الثلاثاء ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
قصة قصيرة من أدب المقاومة في فلسطين
بقلم عادل سالم

باب خان الزيت

من باب العامود كان يمر كل يوم رافعا رأسه للأعلى ترمقه كل العيون لقامته المديدة وطوله الفارع، تتلفت عيونه يمينا وشمالا كأنه يبحث عن شيء في عيون المارة، أو يتحسب من شيء يلاحقه، أتراه يبحث عن حبيبته بين المارة أم تلاحقه عيون الجواسيس والمخبرين؟

باب العامود أو بوابة دمشق كما كانوا يسمونها، هي البوابة الرئيسية للبلدة القديمة من القدس ومنها يمر يوميا أكثر من نصف الداخلين للبلدة القديمة أو الخارجين منها، باب العامود كان نقطة الحدود اليومية التي عليه أن يجتازها سواء للذهاب للمدرسة أو العمل أو لأي شيء آخر. إنه طريقه اليومي وربما الأساسي، حتى صار عادة يومية يمارسها فمن هناك يدخل لشارع باب خان الزيت حيث يسكن على بعد مائتي متر من أول الشارع.

تذكرني به كلما سمعتها قصيدة سميح القاسم التي يغنيها المطرب اللبناني المحبوب مارسيل خليفة، وكأني به يغنيها له :

منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي
وأنا وأنا أمشي

لا أدري لماذا كلما سمعت تلك الأغنية تذكرته وهو يسير من هناك مرفوع القامة يمشي، حتى كأنني بالشاعر كتبها له.

فتيات الحارة كن يتشوقن لرؤيته، فقد كان جميلا حقا يرسل ابتساماته الجذابة خلفهن كل صباح فلا تخطئ واحدة منهن. كن يتغامزن عليه، كل منهن تتمناه فارس أحلامها، فلا زال في مقتبل العمر ولم يتزوج بعد. وهذا ما جعله عرضة لسهامهن. فعيون الصبايا اللواتي يسرقن النظر إليه كثيرة حتى يحتار هو نفسه أيها يختار.

هذا الفتى الطويل القامة الذي يمشي مشية القادة الميدانيين المتواضعين، كان رياضيا من الدرجة الأولى يمارس لعبة كمال الأجسام وفاز في بطولة الضفة الغربية في العام 1974، لذلك كان يعرفه كل أهل البلدة القديمة بل كل سكان القدس وربما الكثير من سكان المدن الأخرى.

من قال إن الرجال لا يبكون فقد أخطأ، لأنه ربما لا يعرف معدن الرجال الأوفياء، أو ربما لأنه لا زال متأثرا بمقولة جداتنا: إن البكاء للنساء وللأطفال فهكذا نعلم أبناءنا دائما :
  لا تبك يا ولدي فالبكاء للصغار وأنت أصبحت كبيرا

لم يعرفوا أن البكاء ضريبة علينا يؤديها الرجال الأوفياء لأحبائهم وأصدقائهم الراحلين كلما تذكروهم.

وحدهم الرجال الأوفياء الذين يعرفون كيف يغلقون عيونهم في لحظات معينة ليتعانقوا مع أحبائهم الراحلين الذين يزورونهم بين الفينة والأخرى على فرس أبيض والابتسامة تغزو وجوههم.

كلما مررت من هنا من باب خان الزيت أتذكره بقامته المديدة، فقد كان يسكن في إحدى زوايا الشارع المطلة على باب خان الزيت، كان صديق كل أصحاب المحلات هناك ومعظم المارة وطلاب المدارس يتجاذبون الحديث معه خصوصا عندما كان يقف عند مكتبة الأندلس يتجاذب أطراف الحديث مع صديقه أحمد عويضة الذي كان والده يملك محلا تجاريا لبيع المكسرات مقابل المكتبة أو محل بيع الكتب والقرطاسية.

صديقه أحمد كان لا يفارقه كل يوم، ولطالما التقينا في جمعية الشبان المسيحية أثناء التدريب كان يتدرب لكمال الأجسام مع جميل النوري وأحمد عويضة ومنذر بركات وكنت أرفع الأثقال مع أكرم العجلوني وشخص آخر من آل المشعشع .

باب خان الزيت لم يكن شارع طفولته فحسب ولكنه كان وطنه الصغير فقد ترعرع هناك وعاش حياته كلها ودافع عن فلسطين واشتبك مع جيش الاحتلال، وأخيرا ...

دعوني أبكي كلما تذكرته فأنا لا أبكي بكاء العاجز لكني أشعر بالراحة كلما ذرفت الدموع على من فارقوني من الأصدقاء والأحباب، أشعر إنني أعطيهم حقهم لأنهم جزء من ذاكرتي ومن كياني.

كان شجاعا وجريئا يريد للمحتل أن يرحل، يريده أن يغادر بلادنا لنحيا كما يحيا كل الناس بسلام وأمن، يريد للمحتل أن يرحل حتى يستطيع أن يكتب لحبيبته رسالة حب بعيدا عن ملاحقة الجيش الإسرائيلي الغاصب الذي كان يفتش شنطة كتبه أيام الدراسة بحثا عن منشور سري أو علم فلسطين.

في المظاهرات الطلابية كان يتصدر المتظاهرين وكنا نسير خلفه أو كان هو يتقدمنا رغما عنا فاستحق أن يكون بطل القدس بلا منازع.

في أحد المرات كان أحد الجنود الإسرائيليين يمشي وحيدا في باب خان الزيت رافعا سلاحه فتوقف المتظاهرون بعيدا خوفا من إطلاق النار عليهم كما هي عادة الجنود لكنه لم يخف فتقدم نحو الجندي غير آبه بسلاحه، قال له :
 لماذا أنت هنا؟
لم يعرف الجندي ماذا يرد، هل يطلق النار عليه ويرديه قتيلا؟ لكن ماذا لو هجم عليه كل المتظاهرين بعد أن يقتله ؟!
 لا لا لن أقتله ، قال الجندي في نفسه.

تراجع الجندي ويده على الزناد وقال له محذرا لا تقترب
نظر الفارس في عيون الجندي فرآه خائفا فلم يتوقف واستمر في التقدم وعندما اقترب منه هجم عليه يضربه ويركله.
  ما أروعها من لكمات، قال محمود لنفسه
يخيل لي إنني أوجه هذه اللكمات لكل جيش الاحتلال، إنها رسالتي لهم، بل رسالة شعبنا كله.

هذا الجندي لن يخيفنا حتى لو أطلق الرصاص، بإمكاني أن أقتله، لكني لن أفعل ذلك، سأتركه يعيش ويعود لأمه ليبلغها وليبلغ قادته وأصدقاءه أنني لم أقتله ليس لأنني خائف فلو كنت خائفا لتراجعت أمام سلاحه المصوب نحوي لكن لأنني أريد أن يبلغهم رسالتنا.
  قل لهم اتركوا وطننا، انسحبوا شعبنا لا يريدكم

خاف عليه أصدقاؤه فقال له بعضهم:
  دع الجندي يهرب حتى لا يطلق الرصاص.

فترك الجندي يهرب مذعورا تلاحقه الأحجار وعلب الكولا الفارغة أراد للجندي أن يعود ليبلغ رسالته لأهله وأصدقائه ومن أرسلوه بأن شعبنا لا يريدكم فارحلوا عنا. شعبنا ليس متعطشا للدماء لكنه متعطش للحرية . إنها رسالة الشعب للمحتلين أن ارحلوا عن بلادنا فلسطين.

بعد أشهر وفي باب خان الزيت ها هو يقف في أحب الأماكن لقلبه، أمام مكتبة الأندلس، وقف هناك يتأمل المارة وفجأة مرت دورية راجلة لجيش الاحتلال الإسرائيلي يجرون طالبة فلسطينية صغيرة السن ويضربونها بأعقاب البنادق.

ثارت ثائرته وهو يرى دمها يسيل من وجهها والناس يتفرجون لا يستطيعون عمل شيء خوفا من بنادق أفراد الدورية الموجهة لهم. تقدم منهم قائلا:
  حرام عليكم اتركوها
  روخ من هون ، قال أحد الجنود موجها سلاحه لصدره. صرخت فيه الفتاة تستنجد به
  دخيلك خلصني منهم، ضربوني. بكت وهي تتوسل له.

كانت طالبة صغيرة السن ربما 14 سنة. استشاط غضبا، تمنى لو كان يملك قوة سوبرمان فيحرقهم جميعهم. أكملت الفتاة
  حبسوني علشان كان معي في الحقيبة المدرسية علم فلسطين.
رفع العلم الفلسطيني لم يكن سهلا كما هو الان كان حامله يتعرض للضرب والسجن، رفع العلم كان يخيفهم لأنه رمز هوية الفلسطيني الذي يريدون شطبه من الخريطة السياسية.

لم يتراجع ولم يستمع لكلام الجندي بل استمر في التقدم رويدا رويدا لعله يحاول أن يخلصها منهم.
  اتركوها يا كلاب. صرخ فيهم.

فجأة توقفت الطالبة عن الصراخ فقد أعاد لها صوته رباطة جأشها، نظرت إليه بكبريائها المجروح وكأنها وجدت ضالتها التي تبحث عنها.
هذا الشاب وصرخته: اتركوها يا كلاب أفاقتها من مصيبتها. لم يعد البكاء مجديا، فلا بد أن معتصما فلسطينيا آت. تشجعت الطالبة وبدأت تقاوم الجنود تريد الافلات من أيديهم وبدأت تشتمهم: _ اتركوني يا كلاب.

المارة تسمروا في أماكنهم لا بد شيئا ما سيحدث، لم يتعودوا أن يروا تلك الجرأة من قبل، فالسلاح مصوب إلى صدره من قبل خمسة جنود وهو أعزل إلا من إيمانه بقضيته فلم يصبر على ما رأى.

ليس معه سلاح ولم يكن آنذاك قد بدأ المقاومون يستخدمون الأحزمة الناسفة ليخافوا منه ولم يكن طوله وعضلاته قادرة على هزيمة خمسة جنود مدججين بأسلحتهم الرشاشة.

إصراره على تخليصها منهم هو ما أخافهم ، تحديه لهم أرعبهم نظرات عيونه زرعت فيهم الرعب صرخته (اتركوها يا كلاب) هزت كيانهم، كانوا يتساءلون ما الذي يدفع هذا الشاب لحتفه؟ ألا يخاف منا؟ كل ما علينا عمله هو الضغط على الزناد وينتهي كل شيئ.
 إنه أهبل ومجنون بالتأكيد. قالها أحد الجنود.
 يقامر بحياته من أجل طالبة لا يعرفها، قال جندي آخر.
كان يقف أمامهم لا يفكر بشيئ غير إنقاذ تلك الطالبة. لم يعرفوا أن الطالبة كانت بالنسبة له الوطن كله، والدفاع عنها دفاع عن الوطن والموت في سبيل إنقاذها شهادة يتمناها كل فلسطيني.
 ألم يعلن المعتصم حربا على الروم لأن امرأة استنجدت به بعد اعتداءالروم عليها؟ تساءل وهو ينظر للجنود وسلاحهم المصوب نحوه.
لكنه المعتصم ومعه جيش جرار وأنا لا أملك شيئا.
 بل أملك إيماني بشعبي ووطني، ترى ماذا كان يمكن للمعتصم أن يفعل لو كان الان مكاني؟
هل يستسلم أم يحاول إنقاذها؟
كيف يمكن ترك الجنود يضربون طالبة أمام أعيننا وكلنا نتفرج ندعو الله أن يفك أسرها. لا لا لا بد من عمل شيئ.

تقدم أكثر اصبحت البندقية في صدره تماما
قال لهم
  اتركوها تذهب فهي لم ترتكب جريمة، أنتم المحتلون ارحلوا عن أرضنا.
  روخ من هون قبل ما نطخك.كان ذلك انذارهم الأخير
تقدم نحو الطالبة ليمسك بها محاولا تخليصها منهم ، شدها بقوة، أمسكت يديه وساعدته في التخلص من يد الجندي الذي كان مشغولا بحمل السلاح، وأخيرا نجح بشدها منهم لكن رصاصاتهم لم تمهله ليتم واجبه فقد أطلقوا عليه أكثر من عشر رصاصات مع أن رصاصة واحدة كانت تكفي لقتله.
سقط على الأرض مضرجا بدمه فتسمرت الطالبة مكانها، شدت شعرها وصرخت غير آبهة بسلاحهم
  كلاب كلكم كلاب قتلتموه يا قتلة يا مجرمون، هجمت عليه تحركه لعله يكون على قيد الحياة لكن عبثا حاولت.

الجنود انهمكوا في تصويب السلاح تجاه المواطنين يأمرونهم بالابتعاد مطلقين عشرات الرصاصات في الهواء بينما اتصل أحدهم بالمسؤول عنه يبلغه بما حصل أما الطالبة فقد ألقت بنفسها عليه تضمه لصدرها وتقبل رأسه وكأنها ابنها أو أبيها، أو حبيبها.

ألم يخاطر بنفسه من أجلها؟ ألم يعد لها كرامتها ؟ ألم تر في عيونه معتصما جديدا تحدى الجنود وهو أعزل ليخلصها منهم ؟
ألم تر في وجهه صورة صلاح الدين .

يا الله مرت لحظات قبل أن يستشهد كنت أتمنى أن يكون هذا الشاب فارس أحلامي؟
أي رجل سأحب بعد الان، إن لم يكن مثله شهامة وبطولة؟
تركه الجنود ملقى على الأرض وتركوا الطالبة تصرخ بجانبه:
  قتلتموه يا كلاب
وانسحبوا من المنطقة.

هناك قريبا من بيته الذي لم يبعد سوى مائة متر سال دمه فاستحق أن يكون ذلك الشارع شارعه بلا منازع مهما تغيرت الأزمان.

ثلاثون عاما مرت على استشهاده ولا زالت آثار دمائه هناك.

لم تغسله المياه ولا السنوات. دمه المقدس حفر على بلاط باب خان الزيت ملحمة سترويها الأجيال. أليس من حق أصدقائه وأحبائه الأوفياء أن يذرفوا الدموع كلما مروا من هناك وشاهدوا طيفه بقامته المديدة.
أليس من حق تلك الطالبة أن تتذكره كلما مرت من هناك؟ أليس من حقها أن تذرف الدموع كلما مرت من باب خان الزيت؟ من يستطيع أن يمنعها من ذلك؟ أليس من حق سكان ذلك الشارع أن يتذكروا محمود الكرد كلما غنى مارسيل خليفة قصيدة سميح القاسم:

منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي
وأنا وأنا
وأنا أمشي

سقط شهيدا محمود الكرد ولا زالت رسالته تمشي، لا زال شعبه يمشي، ولا زال شعبنا في باب خان الزيت منتصب القامة يمشي.


مشاركة منتدى

  • سيدي المحرر هده اللبلة عرفت القصة برمتها لقد سمعت استشهاده زمن طفولتي والليلة عرفت الحقيقة مند ثلاثين عاما ومزال الشهداء يسقطونمند اربعة سنين في مدينة نابلس كان حي الياسمين وكان لالون ابيض في الياسمين وسقط الكثير من الشهداء في مثل هدا اليوم في حي الياسمين فكان لا لون ابيض في الياسمين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى