الاثنين ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٤
بقلم غزالة الزهراء

الوجه الآخر

أحس أنه على وشك الانفجار المروع ، لم يجرؤ على البقاء بين جدران غرفته الرطبة الصماء ، أقفل الباب بإحكام ، وانطلق إلى حيث لا يدري .
الضباب القاتم يغشي عينيه الضيقتين ، يتخم أغوار صدره المنهك البائس ، ويغزو ذاته كالجراد بجنون أعمى غير متوقع .
خطواته العشوائية تضرب هنا وهناك كأنه انسل في الحين من حمأة حانة مهجورة سممت بدنه ، ومزقت أمعاءه شر تمزيق .
تساؤلات متعجرفة نكراء حامت حول رأسه الكروي المشتعل مثلما يحوم الصقر الجارح حول الفريسة ، عقله تائه ، مبعثر كعبرات اليتامى ، لا ينعم ولو لحظة بضجيج النهار ، ولا بالليل حين يرخي سدوله .

زفر بشدة كأنما يفرغ ما بجوفه من هموم مستبدات قاتلات ، الجسر اللعين على بعد بعض أمتار منه ، ساقته قدماه اللتان لا تقويان على حمل جسده إلى هناك ، ألقى نظرة فاحصة مرعبة إلى أسفل ، نوبة هلع مباغتة زلزلته ، شعر بالغثيان ، كاد يقيء ويغمى عليه .
هذه الهوة السحيقة ابتلعت عشرات الآدميين الذين تضاءلوا أمام صغائر الأمور وكبارها ، صوت جهوري اخترق طبلتي أذنيه من الخلف : لا تفعلها يا غبي .
استدار حيث مصدر الصوت ، صافحه وجه رجل ملتح تبدو عليه تباشير الخير والطيبة والنبل ، أضاف ناصحا إياه : لا تقنط من رحمة المولى ، الدنيا لازالت بخير ، ابتسم لها تبتسم لك .
كان بوده أن يرد عليه بما يعتمل في زوايا روحه : أتظن أنني سأقذف بنفسي في مهاوي التهلكة لأجل امرأة نكرة ؟ أتخالني طائشا وجبانا إلى هذه الدرجة يا رجل ؟

تابع سيره ورياح اللاهدوء تتلاعب به كريشة خفيفة في مهب العاصفة ، تاه في منعطفات الشجن طفلا باحثا عن مرفأ أمان ، لم يتحمل تلك الصدمة الأشد وقعا التي شتتته في كامل الاتجاهات ، البارحة فاتحه والده بموضوع يخصه : مر على وفاة والدتك عام برمته ، و........
رفرفت أجنحة الصمت الثقيل فوق رأسه .
سأله وهو يدرك تماما أي نوع من القنابل ستنفجر عليه : بم تود إخباري يا أبي ؟
ـــ أنا عازم على تشييد حياتي من جديد ، أنا بحاجة إلى زوجة صالحة تخلص لي ، وترعى شؤوني .
تحدث حليم في سره : عما قريب سيطل علينا ذلك الوجه الغريب ، وتتربع صاحبته في قلب والدي ، ستحتل عرش أمي ، وتصير ملكته المبجلة المصون .
أخيرا هتكت المرأة الغريبة ستار حياتهما الشفاف ، وشيدت لنفسها موقعا خاصا بينهما .

كانت تحاول جاهدة التقرب من حليم ليألفها ، ويستأنس بوجودها ، ويحبها كما يجب لكن محاولاتها التي تبذلها قصد إسعاده سرعان ما تتبخر وتنمحي خيط دخان .
ذات يوم تأخر عن المجيء ، سألته كأم تخشى على ابنها من صروف الدهر : أين كنت يا ولدي ؟ ما الذي عرقلك حتى هذه الساعة ؟
صرخ في وجهها وهو يكشر عن أنيابه البارزة كليث همجي غضوب : لا تتدخلي في شؤوني الخاصة ، أنت.......
ثم ابتلع ما كان يرغب التفوه به .
أراد أن يجهر لها بالحرف الواحد : أنت حشرة حقيرة ، أنت الخبث بعينه ، أنت اللعنة الحمراء ، أنت الداهية .

تفاقم غضبه المسعور اتجاهها يوما بعد يوم ، لم يطق رؤيتها وهي في المطبخ بصدد تحضير وجبة الإفطار ، أو منكبة على خياطة صدار ، أو غسل الصحون ، أو تنظيف البلاط ، تمنى لو يبيدها إبادة تامة ، تمنى لو أنها لم تكن مولودة حتى .

المسكينة لم تسئ إليه يوما ، ولم ترفع شكواها لوالده رغم أنه يتمادى من غير حساب في إيلامها وتجريحها .
ـــ أنا من سيتبرع له بكليتي ، ولا خوف علي ، إنه ولدي ، حبيبي .
وجاءها من الطبيب الرد الأكيد : ستخضعين لبعض الفحوصات الطبية كفحص الدم ، وتطابق الأنسجة .
بعد نجاح العملية تبين لحليم أن هذه المرأة التي طالما تسبب في أذيتها ، والحط من قيمتها هي امرأة مثالية بامتياز ، وأنها مثل أمه التي أنجبته من رحمها .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى