الأحد ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
أشباح غويا
بقلم رانية عقلة حداد

الوجه الحقيقي للعالم

يوحي عنوان الفيلم الروائي الأسباني (اشباح غويا) انتاج 2006، للمخرج (ميلوس فورمان)، بأن الفيلم سيتناول سيرة الفنان التشكيلي الأسباني فرانشيسكو دي غويا، وبشكل خاص مرحلة محددة من فنه التي بدأت تظهر في لوحاته الاشباح والكائنات الأسطورية، لكن الفيلم يأخذنا بعيدا عن أعمال غويا(ستيلان سكارسجارد) وشخصه كعنصر محوري فيه.

لوحات مطبوعة بالأبيض والأسود تحتل كامل الشاشة، يُوظَف فيها كائنات خرافية في السخرية من الواقع السياسي ونقد المؤسسة الدينية في اسبانيا انذاك، تتاقطع مع لقطات قريبة لوجوه كهنة محاكم التفتيش القلقة، وهم يتداولون في اجتماعهم تلك الرسومات ويناقشون ادانتها، بهذا يبدأ الفيلم ... من شعور رجال الدين بخطر يهدد سلطتهم تمارسه لوحات غويا تلك والمنتشرة بين عامة الناس، فعلى الرغم من موقع غويا كرسام للبلاط الملكي وكذلك للكنيسة ورجالها، لكنه منذ 1793 وعلى امتداد ست سنوات بدأ برسم ما عرف ب (مجموعة النزوات) والتي تعتبر نقدا لاذعا لاخطاء وفساد السلطة الدينية والسياسية وعيوب المجتمع كما صورالمشانق ومحاكم التفتيش ... فاستخدام الفنتازيا والكائنات الوهمية كاسلوب غير مباشر للتحايل على تلك السلطات التي كان يخشاها، فيعيد إلى اذهاننا السؤال عن علاقة المثقف والفنان بالسلطة.

غويا يرسم في منزله صورة شخصية لاحد الكهنة؛ انه الاب لورينزو (خافير بارديم) وهو شخصية رئيسية محركة للاحداث في الفيلم، وكاحد الكهنة الاعضاء في محكمة التفتيش وبداعي الهرطقات الجديدة التي بدأت تنتشر بين الناس، يطلق مساعديه في كل مكان لاقتناص كل من يشتبه به لتقديمه للمحاكمة، ليقع هذا المصير المشؤوم على انيس (نتالي بورتمان) ابنت رجل ثري وكذلك النموذج الذي كان يرسمها غويا في مرسمه، فتُطلب إلى المكتب المقدس وهناك تعترف تحت التعذيب بتهمة لا علاقة لها بها؛ بممارسة طقوس يهودية، فقط لانها شوهدت ترفض اكل لحم الخنزير في الحانة، فيوسط والدها غويا لدى الاب لورينزو الذي بدوره يغتصبها ويهرب خارج البلاد.

دربٌ لامتناهي

خمسة عشر عاما تمضي ينقلنا الفيلم معها الىزمن الغزو الفرنسي عام 1808 على اسبانيا، وعودة الاب لورينزو مع جيش الاحتلال الفرنسي، وقد خلع ثوب الكهنوت واصبح الان احد الرجالات المنظرين للثورة الفرنسية ومبادئها، مستغلا نفوذه في الانتقام ومحاكمة شركائه السابقين في محاكم التفتيش، في هذه الاثناء يفرج عن سجناء المحاكم والذين جرى تعذيبهم لمدىزمنية طويلة، من بينهم انيس التي تستعين ب غويا بعد مقتل اهلها، للبحث عن ابنتها من لورنزو التي سلبت منها عند ولادتها، وتستمر الاوضاع المضطربة، والاحتلال حتى ينجد الجيش البريطاني اسبانيا، ثم ينقلب السحر على الساحر فالكهنة الذين ساهم لورينزو في الحكم عليهم بالاعدام قاموا بدورهم باصدار ذات الحكم عليه.

جثة بائسة تجوب بها عربة قذرة الطرقات هكذا انتهى الحال ب لورينزو، الذي ستأخذنا الكاميرا معه لحين في رحلته هذه عبر ذلك الممر قبل أن ينتهي الفيلم، وسنكون كما غويا في تلك اللحظة الشاهدين الوحيدين على الدرب اللامتناهي للتسلط والاستبداد، فما يلبث أن يموت ظالم حتى يولد ظالم جديد.

لم يكن غويا محتاجا لحاسة السمع التي غادرته منذ فترة، ليسمع صرخات الالم وأنّات المظلومين واصوات البنادق، فقد كان كافيا أن يرى الدخان المتصاعد من فوهاتها، وينظر في عيون الناس ليتلمس وجعهم وآلامهم العميقة، وليحس بالظلم المحيط والمطبق من كل الجهات، لم يكن غويا الشخصية الرئيسية في الفيلم انما كان في الخلفية اتخذه صناع الفيلم كمسوغ للحديث عن الوضع السياسي والديني والاجتاعي الذي ساد اسبانيا في تلك الحقبة؛ اواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، حيث سيادة السلطة الدينية (الكنيسة) ومحاكم التفتيش، ومن ثم الاحتلال الفرنسي لاسبانيا، حتى الاستنجاد بقوة بريطانيا من اجل انهاء ذلك الاحتلال، والدوران في حلقة مفرغة من الظلم إلى ظلم... لربما ليس ثمة من جديد يقوله الفيلم حول تلك الثيمات التي سبق وان تناولتها افلام سابقة: حيث مصالح رجال الدين الشخصية التي تختبئ خلف رداء الكهنوت، وتوظيف الدين لخدمة تلك المصالح، الظلم والصراع على السلطة ... لكنه يضعنا من جديد امام السؤال عن دور المبدع من هذا ... من قضايا امته، حيث كان غويا شاهدا على الاحداث، ومعبرا عن ضمير أمته في آن، فجسدت أشباحه هول الظلم وكانت الوجه الحقيقي للعالم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى