الخميس ١١ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم بان ضياء حبيب الخيالي

بيبسي

رفرف رمشاها بخفقات متواترة،تعالت دفقه دم ضاجة بالحياة فوردت وجنتيها وزقزق قلبها السابت بفرح لاسع نسيت لذته طويلا... كان أجمل ما طرأ على حياتها الواهنة النبضات، تلك الإيماءة غير المقنعه تماما من رأسه وهو يجيب أخيرا توسلها الدائم له والذي لم يجب قبلا إلا بانتفاضة نفي قاطعة....!

مضت سبع سنين منذ وضع ذلك القيد الذهبي في بنصرها،لتتحول لتحفة جميلة من تحف الدار، وضعها في جامخانة* وقنن تحركاتها بحجج واهية أكثرها تكرارا كان العشق الزائد والغيرة العمياء،وتدريجيا أصبح تذمرها مرفوضا حتى من اقرب أقربائها فالكل مقتنع أن الحب المحض كان دافعه الوحيد...!

كانت كلما سألته المرور بالسوق القريب من دار أهلها عند زيارتها الدورية لهم... يجيبها بلا باترة وربما لو لم يكن الأمر يخرج عن قائمة الرشاد لقنن حتى أنفاسها كي لا تصطدم بأنفاس غريبة...كانت تعلم جيدا أن الحب بريء من سطوه التملك التي تملكته باقترانها به،كانت تعلم إنها الأنانية...التي تملي عليه حجره لها لا غير... لكنها كانت أكثر مسالمة من أن تجادل بقوة فآثرت السكوت بعد مدة دون رضى...

كأمها،كجدتها.... كقافلة طويلة من نساء ساكتات....!

لم تتمكث بالقرب لتتسائل وهي بفيض مسرتها ذاك المساء المبارك الذي افتتح صباحات مشرقة للغد...سبب قراره منح عصفوره الثمين... انطلاقة فضاء أرحب من فضائه الذهبي ؟ زقزقت بكل موشحات الطيور المكبوتة كل الشتاء أمام ربيع الحرية وطفقت تعد دراهمها وأحلامها جيدا وتملت حالمة مفتوحة العينين باسمة الثغر كل الليل بروعة الوجود وسط الناس من جديد وممارسة ذاتها الإنسانية....لتغفو أخيرا قبيل الفجر وهي تملك كنوز سليمان مسرة.

السوق الشعبي قرب دار أهلها كان أشبه بجنة افتقدتها طويلا...لم تكن بحاجة لشيء فعلا...فقد كان يحمل إليها كل طلباتها من أجود الماركات،لكنها بالفعل كانت تتمنى أن تختبر من جديد إحساس فرح خبرته قبلا باختيار مشترياتها وان كانت من بضاعة محلية مقلدة،فتعدد الاختيارات والوجود بين بشر بعد انقطاع كان مطلبها أكثر من أي مطلب آخر...

في السوق مسيرة كانت بشوق لذيذ...أصوات الباعة الموسيقية تشنف أسماعها المتدثرة في صمم موسيقى الخواء بين أربع جدران...مناظر البشر الرائعة تمنحها إحساس جديد بالحياة

بائع الداطلي«....وخوانه المنضّد بأصابع الحلوى الذهبية المسكرة،والتي ترقى عندها بقلاوة ابو عفيف حلاوة»

آخر ينادي كل شي ب(250)...تقتنص عينيها الأشياء المرتبة على عربة صغيرة بمهرجان ألوانها وبساطتها البديعة....
محلات كثيرة جميلة جدا نمت وازدهرت خلال السبع سنين السوق اكتسى بحلة جميلة جديدة،ورغم تحذيره لها من أكل أي شيء من الباعة المتجولين إلا إن حرارة الجو سوغت لها قدح البيبسي الصغير من عربانه ابن حجي فرج كخمر الجنان...
ارتشفت ببطء وتلذذ رحيق الشراب الأسود البارد متلقية تكتكة رذاذه المتفجر المحببة لوجنتيها بانتعاش...أتت على القدح حتى الثمالة واشترت آخرا أتبعته بصاحبه دفعة واحدة واستشرت في عروقها طراوة وبرودة رائعين منحتها انتشاءا ساحرا....كادت تطلب قدحا ثالثا لولا الخجل من نظرات المتحلقين حول العربه...!

كان يوما من أروع الأيام...أجمل من كل برامج الخروج التي كان يرتبها زوجها لاماكن أنيقة فخمة، منشاة،تفتقر للبساطة المحببة التي تنشدها....

ولسعادتها التي فاءت بها لبيت زوجها والتي انعكست على الدار كلها وبإلحاح من والدة زوجها اصدر قرارا جديدا بالسماح لها بزيارة السوق كلما ذهبت لزيارة أهلها.... ويا لفرحتها...

قضت الأشهر التالية كلها،تفتتح دخولها السوق البهيج بمراسيم شرب قدحين بيبسي رواحا ومراسيم اختتام أعمال الشراء بقدحين بيبسي مجيئا. وما بينهما كانت ترفل بفيض مسرتها بين محلات بضائع الأطفال ومحلات العطور والهدايا، تمتلك الدنيا كلها وهي تنتقي بيديها الفاكهة من الخضري والكعك الحار من الفرن القريب...وتحسب نفسها فازت بلذائذ الجنان
حتى جاء يوم،بعد شهور طويلة....

دشنت فيه دخول السوق بالقدحين الخالدين وأخرجت قائمة صغيرة لمشترياتها وبدأت رحلتها السعيدة و... وانتهى لأسماعها صوت سيارة شرطة ولغط وهرج في مقدمة السوق،أخذت تراقب من بعيد ما يحدث دون أن تنتهي لمعرفة شيء فمعظم الباعة ركضوا لمكان التجمهر الذي كان محاطا بعباءات سود لنساء بالقرب وأصوات عالية وصخب لم ينته إلا بابتعاد سيارتي شرطة عن المكان عندها تفككت وشيجة ذاك الجمع وتكسرت محاولتها مغالبة الفضول على صخور حديث امرأة خمسينية بالجوار مع بائع يفترش ببضاعته الأرض بالقرب وهي تخبط يدا بيد صائحة بحزن...
ـ والله خطية هاليتيم بعد شراح يطلعه...

والبائع يسألها بدهشة واستغراب

ـ معقولة ابن حجي فرج الخير هيج يسوي...؟

ـ يمعود الماكو....! والولد زغير ميفتهم قشمروه...

ودون شعور وجدت نفسها تبتدئ المرأة بسؤالها الذاهل

ـ خاله شبيه ابن حجي فرج...؟

ـ يمه خطيه الولد أبوه جان أسير تزوج على كبر ويله خلف ولد وبنات اثنين والرجال مات وترك ابنه عمره عشر أسنين وما عدهم جادود «غيره.أمه كامت» تبيع خضرة وتعيشهم لمن كبر شويه،كام يبيع بيبسي بالعربانه واشتكوا عليه البيوت القريبة من السوك وأخذته الشرطة.

وعادت تساءل المرأة وهي منومة بذهولها وصورة الفتى الطيب يبتسم مادا يده الضئيلة لها بقدح الببسي ترفرف في مخيلتها

ـ ليش خاله اشتكوا عليه...؟

ـ خاله يكولون البيبسي مالته مغشوش، يخلي صبغ عبي ومطيبات وشويه صودا والجيران تشرب بالعافية....!
وأحست ببخار حار يدور في رأسها ومدت يدها دون شعور تتلمس معدتها التي صرخت بخوف،رغم إنها لم تشتك ابدآ قبلها من الم،وجاء صوت المرأة التي تطوعت بشرح كل القصة لها كرجع يتردد من عالم آخر تحوطه قهقهات لا مرئيين تتوسطها صورة زوجها الباسم مؤنبا... 

ـ يمه أطفال المنطقة كلهم تمرضوا ومحد أفتهم القصة إلى أن راد يموت خطيه علاوي ابن حجي فاضل جيرانه وسووله ن«اظور للأمعاء وطلع التقرير قبل يومين وعرفوا القصة وأهل الحلال تدخلوا وسكتوا أهل المريض بس المستشفى مقبل وحالوا القضية للشرطة واخذوا اليتيم... يمه خطيه الوليد ميدري» هاي تاليته،وولد الحرام علموه...وماكو مدرسة وتعليم يوعيه...

وووو....كلام كثير لم تعد تفقه معناه لم تعد ترى سوى صورة قطعة الكارتون الكبيرة المتوجة لسقف العربانه وهي تضحك مقهقهة بشماتة مستعرضة حروف كتبت على أديمها بخط مهتز (الف عافية)،مشت مذهولة والمرأة تهذي بجانبها بلا توقف حتى انتبهت لصمت وشرود مرافقتها فأمسكت... ونسيت أمر الفتاة بعد قليل،وهي تعيد القصة لبائع الطماطم وتساوم ثمن كيلوين ناضجين....وبقيت هي تسير كمنومة مردد في نفسها كمن به مس: ـ

ـ صبغ عبي... معقولة...؟ يعني آني شبعت صبغ عبي...؟

وتزفر بهم،وتعود تفكر...بمصير ابن حجي فاضل المسكين و....الناس الذين تضمخت شرايينهم بصبغ العبي وتعاودها صورة حوار دار بينها وبين الفتى القسيم الملامح المبتهج غالبا

ـ اكو ميرندا...؟

ويبتسم ابتسامته العذبة أمام سؤالها مادّا إليها يده بقدح يتكتك رذاذا

ـ لا إحنا اختصاص بس بيبسي....!

وتعود تتلمس معدتها لتتمتم بغيض دون ان تغالب ابتسامة الم ترتسم على شفتيها

ـ صبغ عبي...؟ خلف الله عليك ابن حجي فرج....!

ثم تتذكر صورة عينيه البريئتين وفتوته الغضة ويغوص قلبها بحزن عليه فتسأل الله له حسن المآل....و...تفكر لو أن مؤسسة رعاية ما... احتضنت اليتيم ابن الأسير المسكين الذي أضاع عمره بحروب طاحنة...هل كان الفتى سيلقى هذا المصير وهل كان ابن حجي فاضل وغيره سيتعرضون لتسمم سببه الجهل والتشويش ومن بعد الفتى المسكين للأرملة وطفلتيها....؟؟؟؟

وخرجت من السوق قبل أن تبدأ رحلتها التي لم تعد سعيدة أبدا....ناظرة بحزن لمكان العربه الفارغ....و...
وبعد سنين كانت تطفح على شفتيها ابتسامة مشوبة بهم لذكرى قديمة....كلما خرجت مع زوجها في زيارة ما و قدم احدهم لها قدح بيبسي من زجاجة مستوردة أو علبة بيبسي أنيقة الغلاف،رديئة الطعم...فترتشف منها رشفة يتيمة مجاملة لضيافتها وهي تردد في نفسها....

ـ مو طيب...مو مثل ذاك.... صدك صبغ عبي...بس جان طعمه أطيب...! 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى