الثلاثاء ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم فريد الخمال

تغريد الصباح

قصة للأطفال

انْتَبَهْتُ إِلَى أَنْظارِ زُمَلاَئِي في الفَصْلِ تَتَّجِهُ نَحْوي فَشَعَرْتُ بِالْخَجَل، لَمْ أَعْلَم السَّبَبَ الدَّاعي إِلى ذَلِك. أَطْرَقْتُ رَأْسي إِلى الْأَرْض، فَإِذْ بِالْمُعَلِّمِ يَقْتَرِبُ مِنْ مَقْعَدِي، رَفَعتُ رَأسي إِذْا بهِ يُحَرِّكُ شَفَتَيْه، وَصَلَ بَعْضُ صَوتِهِ إِلَي، تَرَدَّدْتُ بِما سَأُجيب، هَلْ أُخْبِرُهُ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْه جيِّداً، أَمْ أَكْتَفِي بِالصَّمْتِ مَخَافَةَ أَنْ يُعامِلُني كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ مُدَرِّسَةُ السَّنَةِ الْمَاضِيَة، وَيَقْسو عَلَيَّ وَيَسْخَرَ مِنّي. اخْتَرْتُ إِخْبارَهُ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْ ما قَاله، كَرّرَ سُؤالَهُ بِصَوْتٍ أَعْلَى. فأَجَبْتُهُ وَقَد احْمَرَّ خَدَّاي. جَمِيعُ الطُّلاَبِ كانُوا يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ بِكَلامٍ حَسَن، وَيُحِبُّونَ أُسْلُوبَهُ فِي التَّدْريسِ. أَمَّا مُعَلِّمَتِي السَّابِقَةُ فَكَانَتْ تُكْثِرُ مِنَ الصُّراخِ حِينَما لاَ أَسْمَعُها جَيِّداً أَوْ أَتَأَخَّرَ فِي الْإجابَة...
انْطَلَقَ زُملاَئي يَجْمَعُونَ كُتبَهم وَأَدَواتِهِم، وَأَنَا كَعادَتِي لاَ أَبْتَدِئُ الْجَمْعَ إِلاَّ بَعْدَ مُشَاهَدتِهِم، لِأَنِّي لاَ أَسْمَعُ جَرَسَ الْفُسْحَة. أَخْرُجُ فأَنْزَوي فِي زَاوِيَةِ السَّاحَةِ حَامِلاً حَقِيبَةَ الْأَكْل، أَلْتَهِمُه، ثُمَّ أَقْعُدُ لِأَتَفَرَّجَ عَلَى زُمَلاَئِي وَهُمْ يَمْلَؤُونَ (يملأون) السَّاحة لَعِباً وَجَرْيا، وَأَنَا لاَ يَخْتَرُونني سِوى لِلَعِبِ الْغُمَيْضَة، لِسُهولَةِ الْإِيقاعِ بي...
الْأُسْبُوعُ الْمَاضي كَانَتْ بِدايَةُ الْمَوْسِم الدِّراسِيّ، فَرِحْتُ جِدّاً حِينَما عَلِمْتُ أَنَّنِي سَأَدْرُسُ عِنْدَ مُعَلِّمٍ جَديدٍ، ويُفْرِحُني أكثرَ حِينما يَبْتَسِمُ في وَجْهي. الْيَومَ أثناء الْفُسْحَةِ لَوَّحَ لي بِيدِهِ، انْتَبَهْتُ لَه، ابْتَسَمَ لي، وَطَلَبَني بَعْدما انْتَبَه َإلَى جُلوسي وَحيدا. اقْتَرَبْتُ مِنْهُ ثُمَّ راحَ يَسْأَلُني دُونَ أَنْ أَتَمَكَّنَ مِنْ سَماعِ صَوْتِه بوضوح، خَجِلْتُ أَنْ أَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ فَاكْتَفَيْتُ بِابْتِسامَةٍ مُرْتَجِفَة. نَزَلَ عِنْدي وَاقْتَرَبَ مِنْ أُذُنِي فَقال:

أَلَمْ تَسْمَعْنِي يا مُراد؟

تَرَدَّدْتُ بِما سَأُجيب، ثُمَّ اخْتَرْتُ الرَّد:

أَعْتَذِرُ أُسْتاذِي لَمْ أَسْمَعْك، هَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تُكَرِّرَ مَا قُلْتَهُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِع؟

لَمْ يَنْطِقْ بِشَيْء، وَكِدْتُ أَنْدَمُ عَلَى رَدِّي. تَرَكَني وَاقِفاً عِنْدَ بَابِ الْفَصْلِ وَدَخَل. ثُمَّ تَكَلَّم، لَمْ أَتَبَيَّنْ مَا قَالَهُ فَقَدْ فَشِلْتُ في قِراءَةِ شَفَتَيْهِ، كَما أَفْعَلُ دائما... طَأْطَأْتُ رَأْسي، وَكَادَت الدُّموعُ تَقْفِزُ مِنْ عَيْنِي؛ الْجَميعُ يَسْخَرُ مِنّي. اقْتَرَبَ مِنّي، ثم مسح بِيَدِهِ الْحانِيَة عَلى رَأْسي وَقالَ لي:

لاَ تَقْلَقْ مِنْ شَيْء، سَنَتَجَاوَزُ هَذا الْمَوْضُوعَ وَلَنْ تُحِسَّ بِالْفَرْقِ بَيْنَ زُمَلاَئِكَ.

أَحْسَسْتُ بسعادةٍ تغمُرني، ورَجِعْتُ إلَى الْبَيْتِ فرِحا. أَخْبَرْتُ أمي بِما دارَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمُدَرِّس، نَظَرَتْ إِلَيّ بِنَظْرَتِها الْمُفْعَمَةِ بِالْحُبِّ، ثُمَّ حَضَنَتْنِي وَقَالَتْ:

لاَ تَخَفْ مِنْ شَيْءٍ يا مُراد، أَظُنُّ أَنَّ الْمُدَرِّسَ سَيَتَفَهَّمُ حَالَتَكَ.

في صَباحِ يَوْمِ الْغَد، بَعْدَمَا وَصَلْتُ إِلى الْمَدْرَسَةِ وَجَدْتُ الْمُعَلِّمَ بِرُفْقَةِ الْمُدِيرِ عِنْدَ الْبَاب، سَلَّمَنِي ظَرْفاً وَاقْتَرَبَ مِنْ أُذني وَقَال لي:

أَخْبِرْ وَالِدَيْكَ يَا مُرادُ أَنْ يَأْتِي أَحَدُهُما أَوْ كِلاَهُمَا غَداً.

ظَلَلْتُ طِوالَ الْحِصَّةِ وَأَنَا أُفَكِّرُ فِي سَبَبِ دَعْوَتِهِما وَلَمْ أَفْتَحْ الظَّرْفَ لِمَعْرِفَةِ السَّبَبِ. خَرَجْتُ مِنَ الْمَدْرَسَةِ وَكُلُّ تَرْكيزِي مُصَوَّبٌ عَلَى إِيصَالِه إِلَى الْمَنْزِل. مَجْمُوعَةٌ مِن الْأَسْئِلَةِ تُراوِدُني؛ هَلْ هِيَ وَرَقَةُ طَرْدِي؟ أَمْ شَكْوى بأَنِّي لاَ أَسْمَعُ الْمُدَرِّسِينَ جَيِّدا لأنَّهم ضَاقوا بي دَرعاً (ذرعا)؟!

أَلْقَيْتُ التَّحِيَّةَ عَلَى أُمِّي وَسَلَّمْتُها الْظّرف، فَتَحتْه، وحَاوَلتُ اسْتِراقَ النَّظَر؛ دَعْوَةٌ لِلْحُضُورِ صَباحَ يومِ الْغدِ إِلَى الْمُؤَسّسَةِ دُونَ ذِكْرِ السَّبَب، فَقَطْ كُتِبَ عَلَيْهَا بِخَطٍّ عَرِيض؛ مِنْ أَجْلِ مَصْلَحَةِ الْبَطَلِ مُراد، دُمْتُمْ بِخَيْر.

فصْل الْخريف، تهب الرِّيحُ وتَتساقط الْأَوراقُ الذَّهبيةُ عنِ الْأشْجار. يَوْمٌ جَمِيلٌ دَافِئٌ بِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ الدَّهَبِيَةِ، وَالْهَوَاء العَلِيل الّذِي يَشْرَحُ النَّفْسَ. وَصَلْنَا إِلَى المدرسة فَوَجَدْنَا معلِّمي يَنْتَظِرُنَا، أَلْقَيْنَا عَلَيْهِ التَّحِيَةَ، رَدَّهَا بِوَجْهٍ مُبْتَسِمٍ وَسَمْحٍ. سَعِدَ بِتَعامُلِ أُمِّي مَعَ الْوَرَقَةِ بِجِدِّيَة، وَأَنَّها اسْتَجابَتْ لِدَعْوَةِ الرِّسالَةِ مُبَاشَرة. كَما اعْتَذَرَتْ أُمِّي عَنْ عَدَمِ حُضُورِ أَبي بِسَبَبِ ظُروفِ عَمَلِه. تَبَادَلاَ الْحَديث، ولَمْ أسْمَع كثيرًا مِمَّا قالا، ثُمَّ َنَزَلَ الْمُدَرِّسُ عِنْدي وقال:
غدا ستَأتِي برُفقَة أمّك كَي نَذْهَبُ عِند الطّبِيب يا مُراد.

غَادَرت أُمِّي الْمَدْرسَة وَبَقيتُ شارداً أُفَكِّر؛ تُرى ماذا سَيَفْعلُ لِي الطَّبيب؟

تَقَلَّبْتُ فِي سَرِيرِي كَثِيرًا إِلَى أَنْ دَاعَبَتْ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ وَجْهِي الصَّغِيرَ، بَعْدَ أَنْ تَسَلَّلَتْ مِنَ النَّافِذَة. لَمْ أَنَمْ جَيِّدًا، فَتَحْتُ عَيْنيَّ وَبَقَيْتُ مُمَدَدًّا. دَلَفَتْ أُمِّي إلى الْغُرْفَةِ كَيْ تُوقِظَنِي، كَانَ الْوَقْتُ بَاكِرًا، تَنَاوَلْتُ فَطُورِي، وَخَرَجْتُ رُفْقَتها إِلَى المدرسة.

الْتَقَيْنا بِالْمُدرِّس ثُمَّ رَكِبْنَا سَيَّارَته وَذَهَبْنا برُفقته. كُنْتُ خَائِفًا جدّاً حتى وصلْنَا إلى العيَادة. كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَتَأَخَّرَ الْوَقْتُ قَلِيلًا، وتَمَنَّيتُ أَنْ أَهْرُبَ فَلَسْتُ مُسْتَعِدًّا بَعْد، لاَ أعرفُ لِماذا تَحديداً، لَكِنَّني لَستُ مُسْتَعِدّا. وَجَدْنَا مُسَاعِدَة الطَّبِيبِ فِي مَكْتَبِ الاسْتِقبالِ تَحَرَّكَ فَمُهَا، لَمْ يَصِلْ صَوْتُهَا إِلَيّ وَاضِحًا. نَظَرْتُ إِلَى الْمُدَرِّس فقَال؛ إنَّ الطّبِيب في انْتِظارِنا. ازْدَادَ خَوْفِي. أَمْسَكَتُ بِيَدِ أُمِّي وَشَدَدَتُ عَلَيْهِا، شَعَرَتْ بِي فَمَسَحَتْ عَلَى رَأْسِي، وَقَالَتْ لِي:

لاَ تَقْلَقْ يَا مُرَادُ، لاَ تَقْلَقْ يَا حَبِيبِي، سَيَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى مَا يُرَامٍ.

وَجَدْنَا الطَّبِيبَ يَنْتَظِرُنَا خَلْفَ مَكْتَبِهِ؛ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِهِ الْكَبِيرِ، تَعْلُو وَجْهَهُ ابْتِسَامَةٌ لاَ تَقِلُّ نَضَارَةً عَنْ ابْتِسَامَةِ مُعَلِّمِي. الْغُرْفَةُ وَاسِعَةٌ وَجَمِيلَةٌ، صُورَةُ جِسْمِ الْإِنْسَانِ تَعْلُو الْحَائِطَ، وَصُورَةٌ أخرى لأُذْنٍ كَبِيرَةٍ مَشْرُوحَةٌ تَفَاصِيلُهَا في الجهةِ الْمُقابِلة. مَكْتَبُهُ مُزَيَّنٌ بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ خَلْفَ مَقْعَدِهِ، وَصُوَرٌ لَهُ مَعَ شَخْصِيَاتٍ يَبْدُو أَنَّهُمْ مَشَاهِير. انْتَبَهَ الطَّبِيبُ لِخَوْفِي، فَخَاطَبَنِي بِصَوْتٍ مُرْتَفِع:

أَهْلًا بِبَطَلِنَا.

ثُمّ أَعْطَانِي قِطْعَةً مِنَ الشُّوكُولاَتَه الْمَوْضُوعَةِ عَلَى زَاوِيَةِ مَكْتَبِهِ الْكَبِيرِ. قَامَ مِنْ مَقْعَدِهِ وَتَوَجَّه صَوْبَ غُرْفةٍ صغيرةٍ وَأَطلَّ عَليْنا مِنْ خَلْفِ نَافِذَتِها الزُّجَاجيَة، ثُمَّ لَوَّح إِليَّ بيدِه طَالباً مِنِّي أَنْ أَقُومَ مِنْ مَكَانِي نَحْوَ الْغُرْفَة. تَبادَلْتُ النَّظراتِ معَ أُمِّي والمعلِّم فَحرَّكا رَأسَيْهِما يَحُثانني على النُّهوض. ارْتَعَدْتُ جِدًّا، كُنْتُ خَائِفًا، وَمُتَحَمِسًّا كَذَلِكَ. نَهضتُ ثُمَّ جَلَسْتُ عَلَى الْكُرْسِيِّ قُرْبَ آلةٍ كَبيرة. وَضَعَ سَماعاتٍ كَبيرةٍ على أُذني، حَاوَلَ أَنْ يُطَمْئِنَنِي واسْتَسْلَمْتُ لَهُ، ثُمَّ جَلَسَ فِي الْمَقْعدِ خَلْفَ الآلةِ وَانْطلقَ يَضْغَطُ علَى الْأزْرار. كَانَتِ الْغُرْفَةُ صَامِتَةً وَمَعَ ضَغْطِهِ عَلَى الزِّرِ السِّحْرِي، وَتَحريكِ شَفَتَيْهِ قُرْبَ مِيكرُفون، صَدَر صَوتٌ واضحٌ كَأنِّي لَم أَسْمع صَوْتاً مِنْ قَبْل:
حِينَما تَسْمَعُ صوتاً أَشِرْ لِي بيدِك.

حَاوَلْتُ نَزْعَ السَّمّاعات وَالْـهُرُوبَ إِلَى حُضْنِ أُمِّي. أَمْسَكَ يَدِي وَقَالَ لِي:

اِنْتَظِرْ، اِنْتَظِرْ، سَنَضْبِطُ مُسْتَوَاهَا.

اسْتَمَرَّ فِي الضَّغطِ علَى الأَزْرارِ وَسُؤالي، ثُمَّ أشيرُ لَه بيدِي بيْنَ الْحينِ والآخر. أَزالَ عنِّي السَّماعاتِ وَجَرَيْتُ نَحْو حُضْنِ أمِّي.

مرَّت ثلاثةُ أسابيعَ علَى أوَّلِ حصَّة فِي الْعيَادَة، بَعدَما أَخَذَ الطَّبيبُ مقاساتِ أذُنايَ وَمُسْتَوى سَمْعي. وحلَّ اليَومُ الَّذي انْتَظَرْتُه بِفَارغِ الصَّبْرِ، يَوْمٌ لَيْسَ كَسَابِقِيهِ مِنَ الْأَيَّامِ. الْـمَسَافَةُ مِنْ قَرْيَتِنَا إِلَى الـمَدِينةِ لَمْ تَكُنْ بَعِيدَةً كَثِيرًا، كُنَّا فِي الْأَيّامِ الْعَادِيَةِ نَصِلُ بِسُرْعَةٍ، لَكِنَّ اليَوْمَ قَدْ طَالَتْ الطَّرِيقُ عَنِ الـمُعْتَادِ. كُنْتُ فَرِحًا جِدًّا، وَقَلِقًا جِدًّا كَذَلِكَ. حِينَما وَصَلْنَا َأَخْبَرَنَا الطبيبُ أَنّ الجْهازَ الَّذي كُنَّا نَنْتَظِرُ قُدُومَه مِنَ الْخَارِجِ جَاءَ مَسَاءَ أَمْس. نهضَ إِلَى الْخِزَانَةِ فَأَخْرَجَ عُلْبَةً صغيرة بحَجْمَ يَدَيْه أو أصغر، فَتَحَ الْعُلْبَةَ، وأَخْرَجَ الْجِهاز. انْبَهَرْتُ لِصِغَرِ حَجْمِه. أَخَذَ الْأُولَى فَوَضَعَهَا عَلَى أُذْنِي اليُمْنَى، وَالثَّانِيَةَ عَلَى أُذْنِي الْيُسْرَى. كَانَ الْأَمْرُ عَادِيًّا عَكْسَ مَا تَوَقَّعْتُه. شَعَرْتُ بِبُرُودَتِهَا فَقَطْ، لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ. أهَذَا كُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ؟!

طِيلَةَ الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ، والأَمْرُ فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ! كَانَتْ أُمِّي تَقُولُ لِي؛ إِنَّ الْمَوْضُوعَ بَسِيطٌ وَسَيَمُرُّ عَلَى مَا يُرَام، وَكُنْتُ أَحْسِبُهَا تُطَمْئِنُنِي فَقَطْ فهي تَفْعَلُ هذا دَائِما. أَرْجَعَ الطَّبِيبُ يَدَهُ إِلَى خَلْفِ أُذُنَايَ ثُمَّ ضَغَطَ زِرًّا مَا، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتًا كَثِيرَةً وَمُرْتَفِعَة، مُرْتَفِعَة جِدًّا. كِدْتُ أَنْزَعُهما. شَغَّلَ جِهَازًا آخَرَ وَرَبَطَهُ مَعَ الجهازِ بِأَسْلاَكٍ ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَحَكَّمُ فِي مُسْتَوَى الصَّوْتِ وَيَسْأَلُنِي:

هَلْ انْخَفَضَ الصَّوْت؟

شَغَّلَ الحَاسُوبَ وَاخْتَارَ مَجْمُوعَةً مِنَ الْفِيدْيُوهَات، ثمّ راحَ يسأَلنِي: هَلْ تسْمَعُ شيْئا؟! لِأَوَّلِ مَرَّةٍ أَكْتَشِفُ أَنَّ لِلْمَاءِ صَوْتًا حِينَمَا يَخْرُجُ مِنَ الصُّنْبُورِ، وَلِأمواجِ الْبَحْرِ صَوْتًا، وَلِلْحَيَوَانَاتِ أَصْوَاتٌ جَمِيلَةٌ لَمْ أَكُنْ أَتَوَقَّعُهَا. ضَبَطَ مُسْتَوَى الصَّوْت ثُمَّ أَزَالَ الْأَسْلاَكَ مِنْ عَلَى الْجِهاز.

نَادَيْتُ أُمِّي، وَجَرَيْتُ نَحْوَهَا. حَضَنَتْنِي وَحَدَّثَتْنِي، كَانَ صَوْتُهَا وَاضِحًا جِدًّا، نَاعِمًا جِدًّا، دَافِئًا جدًّا؛ دِفْءَ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ، كَأَنِّي لِأَوَّلِ مَرَّةٍ أَسْمَعُ صَوْتَهَا، دُونَ التَّرْكِيزِ والنَّظَرِ إِلى حَرَكَاتِ الفَمِ، بَدَا الْمَوْضُوعُ غَرِيبًا عَلَيَّ. وتَسَلَّلَتْ مِنْ عَيْنَيْهَا دَمْعَةٌ عَلَى خَدِّهَا الْـجَمِيلِ، لَمْ أَشْعُرْ بِنَفْسِي إلاَّ وَدُموعي تَسيلُ علَى خدِّي أَيْضا. كانَ الْمُعلِّمُ يُتابِعُ ما يَجري فِي صَمْت، وَرَأَيْتُ عَيْنَيْه تُشِعَّانِ ببَريق الْفَرْحة، ثُمَّ هَنَّأَنِي كَذَلِكَ:

حانَ الْوَقْتُ لِتَسْتَمْتِعَ بِالْحِصصِ فِي الْمَدْرسَةِ كَزُمَلائِك وَتَلْعبَ بِرُفْقتهم... مَبْرُوك يَا بَطَل.

قَفَزْتُ نَحْوَهُ وَعَانَقْتُهُ عِنَاقًا حَرًّا، شَكَرْتُهُ عَلَى اعْتِنَائِهِ وَاهْتِمَامِهِ لاَسِيَما وَأَنَّهُ كَانَ سَبباً فِي وُصُولِي إِلَى هُنَا، بَعْدَمَا انْتَبَهَ إِلَى ضعْفِ سَمْعِي فِي الْفَصْلِ.

أَخِيرًا لَنْ أَضْطَرَّ أَنْ أَطْلُبَ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يُعِيدَ كَلاَمَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَيَتَضَجَّرَ مِنّي، فَقَلِيلُونَ مَنْ كَانُوا يتفهَّمونَ حَالَتي ويُعِيدُونَ كَلاَمَهُم حِينَ أَطْلُبُ ذلك، كنْتُ أَشْعرُ بِتَذَمُّرِهم حتَّى وَإنْ حَاوَلوا إِخْفاءَه، وَكَثيِرُونَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِي، وَيسْخَرُونَ مِنّي ويُنَادُونَنِي بِالْأَصَمِّ.

أَكْمَلَ الطَّبِيبُ حَدِيثَهُ مَعَ أُمِّي، وَمُعَلِّمِي. كَانَتِ الْأَصْوَاتُ مُخْتَلِفَة. كِدْتُ أَنْزِعُ السَّمَاعَاتِ فَطَمأنَانِي أَنَّنِي سَأَعْتَادُ الْأَمْرَ.. أَمْسَكْتُ يَدَ أُمِّي وَشَدَدْتُ عَلَيْهِا. فَرْحَتِي لاَ تُوصَف، كَأَنِّي وُلِدْتُ مِنْ جَدِيد. ثم أَعْطَانِي الطَّبيبُ قِطْعَةَ شُوكُولاَتَه. شَكَرْنَاهُ عَلَى مَجْهُودِهِ، وَمُعَامَلَتِهِ اللَّطِيفَةَ.

صَدَرَتْ رَنَّةٌ لَمْ أَعْلَمْ مَصْدَرَهَا! اسْتَغْرَبْتُ، أَدْخَلَتْ أُمِّي يَدَهَا فِي حَقِيبَتِهَا فَأَخْرَجَتْ هَاتِفَهَا الْمَحْمُولَ، إنَّها رَنَّةُ الْهاتف إِذَن. فَتَحَت الْخَطَّ ثُمَّ ضَغَطَتْ علَى مُكَبِّر الصَّوت: فَسَمِعْتُ صَوْتًا يُكَلِّمُهَا، كَأَنِّي أَعْرِفُهُ، سَمِعْتُهَا تَقُولُ:

نَعَمْ، خَرَجْنَا لِلتَّوِ، مُرَاد يَسْمَعُنَا الآن. وَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَاهَا بِالدُّمُوعِ. نَاوَلَتْنِي الْهَاتِفَ. تَخَوَّفْتُ أَنْ أُقَرِّبَهُ مِنْ أُذْنِي لَكِنَّ أُمِّي شَجَعَتْنِي، وَضَعْتُهُ فَجَاءَ صَوْتٌ أَعْرِفُهُ، إِنَّهُ صَوْتُ أَبِي وَاضِحًا بِنَبْرَةٍ أَثِيرِيَّةٍ:

لَقَدْ أَفْرَحْتَنَا يَا مُرَادُ، الْحَمْدُ لِلّهِ.

انْسابَتْ دُمُوعٌ عَلَى خَدِّي الصَّغِير ثُمَّ غَادَرْنَا العِيَادَةَ.

عُدْتُ إِلى الْمَدْرَسَة. أَخِيرًا تَغَلَّبتُ عَلَى مُشْكِلِ ضعْفِ السَّمْعِ الّذِي كَانَ يُضَايِقُنِي جِدًّا. أَصْبَحَ لِكُلِّ شَيْءٍ صَوْتًا؛ المُدرّس، زُملاَئي، العَصَافير، الرِّياح.... حَتّى لِلْأَحْذِيَةِ وَقْعٌ عَلَى الْأَرْض. لَقَدْ صَارَ لِلْعَالَمِ صَوْتًا بَعْدَمَا كَانَ صَامِتًا، إنَّهُ تغريدُ الصَّباح.

= انتهت =

قصة للأطفال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى