الثلاثاء ٦ تموز (يوليو) ٢٠٢١

تراجيديا الصّراع بين الواقع و المأمول في سرديّات

علي فضيل

قراءة نقدية في المجموعة القصصية (تأملات بعدسة القلم)

صدرت المجموعة القصصية الموسومة ب (تأمّلات بعدسة القلم) للقاصّة الجزائريّة نوميديا جروفي عن دار الماهر للطباعة و النشر و التوزيع، في طبعتها الأولى عام 2019 م. و قد أهدتني القاصة – مشكورة – نسخة منها أثناء فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالجزائر العاصمة في شهر نوفمبر سنة 2019 م.

احتوت هذه المجموعة القصصية على اثنتين و خمسين قصة قصيرة. و قد صدّرتها الكاتبة نوميديا جروفي بعتبة جاء فيها:"قصص الحياة تُكتب في القلب و ليس في الأوراق"ص 5. و هي بمثابة عنوان ثا و مفتاح للمجموعة، يفضي بالقاريء و الناقد إلى تحديد العلاقة الجدليّة بين الفنّ القصصي الملتزم بقضايا الإنسان المصيريّة و وحياته اليوميّة في أبسط جزئياتها و أضيق زواياها.

تقول الكاتبة في مقدمة مجموعتها القصصية:"هي قصص ليست منزلة من العلى بل من روافد المجتمع ففي عمق كل قصة هناك خبرة و ما وراء كل خبرة عبرة حياة... إنّها قصص أظنّها كفيلة بأن تجعل القاريء يرحل إلى أعماقه ليحاور ذاته و يتأمّل حياته حتى يبلغ ملء نضجه الإنساني"ص 9.

إذن، هي قصص انتزعتها الكاتبة نوميديا جروفي من بين مخالب الواقع المرّ و أنياب الدهر، الذي لا يرسو على شاطيء، ولا يقرّ له قرار. رسمت فيها الكاتبة جزئيات مجتمع أنهكته العلل النفسيّة، و العقد الدونيّة، و الاستسلام لليأس و القنوط. ففي قصة (شبح)، يتحوّل - فجأة - حب البطلة و وفاؤها و فرحها و حلمها المعسول إلى حزن فجنون فانتحار من أعلى الجبل"لطمت و مزّقت ثيابها و أخذت تركض هائمة على وجهها حتى وصلت أعلى الجبل من ذلك الجرف و رمت نفسها منتحرة"ص 15.

و كان (تحليقها) ذاك من (أعلى)، لا يشبه البتّة تحليق الفراشات بين الزهور زهوا و استمتاعا، بل كان فجيعة و موتا محتوما، و سقوطا نحو (جرف) مميت. و هو مصير مأساوي يعرّي هشاشة النسيج الاجتماعي و يفضح ضعف الوازع الروحي في مجتمع يتسيّد فيه (فخامة) الجهل و (جلالة) الخرافة على قدسيّة العلم و اليقين. مجتمع، ينظر إلى المرأة من زاوية ضيّقة و منكسرة، لأنّها جسد لقضاء متعة جنسيّة، و عورة وجب وأدها في (قبر) دنيويّ، قبل طمرها في قبرها الترابيّ. مجتمع يتّهم المرأة و يلبسها ثوب الجاني، و لو كانت ضحيّة بشهادة نجوم السماء و كواكبها. و قصة (فاجعة) صورة لذلك، فقد وقعت البطلة ضحيّة اغتصاب من طرف لاجئين من مالي، وغم أنّها كانت يدها مشفقة عليهم."كانت المسكينة تشفق على لاجئين من مالي تراهم دوما قرب بيتها فتطعمهم و تعطيهم الماء لحرارة الجو خارجا"ص 16. أجل، منحتهم الماء، أي الحياة، بينما منحوها الموت.".. فدخلوا عليها و كانوا ستّة و هي امرأة لا حول لها و لا قوّة و أطفالها الأربعة نائمون في العليّة... و تعاونوا لتكبيلها ثم تناوبوا عليها فاغتصبوها جميعا"ص 16. هو مشهد فظيع جدا، لأنّها لم ترتكب تلك الخطيئة، بل أُكرهت عليها كرها، لكن لم يرحمها المجتمع، و لا زوجها الذي قال لهم، بعدما أخرج لهم صحنا من الطعام:"عندما تنهون الأكل دقّوا عليها و اعطوها الصحن"ص 16. رغم أنّه مسؤول عمّا حدث لها. و طلّقها الزوج بعد جريمة الاغتصاب الوحشي،"ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين.."ص 18، ثم تفارق الحياة من وطأة الصدمتين ؛ صدمة الاغتصاب و صدمة الطلاق. فالقصة - بقدر ما فيها من عبرة لمن يعتبر و ذلك عندما يكون جزاء الإحسان غير الإحسان - تدين بشدّة عنجهيّة الذكر الفاقد لصفات الرجولة الحقّة ضد المرأة الضحيّة في بيئة ذكوريّة أحاديّة النظر، تغفر للذكر المستبّد كل خطاياه في حق المرأة، بينما تعاقب المرأة على خطيئة لم ترتكبا رغبة و طوعا، نظرا لاختلال عقليّ و سيكولوجيّ في تلك البيئة. و هذا ما تظهره قصة (مذلّة و مهانة)، حيث تتعرّض البطلة،

و هي امرأة شرقية يتيمة، مترفة ماديا، لكنّها تعيسة في حياتها."أعيش حياة الترف، أنظري حجم البيت الضخم الذي أعيش فيه، عندي أفخم الأثاث، أسافر كل سنة لبلد، و لكنّني أتعس الناس"ص 42. تتعرّض للتعذيب النفسي الشديد من زوجها الذي وصفته قائلة:".. زوجي زير نساء"ص 42. و حين سألتها جارتها عن سبب رضاها بالعيش معه أجابتها بهدوء:"ماذا أفعل؟ أين أذهب؟ إلى الشارع؟ أنا يتيمة و لا بيت عندي يأويني و يحمي أولادي من الفقر و يسترني من أنياب ذئاب الشارع... أنا مقهورة، ذليلة، مهانة، مسكينة، مجروحة، أموت في اليوم مائة مرّة"ص 43. فالمال وحده لا يصنع السعادة، و الغنى وحده لا يبني أسرة مطمئنّة و متماسكة و سعيدة، إذا انعدمت المودة و الرحمة و القناعة و الغنى العاطفي و النفسي. فقد يكون الترف بوابة مشرعة على الفساد الأخلاقي و الاجتماعي، و وسيلة لإذلال الآخر و تعذيبه نفسيّا.

لكن ما يلفت النظر هنا، هو إصرار الكاتبة على تقديم بطلة قصتها في موقف انهزاميّ و استسلاميّ و سلبيّ، لا مثيل له، لا تملك من أسلحة المقاومة غير الصمت و الرضا و الدعاء."كلّما أنظر إليه أحترق في أعماقي، و أدعو له الربّ في صلواتي ليبتعد عن الوحل الذي تلطّخ به.. هذا أقل ما أستطيعه للأسف، فهو أب أولادي"ص 43. موقف خال من بؤرة التأزّم، الذي يُكسب الحدث القصصي صراعا دراميّا، غايته إثارة الإشكالية المطروحة و إظهارها و رصدها للرأي العام في صورتها النمطيّة لا الفردانيّة. و مهما كانت الأعذار، فإنّ القبول بالخيانةّ الزوجية على أنّها أمر واقع، هو أشد إيلاما من الخياتة نفسها. و كان على الكاتبة أن ترسم بطلتها في صورة إيجابية، أقلّها ما فيها، الرفض المطلق لسلوك زوجها الخائن لها جهرا و عمدا.

أمّا العيش مهانة تحت سقف خيانة زوجها لها مع سبق الإصرار و الترصّد، بحجة خوفها على نفسها، وعلى أبنائها من الفقر و التشرّد و ذئاب الشارع. فذلك – لعمري – أكبر خيانة للضمير و العفّة و الحدّ الشرعي و القيّم الأخلاقيّة النبيلة و الأعراف الأسريّة المشاعة و الميثاق المتين و المقدّس للزوجيّة.

و هكذا، وجدنا القاصة نوميديا جروفي، قد قدّمت لنا في ثنايا قصصها شخصيات منتزعة من عالم الواقع المعيش، مطحونة حتى النخاع، و بنظرة موغلة في واقعيّة انتقاديّة داكنة، تتأرجح بين دروب اليأس و الاستسلام و الخيبة و الضياع و الموت بشتى الطرق الموجعة. تارة يوجعها القدر في أعزّ ما تملك ؛ في فقدان مفاجيء و مأساويّ لزوج، كما حدث في قصة (غلطة عمر) أو ضياع حبّ كما في قصة (بعد 18 عاما)، أو إعاقة بيولوجية دائمة نتيجة حادث مرور، كما جرى للطالبة الجامعية في قصة (صدفة غريبة). و تارة أخرى يصدمها الواقع المرّ، و ما فيه من خيبات و تناقضات عجيبة بين مظهره و مخبره. فهذا يتنكّر لها كم في قصة (بين الماضي و المستقبل)، و ذاك يحاول خداعها بكلام معسول لنيل مبتغاه الجنسي، كما في قصة (في مهبّ الريح).

ففي قصة (الموت) كانت نهاية الفتى الصغير، الحالم بالجمال و الابتسامة و السلام فظيعة، و فيها إشارة إلى العشريّة السوداء و الحمراء التي عاشها جيل التسعينيّات في الجزائر"... لكنّه ما كاد يعدو نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة"ص 21. و كذلك كان مصير الطفل السعيد صاحب البالون الأحمر في قصة (طفولة موؤودة)، بعدما سلبت منه الحرب اللعينة نعمة الأمن في وطنه، و التي فرضها الأقوياء على الضعفاء، و بات الموت ضيفا بشعا يتربّص - دون موعد أو سبب - بالأسر البريئة و الأحياء الآمنة دون رحمة أو شفقة."كان الوطن يعيش بأمن و أمان في زمن ليس ببعيد، و اليوم اختلف كل شيء، حيث أصبح الشعب مستضعفا في وطنه، الذي عشّش فيه الخوف و الرهبة من موت بشع، كيف لا و الموت أصبح ضيف الغفلة على الأسر و الأحياء"ص 69.

ذلك الموت العشوائي، الذي لا يميّز بين ضحاياه، بل يزهق أرواح الأطفال."و ما كاد يخطو خطوتين حتى كُتمت أنفاسه البريئة برصاصة اعترض طريقها سهوا فاخترقت جمجمته الملائكية."ص 70. و كأن الذنب هنا، ذنب الطفل الذي اعترض طريق الرصاصة، لأن الحرب أمست سيّدة المكان، احتلّت الشوارع، أين يجد الأطفال متسعا و مساحة للعب الكرة. و هي في الغالب عادة الأطفال في البيئات الشعبية الفقيرة. و حين تحرم الحرب الأطفال من ممارسة ألعابهم المفضّلة في الشوارع، و تغتالهم الرصاصات الطائشة، فهذا يوحي بأنّ المأساة فظيعة، و أنّ الوطن قد غرق في مستنقع حرب لا عنوان لها و لا خطوط حمراء أمامها."طار البالون الأحمر في السماء و لحقته روح الطفل هناك بعيدا حيث السلام الأبدي"ص 70. و قد وظفت القاصة نوميديا جروفي ألفاظا سيميائية مثيرة في التعبير عن بشاعة الحرب مثل: عشّش – الخوف – الرهبة – موت بشع – ضيف الغفلة - كُتمت – اعترض – اخترقت جمجمته – الأحمر.

ما أقسى وطأة الموت على قلوب تعشق الحياة البعيدة عن أزيز الرصاص و دويّ القنابل. و ما أتعس حياة جيل التسعينيات، الذي طحنته حرب بين الإخوة الأعداء، و حرمته من نعمة السلام و الأمن و سبّبت له عللا و عقدا نفسية، دفعته إلى جلد الذات، و إلى سلوكات مميتة، مثل: الهروب من الوطن على متن قوارب الموت و المخدّرات و الانتحار و العنف ووو.

و تواصل القاصة نوميديا حروفي في التنقيب في أعماق المجتمع الشرقي المريض عن خباياه. ففي قصة (الأم و الابن)، تعرّي القاصة جانبا أسود من المظالم الاجتماعية، و هو عقوق الوالدين، حيث طرد الابن أمّه إلى الشارع بسبب زوجته، ناسيا أو متناسيا برّ الوالدين، و غافلا عن مآل العاق لوالديه، و متجاوزا – بعنجهيّة – أحكام الشرع و تقاليد المجتمع الشرقيّ و أعرافه و قيّمه، سواء المحافظ منه أو المتفتّح. جاء على لسان الأم:".. شاءت الأقدار، أن يأتي يوم و يرميني ابني في الشارع مع حزمة من ثيابي بسبب زوجته"ص 57. و جاء على لسان الابن العاق، مخاطبا أمّه:"اذهبي..غادري.. واخرجي من بيتي فقد ضقت ذرعا بك."ص 57.

لقد تنكّر الابن العاق و رمى أمّه التي حملته وهنا على وهن، و أرضعته حتى الفطام، ورعته إلى أنّ شبّ و اشتدّ عوده و ساعده."وَ قَضَى ربُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيَّاهُ وَ بالوالدين إحسانا، إمّا يبلغنّ عندكَ الكبرَ أحدُهُمَا أو كلاهُمَا فلا تقلْ لهما أفٍّ و لا تنهرْهُمَا و قُلْ لهُمَا قولاً كريما و اخْفِضْ لهما جناح َالذّلِّ من الرَّحْمةِ و قُلْ ربِّ ارْحمهُما كما رَبيَّاني صغيرا"مسورة الإسراء 23 / 24.

و في القصة إيحاء إلى محاولة انسلاخ الجيل الجديد من هويّته بكل ما تحمله من قيّم نبيلة، بدعوى العصرنة الغربيّة الزائفة.
و لم تغفل القاصة زمن الحراك الشعبي الذي انطلق في فيفريّ 2019 م. و تناولته في قصة قصيرة جدا بعنوان (صلاة الشعب). بعد إعلان الرئيس – تحت ضغط المظاهرات المليونيّة السلميّة - عدم ترشّحه لعهدة خامسة، و الصلاة هنا تعني الدعاء. و هي أقصوصة، تشبه ما عرفه العصر العباسي بفنّ (التوقيعات). و بقدر ما هي موجزة في لفظها، لكنّها عميقة في معناها. فقد عبّرت الأم - و هي رمز الجيل القديم و الشاهدة على العهدات السابقة – عبّرت عن بهجتها، و كأنّها تخلّصت من كابوس، طالما أرّق حياتها. و هنا يظهر أثر التواصل بين الأجيال الواعيّة، و دور الشعب الحرّ في إحداث التغيير المنشود، و أحقيّته للتحية و التقدير و الإجلال. فإذا أراد الشعب الحياة الحرّة، استجاب له القدر، أمّا إذا خنع و استسلم و رضي بالاستبداد، فإنّ مصيره الهوان و الفناء.

لم تبتعد قصص الأديبة نوميديا جروفي عن معالم بيئتها الملأى بالمعاناة و المآسي اليوميّة التي تفترس الفرد كوحش ضار، و المحفوفة بالتناقضات الاجتماعيّة. فكأنّي بالقاصة، قد اتّخذت لها مجلسا شهرزاديّا، و طفقت تحكي دون تكلّف حكايات شهدت أحداثها، بأسلوب سرديّ بسيط و واقعيّ (نسبة إلى المدرسة الواقعيّة) و خال من الخيال. مستغلّة تقنيّة الأنا الشاهد أو (التبئير الداخلي) كما سمّاه جرار جينيت. و في أغلب الأحيان، جعلت القاريء يكتشف أن السارد (القاصة) تتحكّم في عالم القص و توجه الأحداث، من خلال أسلوب بانوراميّ غير محايد. فغالبا ما جاءت نهايات قصصها منفصلة عن العقدة أو لحظة التأزّم، عبارة عن عبارات تلخّص المغزى و العبرة من القصة، تحمل معاني حكمية وعظية، و هذا تدّخل واضح و سافر من القاصة في توجيه الأحداث. كقولها - على سبيل المثال لا الحصر - في نهاية قصة (فاجعة):"صدق من قال: لا تكسر اليد التي تمد لك الخبز أبدا"ص 18. و قولها في نهاية قصة (انتحار):"..

وما أكثر هذه الأخطاء الطبيّة التي ذهب ضحيتها الكثيرون.. طوبى للحزانى لأنّهم يتعزّون."ص 20. و قولها أيضا في خاتمة قصة (القهوة المالحة):"قد نشرب المرّ من أجل أحدهم فقط لأنّنا أحببناه من كل قلبنا و أنّنا نضحي بكل شيء في سبيل أن نبقى معه و حياتنا لا تستمرّ بدونه. إنّه الحب صانع المعجزات الذي لا يؤمن بالمستحيل أبدا"ص 97. و قولها في نهاية قصة (عشرون عاما و أنا أبحث عنك):"إنّنا لا بد أن نحصد ما زرعناه و لو بعد أيام كثيرة أو أعوام خيرا كان أم شرّا و ليعطينا الرب الإله أن نصنع رحمة طوال أيّام حياتنا."ص 131. و قولها في خاتمة قصة (بين العار و الشرف):"قتلوا الشرف ليحيا العار"ص 148.

إنّ مثل هذه النهايات متروكة – في الأصل - للمتلقي، و هي حق من حقوق الناقد و واجباته و رسالته النقدية. و إلاّ ماذا بقي للناقد من اجتهاد نقدي؟ هي ليست من مهمّة القاص، لأنّ القصة في مضمونها العام، ليست مقالا فلسفيّا أو اجتماعيا أو أدبيّا، تستنتج العبر و المواعظ، و تمنح الحلول و النظريّات للمتلقّي. أعتقد أن القاصة نوميديا جروفي قد أقحمت تلك النهايات المنفصلة عن الأحداث في جلّ قصصها، و هذا شكل من أشكال هيمنة الساردة (القاصة) و سلطتها على النص. في الوقت الذي كان عليها أن تبقى محايدة عن النهايات القصصية الحاسمة أو المفتوحة، التي تفرضها فنيّات القصة القصيرة، من خلال توظيف تقنيّة التبئير الخارجي أو المعرفة المحايدة، التي تعطي لشخصيات القصة القصيرة دورا أكبر من دور (السارد)، حين يكون ناطقا بضمير الغائب.

و يلفت الانتباه، في هذه المجموعة القصصية، هو أنّ العديد من أبطالها أطفال معذبّون، بسبب اليتم أو الفقر و المرض و الحرمان و القهر الاجتماعي. و قد قدّمتهم القاصة نوميديا جروفي في صورة أليمة و مؤلمة و تراجيدية، خاصة في قصص (البراءة) ص 146، و (الطفل و الطبيب) ص 143، و (الوردة) ص 142، و (كلمة السر) ص 126 و (الموت) ص 21. و (طفولة موؤودة) ص 69، و (كأس الحليب) ص 98، و (الصندل) ص 100، وغيرها.

و عندما نتأمّل المقاطع السردية التالية:"دكتور، طفلي مريض و هو في حالة خطيرة جدا، أرجوك أن تفعل أي شيء لإنقاذه"ص 130."... فالولد كان ضريرا"ص 142.".. و ما كاد يعدو (أي الولد) نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة"ص 21."طار البالون الأحمر في السماء و لحقته روح الطفل هناك بعيدا.."ص 70."كان طفلا فقيرا يوزّع السلع على المنازل ليلا حتى يتمكن من إنهاء تعليمه، و في ليلة شعر بجوع شديد.."ص 98."طفل صغير يتيم في السابعة من عمره فقد والديه و هو رضيع.."ص 100."..و لأنّ اليوم كان العيد، فقد كانوا كلهم يلبسون الملابس الجديدة إلاّ هو الذي كان يلبس ملابس رثة، ونفس زوج الصندل الذي يصغر مقاسه عن قدمه.."ص 100 / 101. تتّضح لنا صورة سوداوية لطفولة معذّبة و ضائعة في مستنقع مجتمع لا مستقبل له. مجتمع يقتات من ترهات الماضي و خرافاته، و يتكئ على حاضر افترضيّ و فوضويّ، و يرنو إلى مستقبل أعنّته السراب.

كما كان للأنثى المقهورة و المهمّشة نصيبها في هذه المجموعة القصصية، فقد قدّمتها القاصة ضحيّة مجتمع ذكوريّ معقّد. فهي متّهمة ومذنبة رغم براءتها، تدفع ثمن خطيئة الطرف الآخر تحت سلطان القوّة و التسلّط.

و كأنّها فرض كفاية في المجتمع. ففي قصة (مذلة و إهانة) تعامل الأنثى كسقط المتاع فهي – في نظر الذكر - مجرد كتلة من اللحم و العظم، منزوعة العواطف، وظيفتها جنسيّة لا أكثر."زوجي زير نساء، كل نهاية أسبوع يأخذني عند أخته لتمضية يومي الخميس و الجمعة..."ص 42.

و كذلك في قصة (فاجعة)، دفعت الزوجة الضحيّة، الطيّبة، الكريمة، البريئة، ثمن غلطة زوجها المتعجرف الذي"أدخل عليها غرباء و تركها و هي في أشدّ الحاجة إليها"ص 18. فبدلا من الوقوف بجانبها و مؤازرتها و حمايتها، قام بتطليقها، ليبدي رجولته المزيّفة أمام الناس."تخلّص منها بطلاق ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين..."ص 18. و هكذا يتحوّل الزوج من سند لزوجته و حام لها إلى جلاّد. و هو صورة واقعيّة لمجتمع ذكوريّ منافق، يمارس دور الخصم و الحكم في الوقت نفسه.

و بعد، فقد وفقت القاصة نوميديا جروفي - في مجموعتها القصصية (تأمّلات بعدسة القلم) – في فضح خبايا واقع اجتماعيّ يرزح تحت نير التخلّف و الخرافة و الظلم و القهر و التهميش و العلل النفسيّة، و رصد سلوكيّات أفراده، بأسلوب سرديّ بسيط و سلس.
من المآخذ التي رصدتها أيضا تلك النهايات في القصص و هي تدخّل واضح من القاصة في توجيه القارئ نحو المغزى العام للقصة، ممّا قد يحوّلها إلى مروحة للكسالى. كان على القاصة أن تدع ذلك للقارئ المتذوّق و الناقد المتمكّن، كي يغوص في أعماق المعمار القصصي لاستنباط الهدف و المغزى العام.

(تأملات بعدسة القلم) لنوميديا جروفي إضافة مفيدة للمكتبة العربية، و لبنة أخرى تضاف إلى هرم القصة الجزائرية القصيرة الشبابيّة، و بريشة و عدسة نسويّتين.

علي فضيل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى