الثلاثاء ١٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
بقلم أحمد زياد محبك

بنت الملك

كان لأحد الملوك ثلاث بنات، يحبهن حباً كبيراً، إلا الصغرى منهن، فقد كن كلما جلب لهن شيئاً، شكرنه وحمدنه، وقلن له: "أدامك الله يا أبي" إلا الصغرى، فكانت لا تقول شيئاً من ذلك، وإذا ماعاتبها والدها، قالت له: "هو من عند الله". وكان يغضب منها، ويحاول أن يثنيها عما هي فيه، فلا تستجيب له، فيتهددها، ويتوعدها، فلا تخشى، وتظل على قولها.

وذات يوم غضب منها غضباً شديداً، فقرر تزويجها لوّقاد في الحمام، على حين زوج ابنتيه الكبرى والوسطى لاثنين من كبار وزرائه، وزودهما بالهدايا والعطايا، وحرمها هي من كل شيء، ولقد زاد في غضبه ونقمته عليها أنها تقبلت ذلك كله برضى وصمت، ولم تبد أسفاً ولا حزناً ولا ندماً، وكانت إذا لامها أحد على ذلك، قالت: "هو من عند الله".

ولقد كان مسكنها مع زوجها الوقاد في القمين، حيث أخذت تشارك زوجها فراشه الخشن، قريبة من أكوام الأقذار، قانعة بما هو دون القليل، صابرة على حظها، جاهدة على إسعاد زوجها ما استطاعت، من غير ضيق ولا تذمر ولا ألم.

ومرّت عليها أيام، وإذا هي حامل، ففرحت بحملها، على الرغم مما هي فيه، وأخبرت زوجها، ففرح مثلها، وإن كان لا يريد مثل هذا الحمل المبكر، وأخذت تعد الليالي والأيام، وهي تكر عليها سريعة، حتى اقترب أوان وضعها، فتوسلت إلى زوجها أن يسأل أصحاب الحمام أن يسمحوا لها بدخول الحمام ليلاً بعد إغلاقها، لتضع فيها، إذ لا مكان لها في القمين، لتلد فيه، ففعل ذلك، ووافق أصحاب الحمام.

وذات ليلة أحست أنها في المخاض، فأخذها زوجها إلى الحمام، وأدخلها فيها، ووقف خارجاً ينتظر، وهي وحدها، تعاني آلام الوضع، بصبر وصمت، وبينما هي في المخاض، دخلت عليها أربع نسوة، حيينها أحسن تحية، وهن يحملن لفائف للوليد، وغسلنه وقمطنه، ثم ألبسنها أجمل الثياب، وودعنها وهممن بالخروج، فسألتهن من يكن؟ فأخبرنها أنهن بنات أصحاب الحمام، فشكرت لهن سعيهن وتمنت لهن تحقيق الآمال.

ثم خرجت ففرح بها زوجها، ودهش لما هي فيه من ثياب، ولما قُمِّطَ به الوليد، فأخبرته أن بنات صاحب الحمام هن اللواتي عنين بها، ثم عاد بها إلى القمين، لتنام مع الوليد، إلى جانب الأكوام من الأقذار مما يوقده.

ومرت عليها الشهور والأيام، وهي تعنى بوليدها، وترعى زوجها، حتى أحست ذات يوم بأنها حامل، فأخبرت زوجها، ففرح بحملها، وأخذا يعدان معاً أيام الحمل، حتى حان وقت وضعها، وأدخلها ثانية الحمام، فوضعت فيه، وكان ماكان في وضعها من قبل، إذ حضرت أربع نسوة عنين بها وساعدنها، ثم خرجن. وأضحى القمين ضائقاً بأربعة اشخاص، الأب والأم، والوليدين، ولكن صبر الأم وحسن مداراتها، كان ينسي كل ضيق.

ومرت الشهور والأيام، فإذا هي حامل، وكان أيضاً ماكان من قبل، ولكن قبل أن تخرج النسوة اللواتي ساعدنها في المخاض، أخبرنها أنهن في الحقيقة لسن إلا ملكات من بنات الجن، فقد أشفقن لحالها، ورثين لها، ثم باركن صمتها، وقدمن لها خاتماً، قلن لها افركيه، حين تشائين فيخرج لك عفريت يحقق كل ماتطلبين.

ففرحت بهن فرحاً، وأسرعت إلى زوجها تهنئه بالوليد الجديد، تقدمه إليه، وتعرض عليه الخاتم، ومالبثت أن باردت إلى فركه، فبرز لها عفريت سألها عما تريد، فتمنت عليه أن يشيد لها قصراً تجاه قصر والدها، وأن ينقلها مع زوجها إليه، وأن يعد لزوجها محلاً كبيراً في سوق التجارة، فنفذ العفريت في الحال كل ما تمنت وإذا هي وزوجها وأولادها في قصر منيف، والخدم بين يديها، يأتمرون بأمرها، ومضى زوجها إلى محله التجاري يشتري ويبيع وإذا هو بين عشية وضحاها كبير التجار.

وأطل الملك ذات يوم من شرفة قصره، فرأى القصر الذي نهض تجاهه، فسأل لمن يكون هذا القصر؟ فأخبر بأنه لكبير التجار، فرغب في التعرف إليه، فأرسل في طلبه، وماهي إلا أيام حتى توطدت بين الملك وصهره الوقاد كبير التجار المودة، فأضحى أثيراً لديه، يدنيه منه، ويرفع من مكانته، ويخصّه بالاحتفالات والدعوات وهو لا يعرف من يكون.

ولما أدركت بنت الملك أن الوقت قد حان للكشف لأبيها عما آلت إليه، طلبت من زوجها أن يدعو أباها الملك إلى القصر، وأمرت الخدم أن يعدّوا أطايب الطعام، ثم قامت هي نفسها بإعداد نوع يحبه والدها، وحين دخل الملك مع وزرائه إلى قاعة الطعام، وأخذ موضعه من المائدة، لاحظ النوع الذي يحبه، فمال إليه، وأخذ يتناوله متحسراً متألماً، وهو يحدث مضيفه عن ابنته التي كانت تعدّ له مثل هذا النوع، والتي ظلمها فزوجها من وقاد، وتخلّى عنها، وماعاد يسأل عنها، وكان المضيف يسمع من غير أن يتكلم.

ثم قام الملك بدعوة من مضيفه بجولة في القصر تعرف فيها إلى أرجائه ونواحيه، وخلال تجواله قدم له مضيفه ثلاثة أطفال، وهم أولاده، فأعجب الملك بجمالهم وذكائهم، ثم مال على أكبرهم وقبله، وقد تحرّك في نفسه شيء من الحنين، ثم سأله وهو يداعبه: "من أين لك هذا الجمال؟"، فأجاب الولد على الفور: "هو من عند الله"، وكانت أمه قد أوصته بذلك، فلما سمع الملك الجواب، صعق، والتفت إلى مضيفه يسأله: "بالله عليك، هلا أخبرتني من تكون أم هذا الولد؟".

وعندئذٍ برزت له ابنته، وقالت: "هذه أنا يا أبي"، فكاد الملك ينكرها، ولكنه فتح لها ذراعيه، وضمها إلى صدره، والدموع تنحدر من عينيه، ثم أمر بتعيين صهره وزيراً عنده، وقرب منه ابنته، وأعاد إليها ماكانت فيه من عزة، وأسف على مافرط، وندم.


مشاركة منتدى

  • من يقرأ النص سيجد أنه يشي بأن المادة هي التي تحكم النفوس، رغم أن الحكاية ذهبت إلى الشعبيات وإلى أساطير ألف ليلة وليلة... ولكنها مع ذلك ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتلاعب بالمظهر.. ولا يخفى على القارئ هنا الناحية الروحية المرتبطة بالله ممثلة في " هو من عند الله"...
    شكراً دكتور على هذه الحبكة المترابطة النسق.. والتي يدلل نسيجها على قوة الأداة التي تمتلكها.

  • قصه جدا رائعه كثر الله من أمثالك

  • هذة قصة جميلة
    نشكر الكاتب

  • إن هذهالحكاية من اروع ما قراته على الانترنيت وشكر على ثقافتك العظيم وشكراٌُ

  • من توكل على الله فهو حسبهة,انما الشكر لله وبه نستعين وعليه نتوكل ,ان الله هو المعطي وهو النافع وهو الضار وهو الدي بيده كل شيْ. فمن شكر الله زاده.لقوله لإن شكرتم لأزيدنكم} وانما الله يرزق من يشاء بغير حساب , لأن الإنسان ادا كان ظنه بالله كبير فان الله لا يخيبه

  • تستم د هذه القصة قوتها من التناص مع قصة "الملك لير" لشكسبير مما يحث القارئ على المقارنة بين الحبكتين فتجد ان قصة الملك لير تمحورت حول سؤال طرحه الملك على بناته الثلاثة يتطلب من كل منهن التعبير عن مقدار حبها لوالدها فجاءت اجابات المتملقات رنانة اما الصغرى والتي احبته بصدق فقد جاءت اجابتها مخيبة لتوقعاته فقد اجابت انها :"تحبه كما ينبغي للبنت ان تحب اباها".
    وجه الاختلاف بين القصتين يكمن في ان قصة الأديب احمد محبك اعتمدت على -تراكم احساس -الأب أن ابنته الصغرى لا تعبّر له عن أي حبّ بالكلمات, بينما اعتمدت الحبكة في قصة الملك لير على السؤال المحوري المثقل بالنرجسية التي توخت اشباع مكامن الغرور فيها بالكلمات الرنانة ولم تتوخى صدق العاطفة التي قد تعجز الكلمات عن التعبير عنها.
    وهكذا, تأتي الحبكة في "الملك لير" مفتعلة بينما نجدها عفوية , متداخلة مع أحداث القصة في "بنت الملك".
    في القصتين, تأتي التجربة العملية لتنير عينيّ بصيرة الأب في أنّ الحبّ لا يرتبط بالكلام المنمّق انما بالمواقف والفعل.
    كما وتعتمد هذه القصة في جماليتها على "عنصر المفارقة", فالمفروض ان الأب يعلم ابناءه القيم بينما نشهد هنا على ان البنت هي التي علمت والدها الحب الحقيقي كقيمة لا ترتبط بالزخرفة البلاغية. وهكذا,
    يكتسب النص عنصرا جماليا آخر: فهنالك درس داخل النص وهنالك درس خارجه. الأب يتلقى الدرس من ابنته داخل النص . ُم, تنتقل الكرة الى ملعب القارىء الذي يتلقى بدوره الدرس في أنّ الحبّ الحقيقي لا يرتبط بالكلام المزخرف انما بالمواقف والفعل واننا جميعا معرضون للتعلم من التجربة في اي مكان واي زمان ..سواء حدثت التجربة في ارض الغرب (الملك لير), او الشرق ( بنت الملك)- كما اتى بها الاديب المتالق بسلاسة افكاره وعذوبة كلماته..د. احمد محبك.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى