الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

بين فيكتور هوغو وليو تولستوي

مقدّمة

سأتناولُ في هذا البحثِ المقارنِ حياةَ كلٍّ من الأديبينِ الفرنسيِّ فيكتور هوغو والرّوسيِّ ليو تولستوي؛ من أجلِ الوقوفِ على المقارباتِ الحياتيّةِ والفكريّةِ والأدبيّةِ من خلالِ سبرِ الأحداثِ الّتي أثّرت في كلٍّ منهُما، سواءٌ منها الأسريّةُ والبيئيّةُ والاجتماعيَّةُ والسّياسيّةُ والدّينيّة والاقتصاديّةُ، فكان لها الأثرُ البالغُ في نبوغِ كلٍّ منهما، جعلَت من أدبِ كلٍّ منهما أدباً عالميّاً يتجاوزُ حدودَ الزّمانِ والمكانِ، فكان أدبُ كلٍّ منهما مرآةً صافيةً تعكسُ بوضوحٍ مواقفَهما ونزوعِهما إلى عالمٍ خالٍ من الصّراعِ والاستِغلالِ وعبوديّةِ الإنسانِ والدّعوةِ إلى النّهوضِ بالفكرِ من أتّونِ الجهلِ والتّبعيّة والخضوعِ إلى عالمٍ حرٍّ تسودُه قيمُ العدالةِ والحرّيّةِ والمثلِ العُليا الكريمةِ. وسأعرضُ لهذهِ المقارباتِ بشيءٍ من التّفصيلِ، مع إبرازِ القرائنِ والدّلائلِ والبراهينِ الّتي تؤكّدُ ما أنا ذاهبٌ إليهِ.
محطّات حياتيّة مهمّة

فيكتور هوغو

ولادتُه ونشأتُه

فيكتور هوغو أديبٌ وكاتبٌ وروائيٌّ وشاعرٌ ورسّامٌ فرنسيٌّ من أهمِّ الأدباء الفرنسيّينَ، تُرجمَت أعمالُه إلى معظمِ لغاتِ العالمِ، وقد تركَ إنتاجاً ضخماً من الأعمالِ الأدبيّةِ في الأدبِ الفرنسي، وكانَ من أهمِّ أعمدةِ الحركةِ الرّومانسيّةِ.

وُلدَ هوغو في (26 فبراير عام 1802م)، في مدينةِ بيزانسون، كان والدُه جنرالاً في جيشِ نابليون الإمبراطوريّ، وكانتْ والدتُه معَ الملكِيَّةِ، لذلكَ وقعَ خلافٌ بينهما أدّى إلى تفرُّقِهما، وهَذا ما خلقَ فوضىً في حياةِ فيكتور هوغُو، فانتقلَ مع والدتِه إلى نابولي ثمَّ إلى مدريدَ وعادا بعدَها إلى باريسَ، تُوفّيَت والدتُه عامَ 1821م قبلَ أن يُتِمَّ العشرينَ عاماً من حياتِه، وبعدَ عامٍ تزوَّجَ فيكتور من أديل فوشير، وأنجبَ منها خمسةَ أطفالٍ. تخرّجَ من كلّيّةِ الحقوقِ في باريسَ، ولكنّ طموحاتِه كانتْ غيرَ القانونِ، فمنذُ بدايةِ حياتِه اهتمَّ هوجو بالشّعرِ والأدبِ الكلاسيكيّ، وخلالَ مسيرتِه الأدبيّةِ الطّويلةِ نشرَ أكثرَ من سبعينَ مؤلَّفاً في الرّوايةِ والشّعرِ والمسرحِ والسّياسةِ.

من أهمِّ أعمالِه الرّوائيّة: (البؤساءُ) نُشرَت عامَ 1862م، وتدورُ أحداثُها حولَ الظُّلمِ والجشعِ والحبِّ والتّضحيةِ في أحياءِ باريسَ، يُطاردُ بطلُها جان فالجان بسببِ سرقةِ أرغفةِ خبزٍ لإطعامِ أولادِ أختِه الجياعِ فيقعُ سجيناً، وبعدَ سنواتٍ من السّجنِ والملاحقةِ يخرجُ ليكونَ شخصاً محترماً في المجتمعِ، ويعملُ على حمايةِ ابنةِ فالنتين الرّضيعةِ، الّتي تمّ دفعُها إلى الفسادِ بسببِ الفقرِ.

وروايةُ (أحدب نوتردام) الّتي نُشرتْ أوّلَ مرّةٍ عامَ 1831م، وهي روايةٌ تاريخيّةٌ تدورُ أحداثُها في كاتدرائيَّةِ نوتردام في باريسَ، إذ يقعُ شخصٌ أحدبُ يعملُ خادماً في الكنيسةِ في حبِّ راقصةٍ غجريّةٍ تُدعى (إزميرالدا)، وتدورُ أحداثُ الرّوايةِ حولَ قصّةِ ذلكَ الأحدبِ؛ لتدلَّ على أنّ الجمالَ في الرّوحِ لا في الجسدِ.

وروايةُ (آخرُ يومٍ لمحكومٍ عليه بالإعدامِ) الّتي نُشرَت عامَ 1829م، وأحدثَت أثراً كبيراً؛ لأنّها تنتقدُ حكمَ الإعدامِ في ذلكَ العصرِ، حيثُ تَروي تفاصيلَ أحداثِ شخصٍ يظلمُه المجتمعُ ويحكمُ عليهِ بالإعدامِ بسببِ جريمةٍ، وهو ينتظرُ ذلكَ اليومَ ويقضيْ ساعاتِه الأخيرةَ وحيداً يسردُ ما مرَّ معهُ في حياتِه بألمٍ وحسرةٍ.

ومن رواياتِه أيضاً (الرّجلُ الضّاحكُ 1869)، و(عمّالُ البحر 1866). وروايةُ (ثلاثة وتسعون 1874) هي آخرُ رواياتِ فيكتور هوجو، تدورُ أحداثُها حولَ ثورةِ (فيندي وشوانري) الّتي وقعَت عام 1793م، وهي منَ الثّوراتِ المضادّةِ في الثّورةِ الفرنسيّة، وهي ثلاثةُ أجزاءَ، كلُّ جزءٍ يتحدّثُ عن قصّةٍ مختلفةٍ، ويطرحُ فيها نظرةً مختلفةً عن البطولةِ والشّرفِ من خلالِ ثلاثِ شخصيّاتٍ مع وصفِ الأحداثِ التّاريخيّةِ في باريسَ.

أمّا أهمُّ أعمالِه المسرحيّةِ، فمسرحيَّةُ (كرومويل) الّتي نُشرَت عامَ 1827م، وهي مسرحيّةٌ كلاسيكيّةٌ تَروي قصّةَ توحُّدِ الجمهوريّينَ والملكيّينَ ضدَّ كرومويل، وهو اللّورد حامي إنجِلترا؛ لأنّ البعضَ لا يغفرُ له إعدامَ تشارلز الأوّلِ والآخرون لا يعترفُون له بالتَّتويجِ، ولكنّ كرومويل يُحبطُ المؤامرةَ ويصلُ إلى التّتويج، ولكنّه في النّهايةِ يرفضُ التّتويجَ.

وأمّا أعمالُه الشّعريّةُ، فيَأتي في مقدّمتِها ديوانُ التّأمُّلاتِ الّذي نُشر عامَ 1856م، وهو مجموعةٌ من القصائدِ الشّعريّةِ، يَرى فيها هوغو أنّ التّأمُّلَ هو وجودُ الإنسانِ الّذي يبدأُ من أُحجِيةِ المهدِ، ويَنتهي في أحجيةِ القبرِ، وهي قصائدُ كتبَها هوجو على مدار عشرينَ عاماً، وقسّمَها وفقَ تسلسلٍ زمنيّ خياليّ.

وكان فيكتور هوغو مع نبوغِه في الكتابةِ والتّأليفِ رسّاماً بارعاً، إذ يُعدُّ من أهمِّ الرّسّامينَ والفنّانينَ في عصرِه في القرنِ التّاسعَ عشرَ، ويَحتوي مُتحفُه على أهمِّ أعمالِه الفنّيَّةِ وهي معلّقاتٌ جداريّةٌ ورسوماتٌ أصليّةٌ حولَ بول موريس وجولييت درويت، ومن أهمِّ رسوماتِه: برجٌ على الصّليب. منارةُ كاسكيتس. منارةُ إديستون. برجُ الجرذان.

وفاتُه ومكانتُه

كانت الأعوامُ الأخيرةُ في حياةِ هوجو حافلةً بالهمومِ والأحزانِ، فقد ماتتْ زوجتُه عام 1868م، وفي عام 1871م مات أحد أبنائه، وفي عام 1873م توفّيَ ابنُه الآخرُ، وكان هوجو قد عادَ إلى فرنسا بعد هزيمتِها في حربِها مع ألمانيا وعودةِ الجمهوريّةِ الثّالثة عام 1871م، فأصبحَ نائباً في الجمعيّةِ الوطنيّةِ، لكنّه لم يستمرَّ طويلاً في منصبِه، فاستقالَ خلالَ شهرٍ. وبالرّغمِ من تمسُّكِه بمبادئِه القديمةِ إلّا أنّه فقدَ طاقاتِه وكبرَ في السّنّ، وفي عام 1878م أُصيبَ هوجو باحتقانٍ دماغيّ، ولكنّه عاش بعد تلكَ الحادثةِ سنواتٍ عديدةً، وفي عام 1885م تُوفّي عن عمرٍ يناهزُ الثّلاثةَ والثّمانينَ عاماً، وقد نظّمَت له فرنسا جنازةً رسميّةً له في البانثيون، حضرَ مراسمَها مئاتُ الآلافِ.

وقد استحقَّ الشّاعرُ والرّوائيُّ العظيمُ فيكتور هوجو هذا التّكريمَ خلالَ حياتِه وبعدَ وفاتِه، فقد كُرّمَ داخلَ فرنسا وخارجَها كما في الولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّةِ، فمن مظاهرِ هذا التّكريمِ: تسميةُ الشّارعِ الّذي يسكنُ فيه (شارع دي إيلاو ) باسمِه في عيدِ ميلادِه الثّمانين، وإقامةُ جنازةٍ وطنيّةٍ بعدَ وفاتِه في مدينةِ باريسَ، وعرضُ جسدِه تحت قوسِ النّصرِ، ثمّ دفنُه في مقبرةِ العظماءِ في باريسَ، وبناءُ تمثالٍ لهُ في جزيرةِ (غرنيسي) الّتي عاشَ فيها منفيَّاً من عام 1855م حتّى عام 1870م، وتكريمُه في مجلسِ الشّيوخِ الأمريكيّ في الذّكرى المئويّةِ الثّانيةِ لميلادِه عامَ 2002م.

خاتمة

لقد كانَ فيكتو هوجو واحداً من أعظمِ الكتّابِ في التّاريخِ، فقدْ برعَ في مجالاتٍ عديدةٍ كالشّعرِ والرّوايةِ والرّسمِ والسّياسةِ، رغمَ أنّه درسُ في كلّيّةِ الحقوقِ، وقد لمعَت شهرتُه في فرنسا على أنَّهُ شاعرٌ في المقامِ الأوّل، أمَّا خارجَها فاشتُهرَ بأنّه روائيٌّ أوّلاً من الطّرازِ الرّفيعِ من خلالِ روايتيّ (البؤساءِ وأحدب نوتردام)، وقد تُوفي عامَ 1885م، وتُرجمَت أعمالُه إلى معظمِ لغاتِ العالمِ وتمَّ تحويلُ الكثيرِ من أعمالِه إلى أفلامٍ تلفزيونيّةٍ وسينمائيّةٍ.

ليو تولستوي

ولادتُه ونشأتُه

يُعدُّ الكونت ليف تولستوي أحدَ عمالقةِ الرّوائيّين الرّوسِ وأحدَ أعمدةِ الأدبِ الرّوسيِّ في القرنِ التّاسعَ عشرَ، وكان مصلحاً اجتماعيّاً وداعيةً للسّلامِ ومفكِّراً أخلاقيّاً وعضواً مؤثّراً في أسرتِه، تجلَّتْ أفكارُه السّلميَّةُ المناهضةُ للعنفِ في كتابِه (ملكوتُ اللهِ في داخلِكم)، وهو العملُ الّذي أثّر في مشاهيرِ القرنِ العشرينَ، مثلَ المهاتْما غاندي ومارتن لوثر كينغ في ثورتِهما السّلميَّةِ.

وُلدَ ليو تولستوي عامَ 1828م، في مقاطعةِ (تولا) جنوبَ مدينةِ موسكو من أسرةٍ نبيلةٍ، والدُه هو الكونت نيكولاس تولستوي، وأمُّهُ الأميرةُ ماريا فولكونسكي الّتي تُوفّيَت، ولم يتجاوزْ تولستوي السّنتينِ من عمرِه، وقد قامَت إحدى قريباتِه (تاتيانا) بمساعدةِ والدِه في تربيتِه مع إخوتِه، أمّا والدُه نيكولاس فقدْ تُوفّي في صيفِ عامِ 1837م، فأوكلَت رعايةُ أبنائِه إلى الحاضنةِ (الكونتيسة الكسندرا أوستن)، ولمّا تُوفّيَت الكونتيسة عامَ 1841م انتقلَت حضانةُ الأطفالِ إلى شقيقتِها (بالاجيا يوشكوف) الّتي أخذتِ الأطفالَ إلى منزلِها في كازان، حيثُ أمْضى تولستوي بقيّةَ طفولتِه، ومع ذلكَ فقد ظلَّ يزورُ مربّيتَه (تاتيانا) كلَّ صيفٍ.

في أيلولَ من عامِ 1844م، تمَّ قبولُ تولستوي طالباً في جامعةِ كازان في كلّيّةِ اللُّغاتِ الشّرقيّةِ، في قسمِ اللُّغتينِ التّركيّةِ والعربيّةِ، ولقد اختارَ تولستوي هذا الاختصاصَ؛ ليُصبحَ دبلوماسيّاً في منطقةِ الشّرقِ العربيّ، إضافةً إلى اهتمامِه بآدابِ شعوبِ الشّرقِ، وعلى الرّغمِ من أنّه كان شغوفاً بالقراءةِ منذُ طفولتِه، إلّا أنّه فشلَ في امتحاناتِ الجامعةِ الأولى، فقرّرَ أن يغيّرَ اتّجاهَه ليدرسَ القانونَ، لكنّه اضطرَّ إلى تركِ الدّراسةِ دون أن يحصلَ على شهادتِه الجامعيّةِ، إثرَ تقسيمِ أملاكِ أسرتِه الّتي أورثتْهُ إقطاعيَّةَ (ياسنايا بوليانا) الّتي تضمُّ أكثرَ من 330 عائلةً فلّاحيّةً.

وكانت نزعتُه الإصلاحيَّةُ تحتِّمُ عليهِ العودةَ إلى إقطاعيّتِه (ياسنايا) لرعايةِ أمورِه هناكَ، ولتحسينِ أحوالِ رعيَّتِه من الفلّاحينَ، وأعدَّ لذلكَ مذكّراتِ خططِه لتحقيقِ ذلكَ، من أجلِ تحقيقِ رغبتِه في الوصولِ إلى درجةِ الكمالِ، من خلالِ مشاركةِ الفلّاحينَ في العملِ وقراءةِ الكتبِ الّتي تمكّنُه من تحقيقِ طموحاتِه الإصلاحيّةِ.

ولكنَّ مثاليَّتَه لم تُجدِ نفعاً معَ الفلّاحينَ، فتوجَّهَ إلى مدينةِ موسكو، وبعدها إلى سان بطرسبورج، إذ عقدَ العزمَ على نيلِ شهادةٍ جامعيّةٍ. لكنّه وقعَ تحتَ وطأةِ الاستمتاعِ بالحياةِ الاجتماعيَّةِ أكثرَ من اهتمامِه بتحصيلِه العلميِّ، فانغمسَ في لعبِ القمارِ، وغرقَ في الدّيونِ، دون مبالاةٍ بتحذيراتِ مربّيتِه (تاتيانا).

رحلتُه إلى القوقاز

كان شقيقُه (نيكولاس) يخدمُ في الجيشِ الرّوسيّ في القوقازِ، وحينَما عادَ إلى بلدِه ليقضيَ إجازتَه، قرّرَ تولستوي أن يصاحبَه، تاركاً إقطاعيّتَه في رعايةِ زوجِ شقيقتِه (ماريّا).

وصلَ تولستوي مع شقيقِه إلى القوقازِ عامَ 1851م، فأُغرمَ بمشهدِ الجبالِ الجميلةِ هناكَ، وبعدَ تسعةِ أشهرٍ من سفرِه انضمَّ إلى الفرقةِ الرّوسيّةِ القوقازيّةِ في القتالِ ضدَّ قبائلِ السُّهولِ التّتاريّةِ، وقد سجّلَ كثيراً من انطباعاتِه الّتي جسَّدَها خلالَ تلكَ الحقبةِ في روايتِه (الحربُ والسَّلامُ). وشاركَ في بعضِ المعاركِ ضدَّ جيشِ المريدينَ بقيادةِ الإمامِ شامل(). وفي تلك المرحلةِ الأولى من حياتِه ألّفَ ثلاثةَ كتبٍ، هي (الطّفولة) 1852م؛ (الصِّبا) 1854م؛ (الشَّباب) 1857م. واستمرَّ في عملِه كجنديٍّ حتّى عامِ 1855م، حيثُ اشتركَ في حربِ القرمِ. ولكنّه عادَ إلى سان بطرسبورج عام 1855م، بعدَ سقوطِ سيباستوبول. ولقدْ أحبَّ تولستوي بلادَ القوقاز، وأثّرت فيه حياةُ شعوبِ القوقاز ، فألَّفَ عنها كتابَه (القُوزاق) عامَ 1863م.

شهرتُه ومؤلّفاتُه

بعد أنْ تقاعدَ تولستوي من الخدمةِ العسكريّةِ سافرَ إلى أوروبّا الغربيّة وأعجبَ بطرقِ التّدريسِ فيها. ولمّا عادَ إلى مسقطِ رأسِه، بدأَ في تطبيقِ النّظريّاتِ التّربويّةِ التَّقدُّميّةِ الّتي عرفَها، فأسَّس مدرسةً خاصّةً لأبناءِ المزارعينَ، وأنشأَ مجلّةً تربويّةً تُدعى (ياسنايا بوليانا)، شرحَ فيها أفكارَه التّربويّةَ ونشرَها بينَ النّاسِ.

وفي عامِ 1857م، زارَ سويسرا، ثمَّ ذهبَ إلى ألمانيا وفرنسا وبريطانيا خلالَ عامَي 1860- 1861م، وكان مهتمّاً بإقامةِ المدارسِ، وأصبحَ معنيَّاً بمشكلةِ تعليمِ أولئكَ الّذين فاتتْهم فرصةُ التَّعلُّمِ في الصِّغرِ.

وقد أختلطَ تولستوي بالمزارعينَ وتعلَّمَ أساليبَهم في العملِ، ودافعَ عنهُم ضدَّ المعاملةِ السيِّئةِ من ملّاكِ الأراضي، وبعدَ ذلك الحينِ لم يغادرْ إقطاعيَّتَه (بوليانا) على الإطلاقِ، وتزوّجَ عام 1862م من (الكونتيسة صوفيا أندريفيا بيرز) وعاشَ معَها حياةً مفعمةً بالمحبّةِ والتّفاهمِ والوئامِ، وقد أثبتَت أنّها خيرُ الزّوجاتِ وأفضلُ رفاقِ حياتِه، بالرّغمِ من أنّها تصغرُه بستّةَ عشرَ عاماً. ولقد أنجبَ منها ثلاثةَ عشرَ طفلاً، ماتَ خمسةٌ منهم في الصّغرِ، وكانت وزوجتُه صوفي خيرَ عونٍ له في كتابتِه، فقدْ نسخَت مخطوطةَ روايتِه (الحرب والسّلام) سبعَ مرّاتٍ، حتّى رأتِ النُّسخةُ الأخيرةُ النّورَ، فتمَّ نشرُها.

أمّا أشهرُ مؤلَّفاتِ تولستوي، فهو روايةُ (الحربُ والسّلام) 1869م، الّتي يتناولُ فيها مراحلَ الحياةِ المختلفةِ، كما يصفُ الحوادثَ السّياسيَّةَ والعسكريّةَ الّتي حدثَت في أوروبّا في الفترةِ ما بينَ 1805 و1820م. وتناولَ فيها غزوَ نابليون لروسيا عام 1812م. وروايةُ (أنّا كارنينا) الّتي عالجَ فيه قضايا اجتماعيَّةً وأخلاقيّةً وفلسفيّةً في شكلِ مأساةٍ غراميّةٍ كانت بطلتُها هي أنَّا كارنينا.

ومن مؤلَّفاتِه أيضاً كتابُ (ما الفنُّ؟). الّذي أوضحَ فيهِ أنّ الفنَّ ينبغي أن يُوجِّه النّاسَ أخلاقيّاً، وأن يعملَ على تحسينِ أوضاعِهم، ولا بدّ أن يكونَ الفنُّ بسيطاً يخاطبُ عامّةَ النّاسِ.

وكتابُ (حِكَمُ النّبيّ محمّد): الذي ألّفَه دفاعاً عن الإسلامِ في مواجهةِ التّزويرِ والتّلفيقِ اللّذينِ لَحِقَا بالإسلامِ ونبيِّه على يدِ جمعيَّاتِ المبشِّرينَ في قازانَ، والّذين صوَّروا دينَ الإسلامِ على غيرِ حقيقتِه، واتّهمُوه بما ليسَ فيه. فقدَّمَ تولستوي الحُجَّةَ وأقامَ البرهانَ على المدَّعينَ عندَما اختار مجموعةً من أحاديثِ النّبيِّ (ﷺ).

وفاتُه

كانتِ السّنواتُ الأخيرةُ من حياةِ تولستوي الطّويلةِ مليئةً بالقلقِ والحيرةِ، فقد ظلّ يبحثُ عن إجاباتٍ لمشاكلِ البشريّةِ وهمومِها وآلامِها دونَ جدْوى، تفانَى في مساعدةِ الفقيرِ والضّعيفِ، وأعلنَ الثّورةَ على العنفِ والحربِ، وعلى رياءِ المحيطينَ بهِ، واصطدمَت مثلُه العلْيا بتقاليدِ أسرتِه، فقرّرَ الهربَ من موطنِه، وقد لحِقَت به أبنتُه.
في 20 نوفمبر- تشرين الثاني عام 1910م، تُوفّي تولستوي في قريةِ (استابو في محطّة القطار) حينَ هربِه من بيتِه وحياةِ التّرفِ، وأصيبَ بالالتهابِ الرّئويِّ في الطّريقِ، وكان قدْ بلغَ من العمرِ اثنينِ وثمانينَ عاماً. ودُفنَ في حديقةِ ضيعةِ (ياسنايا بوليانا). وكان قدْ أمضَى تولستوي السّاعاتِ الأخيرةَ في الوعظِ بالحبِّ واللّاعُنفِ.
مقارباتٌ حياتيّةٌ وفكريّة بين الأديبين

من خلالِ تتبُّعِ المحطّاتِ المهمّةِ في حياةِ كلٍّ من الكاتبينِ الكبيرينِ فيكتور هوغو وليو تولستوي نستطيعُ أن نتلمَّسَ بعضَ المقارباتِ الحياتيّةِ والفكريّةِ بينهُما، وأستطيعُ أن أوجزَ هذهِ المقارباتِ في جوانبَ عديدةٍ، فلا بأسَ من إيرادِها على النّحوِ الآتي:

تقاربُ الزّمن: فقد عاشَ فيكتور هوغو ما يقاربُ الثّلاثةَ والثّمانينَ عاماً، فكانتْ ولادتُه في (26 فبراير 1802م – ووفاتُه في 22 مايو 1885م).

أمّا تولستوي فقد عاشَ حوالي اثنينِ وثمانينَ حولاً، فكانت ولادتُه في (9 سبتمبر 1828م – ووفاتُه في 20 نوفمبر 1910م).

طفولةٌ محرومةٌ من أحدِ الأبوينِ: فقد عاشَ هوغو وإخوتُه مع والدتِهم بعد أن تفرّقَ الأبوانِ بسببِ اختلافِ المواقفِ من الملَكيَّةِ والجمهوريّةِ، فرافقَ هوغو والدتَه من فرنسا إلى نابولي ثمَّ مدريدَ؛ ليُحرمَ بعدَها من حنانِ الأمِّ الّتي تُوفّيَت في عامِ 1821م قبلَ أن يُتمَّ العشرينَ عاماً من حياتِه، فتزوَّج والدُه مباشرةً امرأةً غنّيةً.

أمّا تولستوي فقد خسِرَ حنانَ الأمّ ورعايتَها ولم يتجاوزِ السَّنتينِ من عمرِه (عام 1830)، وقد قامَت إحْدى قريباتِه (تاتيانا) بمساعدةِ والدِه في تربيتِه مع إخوتِه، أمّا والدُه نيكولاس فقدْ تُوفّي في صيفِ عامِ 1837م، فأُوكلَت رعايةُ أبنائِه إلى الحاضنةِ (الكونتيسة)، ولمّا تُوفّيَت الكونتيسة عامَ 1841م انتقلَت حضانةُ الأطفالِ إلى شقيقتِها (بالاجيا يوشكوف) الّتي أخذتِ الأطفالَ إلى منزلِها في كازان، حيثُ أمْضى تولستوي بقيّةَ طفولتِه.
الزّواجُ والأولادُ: أحبَّ هوجو الفتاةَ آديل فوشير، ولم يستطعِ الزّواجَ منها إلّا بعدَ وفاةِ أمّه الّتي عارضَت زواجَهما؛ لانتماءِ الفتاةِ إلى أسرةٍ فقيرةٍ، وكان يكبرُها بعامٍ واحدٍ. وكان عمرُه عشرينَ عاماً وعمرُها 19 عاماً وقد أنجبَ مها عدداً من الأطفالِ ماتُوا في حياتِه، ابنةٌ ماتتْ غريقةً في نهرِ السّين مع زوجِها، إذِ انقلبَ الزَّورقُ بهما بعدَ أربعةِ أشهرٍ من زواجِها، وماتَ ولداهُ، وله ابنةٌ حملَتْ اسمَ أمِّها (آديل)، فقدَتْ عقلَها؛ ولذلك نظمَ مجموعةَ قصائدَ، جمعَها في ديوانٍ، سمّاه "تأمُّلات".

أمّا تولستوي فقد أُعجبَ بفتاةٍ مفعّمةٍ بالثّقافةِ والحيويّةِ، هي صوفيا ابنةُ طبيبِ المحكمةِ أندرييفنا بيرس، وقد أحبّها منذُ أن كانتْ طفلةً في الرّابعةَ عشرةَ من عُمرِها، ولكنّه لم يستطعِ الزّواجَ منها إلّا بعدَ أن بلغَت الثّامنةَ عشرةَ من عمرِها وذلكَ عام 1862م، وكان تولستوي قد بلغَ الرّابعةَ والثّلاثينَ عاماً. وقد أنجبَ منها ثلاثةَ عشرَ طفلاً، ماتَ منهم أربعةٌ وهم أطفالٌ، الدّراسةُ والاهتماماتُ والكتابةُ: درسَ فيكتور هوغو القانونَ، وتخرّجَ من كلّيّةِ الحقوقِ في باريسَ، ولكنّ طموحاتِه كانت غيرَ القانونِ، فمنذُ بدايتِه اهتمَّ بالشّعرِ والأدبِ الكلاسيكيِّ، وخلالَ مسيرتِه الأدبيّةِ الطّويلةِ نشرَ هوجو أكثرَ من سبعينَ مؤلَّفاً في الرّوايةِ والشّعرِ والمسرحِ والسّياسةِ.

أمّا تولستوي فقد درسَ القانونَ دونَ نيلِ الشّهادةِ، وكان اهتمامُه منصبّاً على الأدبِ والكتابةِ الأدبيّةِ، فألّفَ الرّواياتِ والمسرحيّاتِ والكتبَ التّربويّةَ والفكريّةَ والدّينيّةَ والسّياسيّةَ دون اهتمامِه بالشّعرِ. فهو أحدُ عمالقةِ الرّوائيّينَ الرّوسِ ومصلحٌ اجتماعيٌّ وداعيةُ سلامٍ ومفكّرٌ أخلاقيٌّ وعضوٌ مؤثّرٌ في أسرةِ تولستوي. ويُعدُّ من أعمدةِ الأدبِ الرّوسيّ في القرنِ التّاسعَ عشرَ ، ويعدُّهُ بعضُهم من أعظمِ الرّوائيّينَ على الإطلاقِ.

التّشابهُ في الأفكارِ والمواقفِ: تُشبهُ أفكارُ هوغو أفكارَ الرِّوائيِّ الرُّوسيِّ تولستوي- (1828 ـ 1910). فكلاهُما أوصى بعدمِ الصّلاةِ على جثمانِه، وكلاهُما وجّه للطُّقوسِ الكنسيَّةِ الكثيرَ من الملاحظاتِ والانتقاداتِ، وكلاهُما حاربَ السُّلطاتِ، تولستوي حاربَ القيصرَ الرّوسيَّ، أمّا هيجو فحاربَ نابليونَ الثّالث.‏

المرضُ والوفاةُ: في سنواتِ هوجو الأخيرةِ هاجمَتهُ الأحزانُ، وبالرّغمِ من تمسُّكِه بمبادئِه القديمةِ إلّا أنّه باتَ فاقداً طاقاتِه بعدَ أن تقدَّم في السّنّ، وفي عامِ 1878م أصيبَ هوجو باحتقانٍ دماغيّ، ولكنَّه عاشَ بعدَه سنواتٍ عديدةً، وفي عامِ 1885م تُوفّي عن عمرٍ يناهزُ الثّلاثةَ والثمانينَ عاماً، وقد نظّمَت الجمهوريّةُ له جنازةً رسميّةً لهُ في البانثيون، حضرَ مراسمَها مئاتُ الآلافِ من المشيّعينَ.

أمّا تولستوي فكانتِ السّنواتُ الأخيرةُ من حياتِه الطّويلةِ مليئةً بالقلقِ والحيرةِ، فقد ظلّ يبحثُ عن إجاباتٍ لمشاكلِ البشريّةِ وهمومِها وآلامِها دونَ جدْوى.. ففي عامِ 1910م، أُصيبَ تولستوي بالالتهابِ الرّئويِّ في الطّريقِ، وكان قدْ بلغَ من العمرِ اثنينِ وثمانينَ عاماً، فتُوفّي ودُفنَ في حديقةِ ضيعةِ (ياسنايا بوليانا).

التّأثيرُ والتّأثّرُ: أخذَ تولستوي يميلُ إلى الفوضويّةِ منذُ شبابِه ودمج ذلكَ بإيمانِه الدّينيّ المتزمِّتِ، ليكوّنَ ما يمكنُ تسميتُه بالفوضويّةِ الدّينيّة، فقد تأثّرَ بالفيلسوفِ الألمانيّ شوبنهاور، والأديبِ الفرنسيّ فيكتور هوغو، وقد آمنَ بأنّ الدّولةَ ليسَت سوى مؤامرةٍ لاستغلالِ الشّعبِ وإفسادِه، وأنّ المواطنَ يجبُ أن يعيشَ مع الآخرينَ بدونِ حمايةٍ من الدّولةِ، وأعلنَ موقفَه الرّافضَ للحربِ والعنفِ، وانتقدَ القوانينَ الوضعيّةَ وتعاليمَ الكنيسةِ. فلم تقبلِ الكنيسةُ آراءَ تولستوي الّتي انتشرَت بسرعةٍ كبيرةٍ، فكفَّرتهُ وأبعدتْهُ عنها وأعلنَت حرمانَهُ من رعايتِها.

وقد برزتْ هذهِ المواقفُ واضحةً في آراءِ فيكتور هوغو، حيثُ ناهضَ الحكمَ الملكيَّ، كما وقفَ ضدَّ حكمِ نابليونَ الثّالثِ وتعرّضَ للنّفي، كما أبدَى موقفاً مناهضاً للكنيسةِ وأوصَى بألّا يحضرَ جنازتَه كاهنٌ أو أن يُصلّى عليهِ في كنيسةٍ.

كلاهُما اهتمَّ بأدبِ الشّرقِ والأدبِ العربيّ، وأعجبَ بالإسلامِ، وتأثّر بأفكارِه، فكتبَ هوغو قصائدَه في مدحِ الرّسولِ الكريمِ وصحابتِه، وكتبَ تولستوي كتابَ (حِكم النّبيّ محمّد)، حتّى قيلَ إنّ كليهِما قد أسلمَ في نهايةِ حياتِه.

خاتمة

ممّا تقدّمَ ندركُ أنَّ ثمّةَ مقارباتٍ برزت في حياةِ كلّ من الكاتبينِ فيكتور هوغو وليو تولستوي، بالرّغمِ من اختلافِ الوطنِ والمنشأ والبيئةِ، ولا غرابةَ في ذلكَ؛ لأنّنا نجدُ مثلَ هذهِ المقارباتِ بين العديدِ من الأدباءِ العالميّين سواءً في الشّرقِ أم في الغربِ، ومن هُنا فقدْ وجبَ على الباحثينَ تتبُّعُ هذه المقارباتِ بالدّراسةِ والوصفِ والتّحليلِ والمقارنةِ من خلالِ الدّلائلِ والبراهينِ الّتي لا تدعُ أمامَ القارئ مجالاً للرّيبةِ والتّشكيكِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى