الخميس ٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٠
بقلم جورج سلوم

تفاعلات كيميائية

كم كنت أحقد على زميلاتي في الجامعة عندما كنّ يضحكن لذلك الأستاذ إثر إجاباتٍ ضحلة على أسئلته فيبتسم لهنّ مطبطباً، أما أنا فينزل بي تقريعاً.

لا بل وكان يفضّلهن علينا كذكور، ويأخذ بيد واحدة منهن ليشرح لها على انفراد ما استصعبَ عليها فهمُه..لتخرج بعدها من مكتبه متورّدة الوجه سعيدة إذ غُفِرَت لها خطاياها.

وبابُه موصَدٌ بوجهي أبداً..وتساؤلاتي عندَه تافهة وسببُها أنني لم أنتبه للدرس..فما قيل في درسه قد قيل ولا مجال لتكراره..وما كُتِبَ في ورقتي قد كُتِب ولا إعادة نظر.. وما حُكِمَ به عليّ قد صدر ولا استئناف.

وهناك أيضاً ذوو الحظوة من زملائيَ الشباب، لهم معاملة أرقّ وأرقى من الزميلات حتى..لأنّ أبوه فلان قد يتصل بالأستاذ فيحدث تفاعلٌ كيميائيّ يؤدّي إلى ارتفاع علاماته.

هنالك تفاعلات كيميائية خفيّة بينهم لم أكن لأستطيعَ فهمها لأنها غير مكتوبة في الأدب الطبّيّ..وكنت أعزو فشلي إلى الحظ..أو أجلس مع مجموعة من زملائي الندّابين النوّاحين – إذ أنّ الطيورَ على أشكالها تقع - فنؤلّف قصصاً نحبكها بأنّ ذلك الأستاذ يتقاضى فلوساً من تحت الطاولة ونصدّق نحن حكايانا ولا نجرؤ على نشرها..أو..أو..ونحلف كاذبين أننا شاهدْنا وسمِعْنا..ومع ذلك نحن -الشرفاء - سنعتمد على عرَقِنا في التحصيل..مع أنّ عرَقَنا كريه الرائحة كان غير قابل للتحليل في مختبر ذلك الأستاذ !

والآن ومذ انتدبوني لإعطاء بعض الدروس لطلبة الطبِّ الحاليين..آليت على نفسي إلا أن أكون عكس معلّمنا القديم..ذاك المراهق الهرم الأصلع البدين..وشهادته العلمية وموقعه التعليمي لم يكونا ليشفعان له تمييزه بيننا حسب الشحنات المغناطيسية التي تجذبه وتثيره أو تؤثر به
 كلكم سواء أيها الطلبة ولا فضل لعربيٍّ على أعجمي منكم إلا بما تكتبون في الامتحان.
هكذا قلت لهم في مستهلّ درسي الأول.

وأشير بسبّابتي كما كان يفعل أستاذنا المرحوم، ولكني أقول ما كنت أشتهي أن يقول يومها..
 أنتِ..أنتِ يا من أتيتنا بحلّة وسحنة وكأننا في مرقصٍ للهو..والرداء الأبيض لا أريد أن يبِينَ شيئاً من فرجة ياقته..أرجو الجدّية والالتزام وكأننا في مدرسة عسكريّة !

وأنت أيها الطالب ابقَ خارجاً ما دمت قد أتيت متأخّراً..ولم تحترمْ حرمة درسنا.

وأعطيتُ دروساً فائقة التحضير، وبقيتُ في الدرس زمناً أطول من المقرّر.. ولا أتذكّر إلا ذلك الأستاذ المخضرم الذي كان يمرّ بسطحيّة فوق المقرر..ووضعت علامات حقيقية للطلاب..وكانت النتائج مقذعة عموماً..

وفي اليوم التالي كنت مستعدّاً لمقدّمة من التقريع والتوبيخ بقصد الحثّ على التحسين.. ولكنهم استقبلوني بوريقة بأنني مطلوبٌ أولاً لمقابلة عميد الكلية..فرفع سبابته كما كان يفعل ذلك الأستاذ..وقال موجّهاً كلامه إليّ:

 أنت يا صديقي..أتينا بك لملء فراغٍ حصل بغياب زميلك المسافر إلى الخارج.. والمطلوب أن تكمِل خطته فقط وتسير على نهجه..أصلاً القسم الذي تدرّسه لا يشكّل إلا جزءاً يسيراً من المادة..وسقف العلامات المعطاة لك لا يتجاوز ثلث المادة أي أنك لن تنجّح ولن ترسّب أحداً ولن تحلّ ولن تربط مهما شددت اللجام..فلم تحاول الشطط في التكسير معتمداً سوء التدبير ؟..وما النتائج السيئة التي حصدناها إلا نتيجة لسوء البذار..انتبه لنفسك.

خرجتُ من عنده صغير الحجم محدودب الظهر كما كنت دائماً أمام أستاذي القديم.. أستاذي المغفور له وكم كان يغفر للبعض زلاتهم ناسياً المواظبين على الصلاة في مادته.

وواجهت الطلاب يومها مبتسماً للمرة الأولى..وغفرت لهم أخطاءهم جميعها بلا شفاعة من أحد ولا كفّارة..ولا حتى قربان أو أضحية ذبحوها على أعتابي..

قلت لهم في مقدّمة أحد الدروس اللاحقة:

 أصدقائي وزملائي أطبّاء المستقبل..المادة التي سأعطيها اليوم غير مهمّة.. وستتكرر معكم في السنوات اللاحقة..وستحفظونها بطريقة التكرار..وقد تصبح قديمة عندما تتخرّجون لأنّ الطب يتطور بسرعة كما تعلمون..حضوركم عندي كغيابكم لأني أظنّ أنّ من غاب لديه مواعيد مهمة وأشغال منعته عن الدوام في الجامعة بلا شك.. على كلٍّ، مكتبي مفتوحٌ لمن يحتاج جواباً على سؤال مستعصٍ أو نقطة يريد الاستزادة فيها.

وكان الابتسامات عريضة وعموميّة..ولكني لم أشعر بالكيمياء التفاعلية معي وكأنهم لا يبتسمون لي..كغرباء يبتسمون لك وتعجب لابتسامتهم فتنظر خلفك لتكتشف أنهم يبتسمون لشخصٍ وراء ظهرك!

وانتظرتُ أن تقرع الباب إحداهنّ من ذوات الابتسامات التي كنت أحقد عليها..والله سأتغزّل بها كأيّ مراهق ولو كانت بعمر ابنتي.. أو أحدهم على الأقل ليحكي لي عن أبيه ذي الجاه والسلطان..عندها سأسهب في شرح ما مررت فوقه مروراً..ولم يحصلْ.

وتركتُ باب مكتبي مفتوحاً..ولم يدخله أحد إلا من كانت تحضر ليَ القهوة.

وبقي الهامش المُعطى لي لا يتجاوز الثلث من المادة..وكنت أتمنى أن تحدث تفاعلات كيميائية بيني وبين الطلبة أو ذويهم عساني أرتقي في سلالم التدريس الجامعي ودرجاته،أو على الأقلّ أشعر بسخونة المقعد الذي تربّعت عليه فينتفض نابضٌ من تحتي يرمي بي إلى أعلى..وحتى العميد ما عاد تفاعل معي بملاحظاته.

إنه خطُّ السواء البيانيّ المبنيّ على السكون في مقياس الفولتاج إذ لا كهرباء تحرّك إبرته !
وكنت أبرّر لنفسي بأنّ بعض المعادن محميّة من التفاعلات الكيميائية والتأكسدات والتحللات والتآكلات فلا تصدأ وحتى النار لا تقوى عليها..وقد يسمّونها خاملة كالذهب..ورفعت رأسي أثناءها متفاخراً إذ شبّهت نفسي بسيّد المعادن العصيّ على التفاعلات الكيميائية، وملأت صدري بالهواء مستنشقاً ورأيت نفسي كالطاووس منتفخاً، وترفّعت بلا ترقية كطائر يفرد جناحيه في العلياء متهادياً في تحليقه.

ونظرت من علياء نفسي إلى أسفل فلم أجد أدنى من ناظري إلا سطح مكتبي المليء بالأوراق غير المنضّدة..مكتوبٌ عليها الكثير من الكيمياء السريريّة والمرضيّة والحيويّة وظهر الأوراق فارغٌ بارد لأن التفاعلات لم تحصل عملياً في تلك الأوراق ولم تسخّنها.

ويصلح قفا تلك الأوراق ليكون مسوّدة لرسوم وخربشات متداخلة كالمتاهة ولا حلّ لها.. ويصلح لكتاباتٍ ذاتيّة وخواطرَ لن يقرأها أحد..وقد تأتي عاملة القهوة لتجمعها بجرّة يد من على سطح المكتب عندما ترتّبه مرّة في الأسبوع..وتسألني بطرف عينها قبل أن ترميها في سلة المهملات..فأومئ لها أن نعم أتلفيها..

لا تكن قاسياً فتُكسر ولا ليناً فتعصر..هذه هي المعادلة التفاعليّة التي تعلّمتُها –أنا المدرّس - كتبتها مراراً على قفا محاضراتي الفارغة بكل أنواع الخطوط الديوانية والرقعية والثلثية وحتى الكيميائية !.. فوضعت زوائد بين الكلمات كأي تفاعل وأفضى السهم الناتج إلى رواسب وأبخرة كريهة الرائحة لأنّ التفاعل لم يحصل كما يجب.

أنا الآن في مكتبي في كلية الطب..وأكتب على قفا أوراقي شعراً محفوظاً من زوايا الذاكرة..وسيفي كان في الهيجا طبيباً يداوي رأس من يشكو الصداعا..أو أجترح سطوراً فوضويّة قد يسمّونها قصصاً قصيرة !.

ملاحظة:

تعرّفت مؤخراً على أستاذ اللغة العربية في كلية الطب..ويشعر بالغبن لأن مادته هامشية ولا يشعر بتفاعل الطلاب معه وبأن مادته لا محلّ لها من الإعراب..ليست كمادتي السريرية التي سمع أنهم يتفاعلون معها كيميائياً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى