبداعات باسم التجلي الوجداني، فتقام الحلقات لمناقشة ما حملته الروايات من أوصاف "لشراشف" و"ملاحف" الأسرة وملتحفيها، وتصوير ما يجري عليها من انفعالات وتنهدات في الغرف، أصبحت عنواناً للتحرر، وكأن كاتبها أو كاتبتها لم يجدا متنفسا في الحياة، سوى أبواب الحياة.

ونسترسل بعيداً في موضوع هو من أهم الموضوعات في حياة المجتمعات والشعوب، وهو موضوع النقد، وما يندرج تحت هذا العنوان من إمكانات مطلوبة ومعرفة متنوعة. فنجد أن الإبحار في هذا المركب يُمطّ كثيراً ليتسع لكل من رغب الصعود إليه. وأن لغة النقد ومادته صارتا في اتجاه واحد لا مَحيد عنه، "الصورة السوداء"!؟.

ففي الفترة الأخيرة أقيم في القاهرة "مؤتمر النقد الأدبي" دعي إليه العديد من الأسماء اللامعة في مجال النقد وشؤونه وشجونه، وتمنّع عن حضوره أكثر المدعوين من خارج مصر وهم من أبرز النقاد، وربما في خلفيات هذا التمنّع عن الحضور أن أي نشاط فكري أو ثقافي بات من السهل استثماره سياسياً وبالتالي يفقد قيمته المرجوّة منه بحسب عناوينه، وبالفعل، فقد انتهى المؤتمر إلى هذا، حيث تحول في آخر جلساته التي اختزلت واختصرت إلى ندوة سياسية.

حتما وبكل تأكيد لا ندّعي أبداً أننا من أهل النقد أو ممن يحملون إمكانات هذا العنوان، إنما لعلنا نجيد بعض قراءة ما يجري وما يدور في كثير من أروقتنا الثقافية أو الإبداعية في أكثر من مجال. وهذا الإدعاء لا يعفينا من تحمّل المسؤولية تجاه مجتمعاتنا وأهلنا. بل يحتم علينا أن نخرج من دائرة القتامة التي لم نعد نرى غيرها في كل حركتنا الفكرية وكأننا تقمصنا شخصية أولئك المتربعين على عروش السلطات السياسية، ومن حيث لا ندري صرنا مساعدين لهم نمهّد طريقهم ونيسّر لهم تسويد حياتنا ودفعنا باستمرار في دائرة التشاؤم والانهزام.

وكأني بكل هؤلاء المبدعين و"النقاد" استساغوا لغة التشاؤم واستسهلوا لغة الموت، فباتت كل محاور موضوعاتهم وتراكيب جملهم تستحضر هذه المفردات لتبدع فيها.

هل لا يوجد في ذاكرتنا سوى اللون الأسود، أم أن ما نعيشه في بيئاتنا ومجتمعاتنا ليس فيه سوى البؤس والحسرة والظلم والتشرد وكل عناصر ومكونات الوجه السلبي في الحياة، ألا يوجد إيجابية واحدة؟ ألا نعرف أن عقولنا تختزن الجمال والحب والأخلاق، كما يمكن ان تكتسب البشاعة والكراهية والرذائل؟ ألا يوجد في قواميس لغتنا مفردات تعبّر عن الجمال والأمل؟

حتى وسائل الإعلام تراها تستبعد هذا النوع من الموضوعات وتركّز على الصورة القاتمة. والسبب في ذلك السياسة والسياسيين الذين تمكنوا من السيطرة على الأقلام والعقول وصارت السياسة تصنع الثقافة وليس العكس، وبالطبع قبل هذا وذاك أن جلّ وسائل الإعلام هي عبارة عن مسارح ومنابر لهم يُدخلون في "رحمتهم" من شاؤوا.

لماذا كلما تصدى أحدنا لورقة ليفرغ عليها ما تختزنه ذاكرته، وجدنا كلماته في صورها ومعانيها أكثر سواداً من الحبر الذي يكتب به؟ لماذا لا نعرف ألوان الورود أم أننا نقف أمامها لنختار أفضلها فقط في مناسبات قليلة. وفي باقي الأيام لا تعني لنا سوى مجرد اسم إشارة؟ أليست اللحظة التي ذهبنا فيها لشراء تلك "البوكيه" هي كسائر لحظات حياتنا يمكن أن تكتشف فيها أنوفنا جودة رائحتها، وعيوننا زهاوة ألوانها، وذوقنا تناسق أشكالها؟

بربكم، لماذا لا نُجيد الكتابة إلا في اليأس والاستسلام والقنوط، وحين ننتقد نبدع في التهكم والتجريح، ونهرع لنفرغ ذاكرتنا على حساب من نتحدث عنه، فنُميتُ إبداعه فقط لنقول للآخر المتلقي إننا هنا؟

تعالوا نخرج إلى النور، إلى الحياة، إلى الطبيعة، تعالوا نتغلغل أكثر في متون عقائدنا، فكرية كانت أم دينية، وحتما سنجد أبواب السعادة مفتوحة على مصراعيها.

السياسيون همّهم إبقاؤنا في دائرة التشاؤم واليأس ليسهل صيدنا واستثمارنا، ولا يتوانون من الاستعانة بأعدائنا لِليّ أعناقنا وترويضنا، وعلينا كمتصدين للغزو الثقافي الذي يتعرض له مجتمعنا، أن نتعاون مع أبناء مجتمعنا لولادة الحب والأمل، حينها سيأتي السياسي يستجدينا لأننا غير آبهين به. وليكن ذلك من خلال وعي التصدي المصنوع من الأمل وليس من الدم، وليكن من خلال التخطيط السليم في كل المجالات، وأولها في الاتجاه الديني، بأن لا يكون هذا الاتجاه يُمَارسُ على غير حقائقه التشريعية وجواهره الفكرية، وما أكثر أبواب السعادة فيه. الدين جنة ورحمة، وليس فقط نار وعذاب. أعداؤنا من هنا يتسللون، مرة يستغلون الأديان السماوية ومرة المذاهب الفكرية والعقائدية. فلماذا يكون عدوّنا اذكى منّا؟.

قد لا تفي هذه العجالة إلى توضيح كل ما أشرت إليه، أو الاسهاب بالحديث حوله، لكن لا بدّ من فتح الأبواب في هذا الاتجاه.

توضيب نجاة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى