الأربعاء ١٦ شباط (فبراير) ٢٠٢٢
بقلم هاتف بشبوش

باقر صاحب، بين العدميّةِ، وشراكِ التفاؤل.. جزءٌ ثانٍ

تتوالى علينا الخيبات تلو الخيبات وما من أمل في الإفق (تاج خيبة).

ماتبقى
رغيف شيخوخة بارد
أقضم ُصباحاً
إزورار خطى حبيبة العشرين
مشيب الأرصفة بالغبار
إنطفاء تضاريسِ حلمِ قديم

عند الكبر ستكون هوايتنا لامحال هواية المفلسين ولربما مراقبة جيوبنا حد الإفراغ مثلما أرغم عليها العظيم ماركس الرجل الوحيد الذي تكلّم عن المال بشكل مفرط وهو مفلس. ففي هذا العمر الذي تناهى للشاعر باقر، لا الجينز ينفع ولا تسريحةٍ مودرن ولا حذاء لامعٍ فكل رغبةٍ قد ولّت ودارت لنا ظهورها وما من حجةٍ لرجوعها. هوايتنا الوحيدة ربما أن نتذكر كيف نقشنا أو حفرنا أسماءنا على جبين إحداهن في العمر الذهبي العشريني، فالحب مهمة كبرى. ولربما ستبقى هوايتنا الأخيرة أن نراقب أنفسنا في الماء الآسن في طرقاتنا القذرة حتى هذا اليوم رغم تقدّم العالم. سنراقب ونراقب ولانرى أنفسنا غير ذئابٍ من نكوصٍ بشري، ولايوجد بطلٍ في محنتنا هذه سوى الخوف من أن يضمنا العدم تحت لحافه الترابي المطبقِ والثقيل.
ينقلنا باقر الى نصوصه القصيرة التكثيفية في كلماتها والهائلة في معانيها وما أطلق عليها (باب مقاصير)..

أيامنا الزرق أغنية من دون خرائط
قالتْ أرضُ السواد ِ
كلّ شيء

ثم يقول في ثيمة صعلكة:
بقوة اليأس سأحيا
وفي أرض اليأس
سأموت
ليس لدي ماأخسره
سوى يأسي
(سأموت ومعي حاصل العالم الذي لايُطاق.. بورخيس)...

هنا أيضا يعود بنا باقر الى مفاهيم الفناء والعدم، فكلنا يشهد مراسيم موت الكل، وحتى الحيوان يضطجع أحيانا لأنه يعرف أنّ الموت قد دنى فعليه التلسيم للأمر. الخوف من الموت هو القلق من إنطفاء الوعي وخمود الأبدية. أتت الأديان ثم أتى الفلاسفة للتخفيف من حدة هذا الألم ولكن دون جدوى. الفيلسوفة (حنا برانت) قالت هناك أمران يخففان من هذا الخوف وهو الأمر الشائع والطبيعي في التناسل، ثم الأمر النفسي والمعنوي. التناسل يُبقي جيناتنا لدى أحفادنا ويُبقي أشكالنا وأصواتنا أحيانا ومثلما يقولها المثل الشائع (من أنجب لم يمت). أما الأمر النفسي والمعنوي في عصور ماقبل الأديان فهو في خلود المرء كبطلٍ أو كشخصٍ ترك أثراً بين شعبه أو قبيلته فظل التأريخ يذكره وخصوصا بعد إنتشار الكلمة المكتوبة على الورق فتتناقل عبر آلاف السنين. ثم جاءت الأديان وفسّرت من أن هناك جزء من جسم الإنسان سيبقى وهو الروح أو المُثل التي تبقى خالدة في العالم الآخر. وهناك من يؤمن بالإستنساخ الذي تكلّم عنه الفيلسوف الأول (إفلاطون) وهناك العديد من الطوائف والفرق الدينية تؤمن بذلك ومنها لدى الهندوس والموحدون والطائفة الدرزية التي تحدثت عما يعرف (بالتقمص) أو هو الإستنساخ نفسه حيث أنّ جسم الإنسان عبارة عن قميص يغطي الروح وإذا ما ترهل هذا القميص وأصبح عتيقاً مرقعاً سوف ينتقل الى روح طفل ليغطيه فتستمر الحياة، ولذلك أطلق مصطلح التقمّص. وكل هذه لم تقنع الإنسان ولم تخفف من مديات خوفه من الموت لأن الأبدية على هذه الشاكلة هي أبدية لاواعية غير مدركة كما وإنها تلغي الأنا والذات ويبقى المرء يحلم بالخلود الأبدي البعيد المنال حتى الآن. ولذلك قال الشاعر باقر (ليس لدي ما أخسره سوى يأسي)، وما لدينا من أمرٍ لتخفيف آلامنا غير أننا حين نذهب الى فراشنا علينا أن نترك همومنا في ملابسنا كي نحظى بهجعةٍ هانئةٍ تنقلنا الى اليوم التالي المربوط بطائلة (وهكذا دواليك). وهناك من يتحدى ويصر فيقول (أيها الزمن مهما تلقيت منك الألم /فإنها مكافأة بالنسبة لي..مثل هندي).

ويستمر باقر في هذا البوح العدمي ليرى نفسه متساءلاً على من رحلوا واصبحوا نسياُ منسيا، على طريقة أبي العلاء المعري (رب لحدٍ صار لحدأًمرارا/ ضاحكا من تزاحم الأضدادِ). فراح باقر يشكو في باب مقاصير أيضا في (ثيمة أبي) وهنا الأب لدى الشاعر باقر ليس شرطا أن يكون الأب البايولوجي، بل تبعا للمدرسة الرمزية، تعني أسلافنا الذين

قبروا على مر الدهور الغابرة:

قبركَ يتشرب رئتي
لذا
لا أستنشق الخسارات

غابرييل ماركيز يقول حين فقدت جدي أحسست وكإني فقدتُ جزءاً من كياني لأنه علمني إصول لعبة الحياة وكيفية الإستمرار بها دون منغصات. لكنها تبقى تلك الحياة الكوميديا اللعينة مثلما وصفها لنا الفلم الجميل (جوكر) إنتاج 2018 تمثيل (يواكين فيونكس) و (روبرت دي نيرو) و (سازيا بتز)، حيث نرى بطل الفلم ذلك الفنان الموهوب، الذي من المفروض أن يقدم الجمال لكنه يتحول الى شخصية عنيفة قاتلة رغما عنه في عالم رأسمالي جشع وبهذا يختلط القبح مع الجمال ليرسم لنا كم هي الحياة كوميديا زائفة لعينة. ويبقى باقر يبحث عن الملاذ الآمن الذي لانستطيع تقدير سعته المانحة لنا في الراحة دون قلق يؤرقنا فيسلبنا التوازن في كل مفصل من حياتنا. لنرى الشاعر باقر بخصوص هذا الملاذ وما قاله في (خلف الحياة..أمام الكلمات):

عند ركن قصي
في الجريدة
الحياة من كلمات
أتكفي؟؟

يقول (كارل ساغان) عالم الفضاء الأمريكي، بالقراءة والكتابة نستطيع أن نرى شخوصاً قبل آلاف السنين، نتكلم معهم نحاورهم نتخذهم أصدقاء لنا، بالكلمة نستطيع أن نعرف الحب ونعيش به فليس لدينا غير ذلك في هذا الكوكب الذي يتراءى لنا على بعد ستة آلاف مليار كيلومتر وكإنه (نقطة زرقاء شاحبة كما رأيته أنا في جولاتي المكوكية)، فعلينا أن نحب بعضنا لأن هذا الكائن البشري لايمكنك أن ترى غيره في بقية النجوم الأخرى التي لاحصر لها فهو بالتأكيد شيء ثمين ونادر. أما محمود درويش فيقول: نلجأ الى الصحف كي نتخلّص من اللغة العامية الدارجة وفي نفس الوقت يقول: قال مسافر في الباص / لاشيء يعحبني/ لا الراديو ولا صحف الصباح ولا القلاع على التلال / أريد أن أبكي. فمن خلال محمود درويش نذهب الى ماقاله الشاعرباقر (في الجريدة / الحياة من كلمات / أتكفي). أنه السؤال العصي على الإدراك. أتكفي، كلمة تبحث عن جواب، ومن الممكن رؤيا جوابها عند باقر وهو المتمثل بالنفي، من شدة ما يؤلمه في وطنه، الذي هو إبنه كما قلنا
في بداية المقال حول التفاحة والشجرة ودليلنا هو الآتي:

دجلة إخدود الأسى
على ضفافه:
بيادقٌ..أبدا
في خرائط الحروب

الفيلسوف (ميخائيل باكونين) الكاره للكنيسة والدين، اللاسلطوي والذي لقب بالفوضوي وطرد من الأممية الأولى من قبل ماركس وأنصاره يقول: انّ اعظم عاطفة لدى الإنسان هي عاطفة الهدم والتخريب، ومنها جاءت عبارته الشهيرة (أنّ الحرية تعني إسقاط الله والدولة والقوانين الإجتماعية السائدة). الحروب كلها تخريب ودمار وفوضى في العراق أو أمصار العرب عموما، بسبب الأنظمة الأصولية المقيتة التي حكمت ولازالت تصر على إنها هي الحل الوحيد للعالم ولذلك قال المفكر المصري (السيد القمني) في رده على بعض المتطرفين الذي قال من أننا لابد أن ناخذ فرصتنا في الحكم والسلطة فالعلمانيون وغيرهم جربوا لم لانجرب نحن فقال السيد القمني: نحن جربناكم لألف وأربعمئة عام. هكذا حالنا في العراق نتيجة الفكر السائد الذي لايمكن الخلاص منه بسبب القداسة التي لايمكن لأحد المساس بها دون أن يعطي الثمن بروحه وراحته.

من كل هذا العدم المتشعّب الذي قرأناه، يقفز لنا باقر الباحث عن الحب لأنه الوحيد الذي يسرق الزمن، وبالحب نستطيع أن نرمم أنفسنا وأن ننطلق لما هو أفضل لتفسير الحياة حتى لو لم نستطع تغييرها فمهمة الشاعر هو التفسير وليس التغيير وهذه هي المهمة الأساسية للشاعر مهما أوغل في التفاصيل الصغيرة للحياة. لنقرأ باقر بخصوص هذا المآل:

أرى كلماتي كما ليلِ شعرك
لا الفظ ُخرائب َجسدي
لا أسمعُ لونا في قدومك اليّ
لا أسمعُ ليلاً في هروبك من كأسي

(شعرج غابة / شعرج ماي) هذا ماقاله الشاعر العامي فالح حسون الدراجي بصوت المطرب البديع (كريم منصور). في إلتفاتة رائعة من قبل باقر في هذه الأبيات المصنوعة من غزل وحب ثم الإنثيال الى الصهباء التي جعلتني أجد بها أنفاساً واضحة لأبي نؤاس وقوله الشهير للنادل (صب لي خمراً وقل لي هي الخمرُ) حيث أراد أبو نؤاس في هذا البيت الحداثي بإمتياز في ذلك الزمن المتراجع، أراد أن يكمل جميع الحواس التي يتمثل بها الخمر ومنها حاسة السمع (قل لي هي الخمر). أما باقر فقال (لاأسمع ليلا في هروبكِ من كأسي) وعادة الليل يكون مرادفا لكل ماهو عاطفي وخمري، فهل الليل عبارة عن طبل يمكننا أن نسمع صوته؟ لا أبدا. لكن التعبير الدفين والرمزي يوحي لنا بما أراده باقر في سماع كلمة الخمر أو الليل معاً ملء أذنيه. أما الفلقة ماقبلها (لا أسمع لوناً) أيضا هي الأخرى إبداع مختلف متجاوز الى حد بعيد، يريد منه باقر، أن يعرف ماهو سر قدومها (الحبيبة)، مثلما فعلها أحد الشعراء، وهو يقرأ أمام سكينة بنت الحسين، من وراء حجاب فقال (طرقتكَ صائدة القلوب / وليس ذا وقت الزيارة / فارجعي بسلام) مما حدا بسكينة أن تقل له أعتمادا على معنى الطروق وهو مجيء الحبيبة ليلاً، فقالت له: وهل هناك أجمل من المجيء ليلا فإذهب قبحك الله وقبح شعرك. فهنا باقر أراد أن يرسم لنا معنى ومغزى وصالها به وماهو طعمه ولونه فهو المنتظِر على أحر من الجمر لهذا اللقاء الوهمي أو الواقعي على حد سواء.

مزايا أخرى لدى الشاعر:

تولد السماوة / مهندس لكنه أبى أن يترك أوجاع الوطن، فإعتنق الأدب، شغل منصب مسؤول الصفحة الثقافية في جريدة الصباح البغدادية بين 2012- 2016، حتى أصدرت له مجموعة قصصية وعدة دواوين ومن ضمنها ديوان موضوع بحثنا هذا (ترنيمة سوداء) الذي إستطاع من خلاله أن يوصل لنا رسالة مفادها أن الكتابة هي السبيل الأمثل للوصول الى غاياتنا الوجدانية أو السياسية المتشعبة، في أكثر من مفصلٍ مؤلم. كما وان هناك ثمة أمران من أكثر الإمور إثارة للتعاطف: وهما القبح الذي يَعرف حقيقته، والجمال الذي يتجاهل نفسه (أوسكار وايلد). كما وأن تأثير الكتابة ليس بالكيان الشخصي أو الذات الواعية وحضورها في المكان والزمان المحددين بل هي العابرة الى المديات والسموت التي لاتمنعها الجدران ولا المسافات البعيدة ولا الحصون والقلاع المتينة ولا السلاح الموجه لرأس أو قلب الكاتب والمبدع. فلمّا رفضت السلطات الامريكية منح التاشيرة للروائي اليساري (غابرييل ماركيز) عندما دعته إحدى المؤسسات الأدبية للحوار معه قال قولته الشهيره: هؤلاء الأغبياء لايعرفون بأن تأثير الكاتب ليس بجسده بل بأفكاره والأفكار قد دخلت دون تأشيرة. لذلك كان الشاعر باقر قد كرر كلمة (أكتب) بصيغة الأمر في أكثر من مرة لأنه العارف بمدى تأثيرها على الطغاة، أو في مدى قابيلتها على صنع الجمال والفلسفة والأدب بكل أجناسه وفي الغناء والأناشيد التي تستمد قوتها من الكلمات المكتوبة، وفي وصفة الطبيب التي كان يكتبها (هوميروس) على شكل شعر لكي يسهل حفظها.

وبين هذا وذاك، كان باقر صاحب في ديوانه هذا (ترنيمة سوداء) موفقاً، متجاوزا، عابراً لمستويات الجمال المعرفي الذي قرأناه في هذا المعرّض الكتابي الموسوعي الذي إمتدّ لأكثرِ من ذراع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى