الأحد ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠٢٣

اَلْحَنَش الْـمُتآلَف

أحمد القاسمي

تآلفت مع أحد أحناش دغل نبات الصّبّار؛ في ربيع أحد الأعوام، وتحدثنا معا في شؤون كثيرة، وأشياء عديدة...
فما الذي دعاني إلى الخروج من بيتي، تاركا الحي الذي أسكن فيه، وأولي ظهري لبنايات المدينة؛ المتلاصق بعضها ببعض؛ ويضيق بعض أزقتها، ولا تكاد تتسع شوارعها لسكانها في الغداة وفي الرواح؛ مُتخطيا خطوط سكة حديد؛ إلى الحقول والبساتين؛ يكاد أن يكون نبات الصبار سياجات لها؟ وفي أي وقت من السنة؟ وما الذي توخيته منها؟

تكون تلك الجهة بعيدة عن الضّوضاء، ويكون جزء من الحقل غير مزروع؛ لنقل أنه يُترك لفترة استراحة، أو لا يُنبّت فيه شيء على الإطلاق؛ تهطل عليه أمطار الشتاء، فيغطيه بساط من عشب طريّ أخضر، وسيقان الأزهار، والنبات النجمي الشّوكي؛ ذي الأوراق الـمُشوّكة؛ تسطع عليه أشعة شمس ما قبل وقت الظهيرة؛ في فصل الربيع، فيكون جوه دافئا، وقد تراجعت برودة الشتاء؛ عن المخلوقات الحية؛ أجد إليه ممرا بين جذوع الصبار، فأجلس فيه، أو أخطو عبره جيئة وذهابا؛ مسافة تُسعفني؛ قابضا بدفتر كبير الحجم؛ أفهم فيه دروسا في علم أتلقاه في كلية الجامعة، أو أحفظ منه ما يتوجّب علي؛ تحضيرا للامتحانات التي كانت تُنظم في الأسبوع الأول من كل شهر ماي؛ من كل سنة دراسية؛ فهذا استعداد يكون في شهر أبريل.

ففي يوم أتهيأ فيه لليوم الفاصل، وعيناي تنهب السطور، وعقلي يحاول أن يفهم، وذاكرتي تحاول أن تحفظ؛ إذ نظرت إلى جانبي؛ مُسترجعا جملة عصية الفكرة، فوقعت عيناي على ورقة الصبار العريضة؛ ممتدة من الغصن الغليظ، يتلولب عليها حنش مرقط الجلد باللون الأصفر؛ رافعا رأسه باطمئنان إلى أعلى مُتشمّسا، مُستمتعا بجو الربيع الصافي؛ كما أتشمس أنا أيضا؛ مُستمتعا بجو الربيع الرائق؛ ناظرا إلي بعينين براقتين؛ لا تفصله عني إلا مسافة خمسين سنتميترا؛ يلتمس دفء جلوسه بجاني؛ كأنني أنا أيضا ألتمس دفء وجوده بجانبي.

أيـُمهِل الإنسان نفسه ليفكر في قرار في تلك اللحظة؟ إنه الخوف؛ تنتج عنه ردة فعل سريعة، وبدون تأخر؛ هو إطلاق العنان للساقين، بمسافة يتأكد منها أنه في آمان من ذلك الحنش الـمُروّع في شكله. لم أكد أنطلق انطلاقة العدّاء القوية والسريعة؛ حتى سمعت ما هو موجه إلي؛ فقد تفوه الحنش آمرا:

 إلزم مكانك يا آدمي، وإلا أرسلت في أثرك جميع أحناش الدغل.
لم أخط قيد أنملة، والتفت إليه بخوف قائلا:
 هذا لا يصدّقه عقل الإنسان؛ ألا أهرب من أمامك؛ ناجيا بروحي!
قال مهدئا من اضطرابي، وبلباقة:
 عُدْ إلى مكانك، فإني أعطيك الأمان.
سكت لحظة وأتبع ذلك سائلا:
 أنتم معشر البشر، أستُأمنون؟
قلت وفريصتي ترتعد:
 لا... لا...
قهقه الحنش، وقال:
 جعلك الخوف مني تصدُق في قولك، ولا تُخفي عني شيئا، أهكذا تصْدُقون فيما بينكم وبين نفوسكم يا أبناء آدم؟
قلت مُسترحما إياه:
لا... لا... ننافق بعضنا البعض... دنيانا نفاق... تفوح منا رائحة النفاق... تتضوع بها علاقاتنا اليومية... إننا نتعطر به في صباحاتنا.
قال مُحرّكا رأسه حركة عاقل؛ ذكي؛ لا يخفى عنه شئ؛ ناظرا إلي بعينين هادئتين:
 أعرف، ولا تحسبنّ أني جاهل، فإني علمت من جدي الكثير من أخباركم، وطبائعكم؛ ذلك أنه كان يسكن جُحرا قريبا من بيت أحد الدواوير، يكفي ما حكاه لي؛ عن أقصى حد من شروركم.

سألته متوددا له حتى لا يُؤذيني:

 ما أبلغك في كلامك؛ ماذا يا تُرى روى لك جدك عن جنسنا؟ هو أوضح صورة عن أذى الانسان لأخيه الإنسان بلا ريب.

أجابني وهو يخزُرني؛ كأنه يتوعدني:

 ثلاثة إخوة قتلوا أباهم، وطمروه أحد الأودية.

سكت لحظة تاركا لي بعض الوقت لأعود من ذهولي، وأهدأ من صعقة ما سمعته، ثم استطرد قائلا:

 باع والدهم غَلّة في السوق، فقتلوه طمعا في المال، من دل المحققين على مكان مواراة الجثة، وعلى مخبأ النقود؟ إنها أختهم الصغرى الخرساء؛ بإشارات من يديها وأصابعها؛ أطلعتهم بكل ما شاهدته.

أخفضت رأسي عدة مرات؛ مُستَح مما سمعت، ورفعته مُستصغرا نفسي أمامه علامة على أن: «نعم»، أما هو فقد اكفهر وجهه من التألم، وأوذي في نفسه، فانساب من ورقة الصبار، ودب على العشب؛ مقتربا مني، فحاولت الابتعاد عنه، إلا أنه قال لي؛ غير مكثرت بخوفي:

 لا تبتعد عني، إطمئن ولا تخف.

وتلولب بعصبية رافعا رأسه باندفاع، وقال:

 وما أحمقكم حين تُشجّعون أولادكم على تربية الحيات في بيوتكم! وهؤلاء كبار منكم أيضا؛ إنها حماقات سكان المدن.

قلت بشجاعة كاذبة، محاولا أن أبين له أنني في صفه:

 إيه أنت؛ لم أرو عليك حكاية... اسمع ...إن في تاريخ البشرية العسكري حماقات، لو ترى البوارج الحربية العملاقة الـمُكلِّفة؛ كأنها أهرامات من فولاذ مُرهبة؛ التي تحاربت بها دول أوروبا الغربية في حروبها المعاصرة.
قال؛ وما يزال التأثر بمقتل رجل من طرف أبنائه باديا عليه:

 إنكم تذبحون بعضكم البعض من الوريد إلى الوريد، وبهذا فإنكم تدّعون أنكم تتبعون سنة نبيّكم، فما عملكم بحديثه؛ حين نهاكم حتى على الإشارة بحديدة في وجه أُخوتكم، ولو كنتم مازحين؟

أَلجم فمي، فلم أنطق بأيّ كلمة، فماذا أقول؟ وقد استحييت من حكمة هذا الحنش، وفي لحظة قلت في نفسي: «لماذا لا أدفع عني هيمنة هذا الحنش؛ الذي يستمد عجرفته من بيئته ذات الأحراش، ويُخوّفني بها، فلأمكر به حتى أُضعف شخصيته»، قلت:

 في كتب الأديان قصص عنكم، ونحن نصدق بجميع ما أتى به الكتاب؛ ما أوحي إلى الأنبياء.
اكتفيت بهذا وبخبث؛ ولم أزد عليه ما ورد في تلك القصص، حتى يصير نهبا للشكوك، فكست وجهه غيمة، وتقطب جبينه، واضطربت نفسه، فقال:

 ماذا حكت عنا الكتب المنزلة؟

أجبت دون أن أبين المقصود:

 حيّة منكم كانت قد اهتزت كأنها جان -وأنت جان في حركاتك السريعة- وجعلت موسى عليه السلام يوّلي مُدبرا، لولا أن طمأنه الله تعالى، وأخرى منكم خبّأت إبليس بين أسنانها، ودخلت به إلى الجنة ليسْتَزل آدم وحواء، وثعبانكم كان قد تحول من عصا موسى عليه السلام، وكاد أن يُجهز على فرعون.

قال مُنهزما:

 تريد أن تقول أننا ذووا حيل، وشكلنا يخيف، وأننا نقتل بسُمّنا.

قلت بشجاعة:

 نعم، وهذه آيات من الكتاب تصور ذلك، وهاك آخر ما سمعت... منذ زمن قريب لقي رجل حتفه، لم يكد يقترب من أحد ثعابينكم حتى نفث عليه سمه من مسافة، فمات الرجل بعد وقت وجيز، إن هذا لمخيف جدا!

قال بهدوء، وبثقة:

 كان الثعبان يدافع عن حِماه، كما أدرك أن الرجل يريد به سوءا.

قلت له بغضب، وفي ظني أني استحكمته:

 أُسكت، وإلا بعثت بك طردا بريديا إلى (تكساس) أمريكا.
انتفض صارخا:
 لماذا؟

قلت مُتشفّيا فيه:

 ليفصلوا رأسك عن جسدك بالـمُدية، ويعلقوا جسمك في مخطاف حديدي، ويسلخوا جلدك عن لحمك، وينزعوا منه أحشاءك؛ على مرأى من مئات المتفرجين، ويصيح الآباء الأمريكيون في أطفالهم الذين يصطحبونهم في هذه المناسبة:«هيا اسلخ الجلد عن لحمه، ولطخ يدك بدمه، ووقع اسمك به على الحائط»؛ إنه مهرجان لقتل الأفاعي في أمريكا؛ لأن عددها يتزايد، ولحل هذه المشكلة، فإنهم يدرسون جعل لحومها في وجبات الطعام؛ كحرب بيولوجية للحد منها.

تراجع الحنش، ولاذ بورقة الصبار الشائكة، وتلولب، وظل يُبحلق في وجهي، مُسترجعا بشاعة الصورة التي نقلتها إليه.

قال بخوف:

 هذه إبادة لجنسنا، والحال أننا سننقرض.

قلت مُتجبّرا:

 نحن البشر عُتاة، ولنا فنون في الإبادة؛ ينقرض شعب شبه جزيرة (كامتشاتكا)؛ (الكورياك)؛ بكحول (الفودكا)؛ الإدمان ثم اليأس.

فلم يرقّ هو قلبي، وقلت لأزيده غيظا:

 وحيّتُكم (الأنوكاندا)، أتعلم ماذا تفعل بالأنعام؟ إنها تبتلغ بقرة.

صار ينظر في أي اتجاه، لا يستقر على أي رأي، في لحظة تبّث نظره في عيني؛ كأن فكرة طرأت على باله، فهبط مرة أخرى، وتلولب كعادته مسترخيا، فبدا لي أنه يستجمع ما يريد قوله، ثم ابتسم، وأخيرا قال:
 في ساحة (جامع الفنا) يُسترزق بنا.

قلت:

 تقصد مروضي الثعابين؟

قال بحزم:

 نعم.

سألته:

 ثم ماذا؟

أجاب:

 في الهند تُخرجنا موسيقى الزَّرْنة (الغَيْطة) من السّلال، وفي ذلك فُرجة.

وسألته مرة أخرى:

 ثم ماذا؟

قال؛ ووضاءة على وجهه:

 وهذا الذي يلي يستعصي عليك تفسيره، وهو لنا مفخرة.

قلت:

 ماهو؟

قال:

 أجبني ما هو شعار صيدليتكم؟
فاجأني، فارتج جسدي، وقلت مُستسلما:
 أفعى تلتوي على كأس وعصا.
سألني:
 إلى ماذا يرمز، أو ماذا يعني، إنك لا تكاد تُفسره.
قلت:

 انتظر، سأتزود بمعلومات عن ذلك.
سألني:

 كيف؟
لم أجبه، وأخرجت هاتفي الذكي؛ قائلا:
 سأستدعي برناج (ChatGPT) المعلوماتي، ليمدني بمقال محكم الشكل؛ وافي المضمون.
قال مُتهكما:

 غدوتم عبيدا للبرامج المعلوماتية؛ إنها تقلب حَيواتِكم رأسا على عقب.
لم أعر لقوله أي اهتمام، وشرعت ألخص له ما حرره الـــــ(ChatGPT):
 يُقال أن ذلك الشعار يتكون من ثلاثة عناصر؛ الأفعى لها رمز أسطوري؛ يعود إلى زمن الإغريق، أُستُمدّت من أساطير الآلهة عندهم، وترمز إلى الصحة، ذلك أن سمها يدخل في علاج بعض الأمراض، والكأس أعطته ابنة آلهة الطب عندهم إلى الحية لتشرب منه بعد وفاته، والعصا هي لإله الطب.
قال بفرحة المنتصر:

 أحسنت.
ثم تابع قائلا:
 أنتم معشر البشر تعيشون أعراس الاختراعات الدقيقة!
قلت بزهو:
 نعم.
قال مُتباهيا:
 أو سمعت في خضم أخبار زلازل الأناضول وبلاد الشام، أنكم استطعتم تركيب (حنش روبوت)، يقدر على أن يدب بين الحيطان والسقوف المنهارة؛ بحثا عن الأحياء والأموات؟
قلت بانهزام:
 لا؛ والأحرى أن لا يجهل مهندسوا الأبنية والمقاولون مورفولوجية سطح الأرض التطبيقية، أو يتغافلون عنها، لبناء بيوت وعمارات تخفف من حدة الزلازل.
قال بثقة:
 إنك عرفت ماذا أعني، فلولانا لما استوحى علماء التكنولوجيا من شكلنا (الحنش الروبوت)؛ ذلك أن هيكلنا العظمي مُشكل من فقرات مرِنة؛ تُؤهِّلنا للزحف على أي سطح، وخدمة أخرى قد نُؤديها للمُسعفين في الزلازل...
سألته مُتلهفا:
 ما هي؟
قال بصرامة:
 بإمكانكم أن تُدربوا سِربا من الأحناش، وتأهيله لينساب بين الجدر والسقوف والشقوق؛ مُزوّدا بمجسات وكاميرات.
قلت بحماس:
 سأبلغ مجلس بلادنا الأعلى لتطبيقات العلوم التكنولوجية بفكرتك.
قال مُتثائبا:
 لقد تكلمنا بما يكفي، إلى اللقاء.
قلت برجاء مُتخلقا:
 سأزورك بعد ثلاثة أيام.
سألني:
 أفي عدّك للأيام هذا معنى؟
أجبت باستقامة:
 الـتآلف يستدعي الزيارة بعد اليوم الثالث.
قال مُستحسنا:
 مَرْحى... مَرْحى.
وتوغل بين سيقان النباتات، واختفى في الدّغيلة.

بعد المدة التي تلزمني أن أتفقد صديقي الحنش، قصدت دغل نبات الصبار، وما إن أطَللْت من بعيد على مكانه؛ حتى تسمرت مبهوتا، ذلك أنني لم أجد له أثرا، ولا للحقول المبذورة، أو البساتين المغروسة، بل وجه أرض استُأصِلت جذور نباتاته، وسُوّي ترابه، فقد كانت تعمل في المكان حفارات الأنفقة، وجرافات الأتربة، وممهدات الطرق؛ هديرها المستمر يملأ الدنيا ضجيجا؛ وقرأت على لوحة عملاقة؛ عرضا بمشروع بناء عمارات سكنية وتجارية؛ بأكثر من عشرة طوابق بمصاعد، فرجعت إلى بيتي جَزِعا على مآل الطبيعة، بعد أسبوع سمعت بأن بعض سكان أحياء المدينة والقرى؛ يستيقظون على أحناش تغزو بيوتهم، وقد تقرر تنظيم فرقة على معرفة بسلوك الحيات، ولها خبرة بكيفية أسرها وقتلها، فأدركت ماذا حدث؛ إن بيئة الحيات فقدت توازنها بغزو الآلات الميكانيكية، فتراجعت الأحناش مُضطهدة إلى أماكن تختبئ فيها، وترتوي من الماء، فأول ما قلت وبحزن: «هل ما يزال إلْفِي الحنش حيّا بينها؟».

أحمد القاسمي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى