الخميس ٨ تموز (يوليو) ٢٠٢١
دينامية المنهج في مواكبة صور الإبداع الأولى
بقلم محمد سمير عبد السلام

تحليل لخطاب النقد الجيني عند د. محمد نجيب التلاوي

النقد الجيني، ومعادلات النحت الروائي كتاب نقدي حديث للناقد الدكتور محمد نجيب التلاوي، صدر عن النادي الأدبي الثقافي بالحدود الشمالية بالمملكة العربية السعودية مع دار الانتشار العربي ببيروت، لبنان 2020، ويقدم د. محمد نجيب التلاوي فيه الأطر النظرية للنقد الجيني الذي يكشف عن جينات الإبداع الأولى التي قد تتشكل عبر وحدات جزئية، مثل الصور، والأحداث، والذكريات، والمقتطفات من التراث الثقافي، والتخطيط الجمالي القابل للتطور عبر مجموعة من المخطوطات قبل أن يتشكل التكوين / النص الروائي في العمل المطبوع، ويعود الناقد – في الجزء النظري – إلى جذور النقد الجيني، ومحاولات التنظير، أو التطبيق السابقة، ثم يقترح آلية منهجية تقوم على المنهج التحليلي الذي يبدأ من الكل وصولا إلى المكونات الجزئية الأولى في النظر النقدي التحليلي لتطور أوليات النص، وتطور مخطوطاته، كما يستعين – في مقترحه – بالسيمياء، والجوانب الثقافية، والنفسية في إطار توصيف العمليات الواعية، واللاواعية من التشكيل، والحذف، والإضافة، والاستبدال، واختيار الشكل أثناء تطور العمليات الإبداعية التي تسبق الشكل المطبوع من الرواية، ومن ثم يقدم الناقد رؤية تطبيقية تؤصل للنقد الجيني في ثقافتنا العربية وفق هذا التوجه النقدي المنهجي التطبيقي المقترح، والذي قدمه د. محمد نجيب التلاوي على العمليات الإبداعية التي سبقت كلا من روايتي ترابها زعفران لإدوار الخراط، وتحريك القلب لعبده جبير، وقد نشرت المخطوطات في ملحق توثيقي في نهاية الكتاب، ليؤكد الناقد أهمية التوثيق العلمي لهذه العمليات الإبداعية الأولى من جهة، ويلفت النظر إلى أهمية فعلي التطوير، والتطور أو الصيرورة فيما قبل التكوين / النص، وما بعده من جهة أخرى، وسوف نشير إلى إحالة خطاب الناقد إلى إمكانية استمرار عمليات الاستبدال، والتشكيل، والحذف، والإضافة في النسخ الأخرى من العمل إذا كان النص طليعيا، وهو ما يذكرنا بدينامية العمل الفني ما بعد الحداثي الذي يؤكد فعل الممارسة المتحولة، دون مركز عند آلان كابرو، وجون كيج، وراوشينبيرغ، وغيرهم.

يواصل د. محمد نجيب التلاوي – إذا – مشروعه النقدي الذي يؤكد حضور النقد المنهجي، ودينامية تطبيقاته، واتصاله بجوانب ثقافية، وجمالية تثري دلالات هذه التطبيقات، وقد بدا هذا واضحا في كتاباته عن وجهة النظر في رواية الأصوات العربية، وكشفه عن مدلول اللاتجانس في بنية هذه الروايات، والقصيدة التشكيلية التي اتصلت بالتجريب، والحداثة في الشعر، وبحثه عن العلاقات الثقافية، ودلالاتها البنيوية بين الذات، والآخر في كتاب الذات والمهماز، وتقديمه الراهن للنقد المعلوماتي الذي ارتبط بتقنيات الإنترنت، والكمبيوتر، والبحث عن آليات منهجية لمواكبة الرواية الرقمية، ونلاحظ أن خطاب د. محمد نجيب التلاوي النقدي قد انشغل من قبل بسيمياء الفضاء، والشكل، ودلالات الفضاء الجمالي، وتشكيلاته السيميائية في الإبداع، وبخاصة في القصيدة التشكيلية، ويمكننا قراءة خطابه النقدي في النقد الجيني عبر التأصيل لنقد منهجي دينامي في ثقافتنا، ومواصلة الاهتمام بسيمياء التشكيل، أو الموسيقى، أو علامات الرواية الرقمية الجديدة، فالنقد الجيني – مثلما قدمه في الكتاب – يحتفي بالقيمة الجمالية للمخطوط، وترسيماته، وتشكيلاته التي قد تمزج – بصورة غير واعية – بين الصورة، والكلمة، وتذكرنا بحديث دريدا عن الكتابة التصويرية في كتابه في علم الكتابة، فالكتابة الأولى لا تتشكل دائما وفق منطق اتصالي تكويني للنص، وإنما يكون لكل من الفضاء، والأثر فيها دور أكبر، وسوف نعاين تحليل الناقد لهذه الجينات الأولى المتفرقة، وكيف اكتسبت نوعا من الصلة العابرة لحضورها في فضاء الصفحة في كشف النقد الجيني التحليلي عن الهوية، ودور الضمائر، أو دور الأشياء، كالبيت مثلا في إحداث هذه الصلات، وتشكيل دلالاتها في بنية نصية، وقد عاصرت بعض التجارب التي احتفت بالتشكيل البصري للأثر أيضا حين قرأت ديوان حجر يطفو على الماء لرفعت سلام، حيث أبقى الشاعر على شطب خفيف أو على المسودات ضمن العمل المطبوع، ربما ليوحي بالإيغال في الطليعي، أو يحتفي بجماليات الأثر الذي يذكرنا أيضا بالكتابة التصويرية الأولى، ومن ثم أرى أن تطبيق د. محمد نجيب التلاوي للنقد الجيني لا ينفصل عن مشروعه النقدي الذي احتفى من قبل بجماليات الشكل، وبالدلالات الثقافية، وبفعل الاختلاف في بنية الرواية، كما سنعاين الصلة بين النقد الجيني للبذور / الصور الأولى، وفعل الاستمرارية الذي كان جزءا من ملامح جماليات ما بعد الحداثية، وقد أسهم ذلك الجهد التطبيقي في إمكانية وصل المنهج النقدي العلمي بعمليات قد تنتمي لاختيارات المبدع، أو تسبق هذه الاختيارات في اللاوعي، ومن ثم فالنقد هنا يواكب عمليات تتسم بالجمال، والغموض، وتأجيل المدلول الحاسم، ومن ثم تكشف نتائج تلك الدراسة عن قدر من الاحتمالية، والتعددية التي تثري الخطاب النقدي المعاصر.

وأرى أن لظهور كتاب النقد الجيني للدكتور محمد نجيب التلاوي – في لحظتنا الحضارية الراهنة – ثلاث دلالات رئيسية تتعلق بوضع النقد الأدبي، والخطاب النقدي الراهن، ومستقبل التظرية الأدبية في تعددية أشكال الخطاب، واللغة النقدية، والعودة إلى المنهج، أو طرح الإشكاليات المتعلقة ببنيته، وتطورها، وهي:

أولا: التعددية، والدينامية في بنية الخطاب النقدي، فخيارات النقد المنهجي مفتوحة في اختيار موضوعاته، ولغته المنهجية، أو توجهه المنهجي الذي يتطور – بصورة دينامية نسبية – عبر علاقته بالنص، ومن ثم فالنقد الجيني يختار زاوية النظر النسبية إلى النص، ثم ينسج خطابه، ولغته الخاصة في توصيف العلاقات بين المخطوطات، والمطبوع، أو استشراف دلالات أخرى تصل النص بما يمكن استحداثه من دوال، أو عبر علاقته بفنون أخرى، أو جوانب ثقافية، أو عبر علاقته بالخطاب النقدي نفسه، مثلما أشار د. محمد نجيب التلاوي إلى تشابه بذور الإبداع بمخططات الناقد عقب القراءة، ومن ثم فالنقد الجيني نفسه وجهة نظر حول الإبداع، تتسم بالتجانس، والدينامية في الوقت نفسه، وتذكرني بتصور بول ريكور بفكرة صراع التفاسير، فالنص تكوين تتنازعه تأويلات، وخطابات نسبية متنوعة، ومنهجية، ومشروعة، ومتجاورة في الوقت نفسه، وقد طبق ريكور رؤيته حول نتاج فرويد، ونيتشه، وحول بروست، وسوفوكليس، كما تعيدنا دينامية النقد الجيني، وتعدديته إلى توصيف إدوارد سعيد لتحولات الخطاب النقدي المعاصر في كتابه العالم والنص والناقد، إذ يرى أن الخطاب النقدي المعاصر يعارض كل ما هو سلالي في العمل، أو النقد، أو المعرفة، أو الواقع، كما يعزز من غرابة بعض الارتباطات، ليواكب الاختلاف في النص، ويسعى لاستقلال منهجي دينامي، ويمثل لذلك بدريدا، وجينيت، وبارت. (1)، هكذا يؤكد خطاب إدوارد سعيد المنهجية الدينامية التي تسعى لاختلاف في الناتج الدلالي للخطاب النقدي التطبيقي، لمواكبة بنية الانحراف الدلالي النص، ومن ثم يطور النقد خطابه المنهجي عبر دينامية تعود للمنهجية، وتطرح الأسئلة حولها في الآن نفسه، وسنعاين مثل هذه المنهجية الدينامية في خطاب د. التلاوي في النقد الجيني، فهو يعيد تشكيل مدلول الهوية، والعلاقة بالتراث، والبنية، والصوت عبر العودة إلى الجوانب النفسية، والجمالية، والثقافية بصورة تؤكد الاختلاف في الدلالات المنتجة بواسطة الخطاب النقدي التطبيقي، إذ يستشرف أخيلة الطفولة في تشكيل هوية ميخائيل عند الخراط، ويمزج بناء البيت بجماليات البناء السيمفوني عند عبده جبير.

ثانيا: يصدر الكتاب ضمن سياق ثقافي، وفلسفي عالمي تتجاور فيه الحداثة التكنولوجية، وأصداء جماليات ما بعد الحداثية، وتشكل التوجهات الميت احداثية التي جمعت بين الاحتفاء بما بعد الحداثية، والعودة إلى الحداثية في آن، ومن ثم لا توجد – في لحظتنا الراهنة – دورة ثقافية فكرية واحدة، وإنما حالة من الدينامية والتفاعل بين الرؤى، والمناهج التفسيرية، والخطابات التي قد تعود إلى الماضي، وتجدد بنيته في تعددية نسبية نقدية مفتوحة، دون أن تتخلى عن البنى العلمية المنهجية، ولكنها منهجية تؤسس للاختلاف، والدوال المتجاوزة للبنى التقليدية الاستاتيكية، ومن ثم فالعودة إلى آليات النقد الجيني، تؤسس لخطاب نقدي تفسيري نسبي منتج لدلالات تواكب العمليات الإبداعية الأولى، وتعيد إنتاج دلالاتها عبر تجدد العلاقات والدلالات بين آثار الإبداع، وصيرورته.

ثالثا: يؤكد خطاب د. التلاوي النقدي حول النقد الجيني التصور الجمالي ما بعد الحداثي حول استمرارية العمل الفني، وإمكانية تجدد عناصره زمنيا، وتجاوزه للبنية، والإطار، ورغم عودة الناقد للنسخة المطبوعة، فهو لا يصرح بكونها نهائية في الأعمال التجريبية، إذ إنه في حالة ظهور نسخ مطبوعة أخرى، ستتغير دلالات الخطاب النقدي التطبيقي حول العمل، وستكون النسخة الأسبق شبيهة بمخطوط آخر، وهكذا، ولأن خطاب د. محمد نجيب التلاوي قد أكد احتمالية حدوث استمرارية العمليات الإبداعية في النص التجريبي، فإنه يمنح الناقد إمكانية التعامل المنهجي مع النسخ التي يمكن أن تحمل تعديلا آخر، أو استبدالا، أو تحويلا للعمل الأسبق، وإن مثل هذه الاستمرارية المتجاوزة للأطر تذكرنا بتصور كل من إيهاب حسن عن الاختلاف بين جماليات الأعمال الحداثية، والممارسات ما بعد الحداثية، وكذلك فكرة تجاوز العمل الفني لحدوده، وتداخله مع الواقع عند فاتيمو في كتابه نهاية الحداثة، ويرى إيهاب حسن في دراسته المعنونة ب نحو تشكيل تصور لما بعد الحداثية، والمنشورة ضمن كتاب القارئ ما بعد الحداثي، تحرير ليندا هاتشون، وجوزيف ناتولي أن ما بعد الحداثية تتسم بالصيرورة الأدائية، أو استمرارية الحدوث في الممارسة الفنية، في مقابل الموضوع الفني، أو البنية، أو العمل المكتمل في الجماليات الحداثية. (2)، وفي حالة تعدد العمل عبر تعدد طبعاته التي تحمل نوعا من إعادة النظر، والتشكيل الدينامي للعمل، سوف يعيد النقد الجيني النظر في دلالات العمل، وفي خطابه الخاص، ولغته طبقا لحدوث العمليات الإبداعية الجديدة، ودرجة الاختلاف في بنيتها، أو ما توحي به إنتاجية الدوال من رؤى، وارتباطات جديدة متغيرة.
ويمكننا قراءة آليات خطاب د. محمد نجيب التلاوي النقدي وفق الآليات المنهجية لتحليل الخطاب، والتحليل النقدي للخطاب عند كل من نورمان فركلاف، وجيمس بول غي، وذلك للكشف عن مدى التجانس والاختلاف في الخطاب النقدي، وعلاقته بالنص، والبنى الثقافية، وما يمكن أن يولده من خطابات تفسيرية أخرى محتملة، وعبر تحليل الموضوعات، والأفعال، ومستويات تشكل الهوية، والعلامة، والشكل المعرفي المميز للغة النقدية في سياقها الثقافي.

يقدم نورمان فركلاف تصورا نظريا للخطاب، وطرائق تشكله بين اللغة والثقافة في كتابه التحليل النقدي للخطاب، ويقوم تصوره على المزج بين النظر التحليلي للنص اللغوي المكتوب، أو المنطوق، ثم طرائق إنتاجيته، وتفسيره في بنى الخطاب، ثم علاقته بالقوى الثقافية، وتحولاتها، وذلك عبر الكشف عن التجانس، والاختلاف، وطرائق تشكل الرؤى التفسيرية الإنتاجية للخطاب، أو تضاعفها، وعلاقته بالممارسات الثقافية والاجتماعية، ويقدم تصورا تطبيقيا لخطاب طبيب مزج بين الخطاب العلمي، والإرشادي، بسبب وجود تحول ثقافي في الممارسات الاجتماعية التي تعلي من النزعة الفردية في السياق الثقافي. (3)

هكذا تتشكل إنتاجية الخطابات المحتملة عبر الممارسات اللغوية، وطرائق تشكلها في خطابات تفسيرية، وعلاقة تلك الخطابات بالثقافة والمجتمع في سياق حضاري نسبي دينامي محدد طبقا لمنهج فركلاف، ويمكننا رؤية آليات النظر النقدي إلى المنهج الجيني، وتطبيقاته – عند د. محمد نجيب التلاوي – وفق تشكل الخطاب النقدي – بصورة نسبية – عبر هذه المستويات الثلاثة، ومن ثم نعاين طرائق تشكل خطاب النقد الجيني بصورة موازية للعمليات الإبداعية الأولى، ودرجة تحولاتها الدينامية في المخطوطات، أو مدى تصورها البنائي للحدود الممكنة، أو النهايات، ومن ثم درجة علاقة النص، أو خطاب الناقد بتوجهات ما بعد الحداثية، أو بالجماليات التشكيلية، أو باللغة النقدية التفسيرية لذكريات الطفولة، وأثرها في تشكيل الشخصية الروائية.

يرتكز الخطاب النقدي على البحث عن أوليات الإبداع، مثل الموهبة، والدوافع النفسية، والجمالية، والثقافية، وتوصيفها بالجينات، ومن ثم قبول مصطلح الجينات، والجيني، ثم يعزز من المنهج التحليلي الذي يبدأ من المطبوع، ليعود إلى المخطوطات، أو جزيئات البناء، ثم الاستعانة ببعض آليات المناهج التاريخية، والنفسية، والسيميولوجية، لاستكمال الغاية النقدية التوثيقية. (4)

يجمع الخطاب النقدي – إذا – بين التجانس، والاختلاف في بنية الخطاب، فهو يحيلنا إلى المنهجية العلمية عبر فعل التحليل الذي يبدأ من الكلي إلى الجزئي، كما يحيلنا الخطاب النقدي أيضا إلى مادته، وهي جينات الإبداع، وصورها الأولى، وتغيراتها، ومن ثم يقوم الخطاب النقدي على التجانس عبر المنهجية، والتوثيق، بينما ينحو إلى الاختلاف في طبيعة التعامل الدينامي مع الجينات الإبداعية، ومن ثم فالإحالة إلى بعض الآليات النفسية، والسيميولوجية، تؤكد أن الخطاب النقدي يتضمن أيضا نوعا من الدينامية في مواكبته للصور، والأشكال الإبداعية الأولى، لأن لغة التحليل النفسي، والسيميولوجيا تنحو أيضا إلى فعل الإنتاجية الخطابية، والاختلاف الدلالي في تطبيقاتها.

وسنعاين حين انتقالنا إلى المستوى الثاني / إنتاجية الخطاب النقدي تداخل الاختصاصات عبر علاقة التحليل بتوصيف تغيرات العمليات الإبداعية، واستخدام أدوات منهجية أخرى تواكب التشكيلات البنائية الأولى، أو تواكب التشكيل الأول للشخصية الروائية، وتعيد إنتاجها في ممارسة خطابية جديدة، تختلف عن الصورة الحرفية التي وجدت أخيرا في النص المطبوع، مثل رؤية الناقد لشخصية ميخائيل في ترابها زعفران للخراط، بوصفها قناعا للمؤلف في لحظة الكتابة، لغياب اكتمال جيناتها الأولى، ومن ثم ينسج الخطاب النقدي ممارسته الخطابية التفسيرية عبر علاقات تداخلية بين المنهج، وطرائف التفسير المختلفة للأدب، فضلا عن مواكبة دلالات تشكل أوليات الإبداع، ودرجات حضورها، وإنتاجية بعض فراغاتها في فعل التوثيق المنهجي نفسه.

أما المستوى الثالث من التحليل النقدي للخطاب، سوف يعيدنا إلى علاقة خطاب د. التلاوي عن النقد الجيني بالممارسات الثقافية، وتحولاتها في اللحظة الحضارية الراهنة، ومن ثم أرى أن تشكل النقد الجيني وفق هذه الإنتاجية النقدية التفسيرية التطبيقية، يواكب صعود النظر إلى الخطاب النقدي بوصفه نسقا تأويليا لدى ريكور، وكذلك سيعيدنا إلى دينامية النقد الأدبي المنهجي لدى إدوارد سعيد، ومن ثم يعكس الخطاب النقدي أيضا تجاور ما بعد الحداثية، والحداثة التكنولوجية، والميتاحداثية، وما يستجد من رؤى متجاورة تتصاعد بطرائق خطابية دينامية متضاعفة، وتثري لحظتنا الحضارية الانتقالية التي تتجاوز السمة الواحدة المهيمنة في الساحة النقدية العالمية. (راجع الشكل 1)

ويحيلنا خطاب د. محمد نجيب التلاوي النقدي أيضا إلى دور كل من التلاحم بين الوجه، والقناع، والتوازن بين الوعي، واللاوعي، والترسيم، والأيقونات، والحذف، والإضافة في تحديد شكل الروية فيما يطلق عليه سميأة العناصر الجينية، ثم يوسع من طرائق اكتشاف الخطاب النقدي للهوية في نظره لمخطوطات ترابها زعفران للخراط، إذ أضاف الخراط ضمير المتكلم للعلامات التي توحي بأجواء كتاب ألف ليلة، ومن ثم يشير الخطاب النقدي إلى رغبة الخراط في كل من تجاوز الوصف الحيادي، وأن يدخل المتلقي في رؤيته، ثم يؤكد خطاب د. التلاوي أن الروائي لو أعاد النظر في النص المطبوع لمارس الدور النحتي / التكويني أو التعديلي من جديد. (5)

وسنعاين – في ذلك الخطاب النقدي – زيادة حضور الاصطلاحات المتعلقة بأوليات الإبداع، ومن ثم تكمن قيمة تجانس الخطاب النقدي عبر ارتكاز لغته على الدوال التكوينية، مثل دوال الهوية في (الوجه، القناع، ضمير المتكلم، فاعلية الضمير، عالمنا الداخلي) ودوال التشكيل، مثل (الأيقونات، الترسيمات، السميأة التي تشمل علامات التشكيل أيضا)، ودوال التراث الثقافي المحولة من رواية الخراط (الحجرة القديمة، المكتبة، ألف ليلة)، والدوال النفسية الأولى في (التلاحم، التوازن، اللاوعي)، ومثل هذه الدوال تدل على توافقية النقد الجيني مع الأوليات الجزئية للإبداع، وتعليقاته المواكبة لدرجات تشكلها في كل مرحلة، وكل مخطوط ممكن، أما قيمة الاختلاف في خطاب النقد الجيني فتكمن في تصوره الخطابي الافتراضي بأنه يمكن للروائي أن يضيف للنص المطبوع بعض التعديلات، وهو ما يؤكد الصلة بين النقد الجيني – في خطاب الناقد – وما بعد الحداثية، فضلا عن تأكيد الاختلاف في مساءلة غاية الاكتمال في كل من الإنتاجية الإبداعية، أو في الغاية التوثيقية نفسها، والتي يمكن أن تعيد مساءلة فرضياتها الأولى في حال تحقق التغيير في بنية النص المطبوع، وهو ما يذكرنا بخطاب كارل بوبر حول المساءلة المستمرة للفرضيات العلمية في فلسفة العلم، وننتقل من نقطتي الإنتاجية النقدية لصورة الجينات الإبداعية، ودينامية المواكبة لتعديلات النص في رؤية تشكل الخطاب النقدي التفسيري، وبنيته الدينامية التي تؤكد هنا كلا من التوثيق، والتعليق، ودينامية فعاليات المنهج، وستعيدنا – في المستوى الثالث – إلى إمكانية استعادة تصورات ما بعد الحداثية عبر فعل السؤال، أو استعادة تغير فرضيات المنهج في فلسفة العلم في آن، وهي تصورات قامت على الانتقائية، وانتخاب آليات تواكب هذه المرحلة من النقد الجيني في اتصاله الجزئي بفاعلية هذه التوجهات في سياقنا الثقافي الراهن، وتحولاته. (راجع الشكل 2)

وقد جمع الخطاب النقدي – في تناول د. التلاوي لرواية تحريك القلب لعبده جبير – بين التوصيف الجمالي والسيميائي / التشكيلي، أو الموسيقي للعمل الذي تتجلى مخطوطاته بين تقنية الأصوات، والبنية الأفقية للبيت، والتي يشبهها الناقد ببنية السيمفونية، وفواصلها الموسيقية التي تقفز فوق الأصوات، وقد جاءت الأخيرة بصورة رأسية. (6)، ومن ثم يذكرنا الخطاب النقدي بأثر الشكل، وتصوراته المكانية، أو الهندسية في كل من أوليات الإبداع، ومواكبة الخطاب النقدي الجيني الإنتاجية لتلك العمليات، وتتبعها، فقد لاحظ الناقد تسارع الإيقاع، والتحولات في النهاية، وهو ما يؤكد إنتاجية الخطاب النقدي التفسيرية للشكل، ويذكرنا بالعلاقة بين الأليجرو، والأداجيو في السيمفونيات، ومن ثم فارتكاز الخطاب لغويا في المستوى الأول / اللغوي – على الشكل الأيقوني، وجماليات الفنون أسهم في اكتشاف دلالات أخرى نقدية تفسيرية للعمل تواكب التوثيق، وتعززه بالإنتاجية التفسيرية في سياق ثقافي معاصر يعزز من بنية الصورة، وتكنولوجيا التواصل الإيحائي الذي يثري بنية السرد الروائي.

*هوامش الدراسة

(1) راجع، إدوارد سعيد، العالم والنص والناقد، ترجمة: عبد الكريم محفوض، منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، سنة 2000، ص-ص 178، 179.
(2) Read, Ihab Hassan, Toward a Concept of Postmodernism, A Postmodern Reader, Edited by Joseph Natoli and Linda Hutcheon, State University of New York Press, 1993, p. 279.
(3) Read, Norman Fairclough, Critical Discourse Analysis, Routledge, London and New York, 2013, 131: 137.
(4) راجع، د. محمد نجيب التلاوي، النقد الجيني ومعادلات النحت الروائي، النادي الأدبي الثقافي بالحدود الشمالية بالمملكة العربية السعودية، والانتشار العربي ببيروت، 2020، ص 45، 66، 67.
(5) راجع، د. محمد نجيب التلاوي، السابق، ص 147، 190، 191.
(6) راجع، السابق، ص-ص 202، 203.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى