الاثنين ٧ أيار (مايو) ٢٠٠٧
أصابتها رصاصة قناص في غرفتها
بقلم عبد الباسط محمد خلف

بشرى : رَحَلَت وبقي كتابها..

لم تكن الطالبة بشرى ناجي،17 عامًا، التي كانت تستعد لامتحانات الثانوية العامة التجريبية تعلم أنها ستسقط شهيدة خلال دراستها لمادة اللغة العربية، في قلب منزل عائلتها بمخيم جنين، مثلما لم يكن في حسابات عائلتها أن رصاصة قناص إسرائيلي ستسرع إلى رأسها، وتنشر أجزاءً من مخها ودمها في غرفتها وعلى كتابها، يوم الحادي والعشرين من نيسان الفارق.

تروي والداتها، رقية،55 عاماً،، وقد سيطر عليها البكاء: كنا في البيت، وسمعنا أن الجيش قد اقتحم المخيم، كانت بشرى تدرس في غرفتها، وبجوارها ابنة أختها، فأسرعت لنقلها إلى غرفة المطبخ، وعادت للدراسة.

تتابع أم عبد الله: دخلت للاطمئنان على بشرى، فوجدتها ممدة على الأرض والدم ينزف من رأسها، فصرخت: راحت بشرى..

أخذت الأم تصرخ على جنود الاحتلال الذين طوقوا المنزل:" قتلتوها، قتلتوا بنتي"، لكنهم لم يعيروها أي انتباه، واستمروا في وحشيتهم، وطالبوا عائلة بشرى بإخلاء المنزل.
تقول شقيقتها سجود(9 سنوات): "كنا في البيت، ولم نسمع صوت رصاص، بعدها شوفنا دم أختي على الأرض وعلى الكتاب، وصرنا نعيط."

وفق روايات الجيران، فإن رصاصة القناص الحاقدة دخلت من نافذة الغرفة المفتوحة التي كانت بشرى تدرس بها، واخترقت الثلاجة، ولم يسمع أحد صوت إطلاق نار، ما يدل أنها بكاتم صوت.
ثم أعاق جيش الاحتلال سيارة الإسعاف، ولم يسمحوا بإخراج جثة بشرى من المنزل، إلا بعد أن كشفوا عن وجهها، ولاحقًا حطموا إنارة منزل عائلتها.

تصف عطاف السعدي لحظة استشهاد صديقتها بشرى، فتقول: عندما سمعنا بدخول جيش الاحتلال للمخيم، أسرعت إلى التلفون، للاطمئنان على صاحبتي، فأخوها مطارد منذ فترة، ونحن جيران، ظل الهاتف يرن، ولم ترفع بشرى السماعة، وبعد وقت قصير سمعنا صوت سيارة الإسعاف، فقلت ربما فقدت بشرى وعيها، لكن والدي أخفى عني استشهادها، و أخبرني بأن صديقتي أصيبت بجروح ونقلوها إلى المستشفى في نابلس.

أما زميلتها منال الرزي، فتقول: كنت أدرس، فجاءت أختي بسرعة لتعلمني باستشهاد طالبة من مدرستنا، فتحنا التلفزيون وقرأت الخبر المؤسف، ولم أصدق إلى اليوم ما حدث.

تضيف: كانت بشرى تدرّسنا الرياضيات ودائماً كنا نقضي أوقاتا طويلة مع بعضنا البعض.
تتوقف منال من البكاء، وتعود لرواية تفاصيل اللحظات الأخيرة من جلسة الامتحان التجريبي الأولى لمادة اللغة العربية، وتوقعات بشرى بنتيجة ممتازة.

تتصاعد أحزان الطالبة سناء الغول، فتقول: قضينا لحظات حلوة كثيراً مع بشرى، ولم أستطيع النوم في تلك الليلة الطويلة، وبقيت في ملابس المدرسة حتى الصباح الباكر، حين أسرعت إلى أمي، وطلبت منها أن نخرج إلى المستشفى.

تتابع: وصلنا في الساعة الخامسة صباحًا، ووجدنا ثلاجة الموتى مقفلة، فصرت أفتش عن المفتاح، إلى أن وجدته.

فتحت سناء الباب الأول لتجد شهيداً، فأحست بنوع من الأمان، وأن صديقتها لم تستشهد كما أشيع، ثم فتحت الباب الثاني لتجد شهيداً آخر، لكن بعد التدقيق، لمحت عين بشرى في زاوية ثانية.
تصف بألم: كانت عينها اليمنى مفتوحة، وكان وجهها مليئًا بالدم، وصرت أصرخ، ورفعت الشاش عن وجهها لوداعها.

تسترد أجزاء من أحلام بشرى فتقول: قبل أن تغير بشرى رأيها في دراسة الفرع العلمي كي تلتحق بنا في مدرسة الزهراء والفرع الأدبي، كانت تحلم بأن تكون رائدة فضاء، ثم بعدها بدلت أحلامها وصارت تقنعنا بدراسة العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية، ثم انتهى كل شيء.

لصديقتها روند القيسي قصة أخرى، فقدت أمضيت وبشرى قبل استشهادها لحظات طويلة، خلالها ضحكن وحلمن وفكرن بالمستقبل والتقطن صورًا كثيرة، وأكلن الحلوى وتمشين.

تقول: قبل أن نفترق في ذلك اليوم، طلبت مني أن أمسح كل الصور، وحددنا موعداً كي تساعدني في دراسة الرياضيات.

تواصل بحرقة: طلبت منها في نهاية النهار أن نذهب لزيارة قبور الشهداء القريبة من منزلنا، فطلبت أن نؤجل ذلك إلى الغد.

تروي مدرّستها سونا سليمان: قبل أيام من استشهادها، وتحديداً في السادس عشر من نيسان أقمنا للطالبات المتفوقات حفلاً خاصا، وكانت بشرى واحدة منهن، إذا إنها حصلت على علامة مائة في المائة في الرياضيات واللغة العربية والتاريخ.

تضيف: سمعت مساء ذلك اليوم باستشهاد طالبة من مدرستنا، فكانت بشرى أول من تبادرت إلى ذهني، فخفت عليها، وتمنيت أن يحميها الله ويحمي كل الطالبات، لكن حدث ما شعرت به.
تتابع: كان مشهداً مؤلماً لحطة وداع بشرى، والأكثر ألماً اليوم التالي، وكيف رفضت زميلاتها في الغرفة الدخول لتقديم الامتحان، وسط حالة حزن وبكاء.

تقول مدير المدرسة دجلة القاروط: عشنا قبل أيام لحظة فرح بتخريج بشرى وزميلاتها، ولم نعلم أن نعيش لحظة قاسية بعد خمسة أيام، ستفقدنا واحدة من أكثر طالبتنا تفوقاً.

تضيف: لا زلنا نتذكر ضحكاتها، وكلماتها، وبسماتها وجوائز تفوقها وحديثها وبشاشة وجهها.
أما مديرة التربية والتعليم في جنين سلام الطاهر، فترثي في حفل تأبين خاص أقيم في ساحة المدرسة، بشرى شهيدة الزهراء، كما أسمتها.

تتألم على رحيلها، وتعدد مناقبها كما روتها لها المعلمات، وتتمنى أن تكون بشرى الضحية الأخرى من زهرات فلسطين.

وتتابع: لينظر العالم كيف استبدل لصوص الحياة قلمها الأبيض وكراساتها بآلة سوداء صماء لغتها النار والقتل بدون أي استثناءات.

في غرفة صفها، صار مقعدها شاغرًا، واحتلت أزهار اصطناعية المكان، وخطت زميلاتها عبارة: بشرى زهرة فلسطين، وأصبح الحزن شركًا في تفاصيل المدرسة التي لا تبتعد سوى عشرات الأمتار عن منزل بشرى والمكان الذي استشهدت فيه.

ونَظَمت إدارة مدرستها قصيدة شعرية لروح شهيدة الزهراء، تقول بعض الأبيات:

أقلامك تروي قصتك
يا زهرة جيل المستقبل

اختار الموت طالبة
يا أطهر أنبل ما نفخر

غادرت الزهراء وداعًا
حاملة بيمناك الدفتر

عهدًا نوفيك بنجاح
يكلل قبرك وسيزهر

جيلاً بالعلم يتحدى
وبإيمان القلب سنصبر


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى