الاثنين ٢٩ آب (أغسطس) ٢٠١٦
علي الوردي: (73)
بقلم حسين سرمك حسن

تهمة الشعوبية والتشكيك في اصله العربي

تهمة "الشعوبيّة" وهجمة وعّاظ السلاطين

وترتبط بهذه التهمة، تهمةٌ خطيرة أخرى هي: " الشعوبية " التي تصاعد إيقاعها عندما تكرّرت دعوات الوردي إلى ضرورة مراجعة التاريخ العربي في عصره الزاهر، والمشكلة أن الوردي اختار شخصية الخليفة الذي يعد من يمسّه "شعوبيا" بصورة مؤكدة، ألا وهو الخليفة "هارون الرشيد" الذي كان عصره يعتبر أكثر العصور العربية ازدهارا وبهاء، فهو الذي كان يخاطب الغيمة متأكدا أن "خراجها" سيكون له أينما حلّت أو هطلت. لكن الوردي يرى غير هذا الرأي التقليدي الشائع بين الناس كلهم صغارا وكبارا. فهو يراه سلطانا كغيره من السلاطين المُترفين الذين يتلاعبون بثروات الأمة ومقدراتها كيفما شاءوا.

في حقيقة الأمر، أن الوردي قد فجّر قنبلة في المجتمع حين جهر برأيه السلبي في الرشيد ولقّبه بـ " المتلذّذ بأمر الله ". يقول الوردي:

(خذ على سبيل المثال حكاية المتلذذ بأمر الله، هارون الرشيد. فلقد كان هذا المترف مؤمنا شديد الإيمان إذ لا يكاد الواعظ يعظه حتى تراه أخذ يبكي إلى أن يغمى عليه. إن ظروفه الهيّنة اللينة وآلاف الجواري اللواتي يهززن البطون بين يديه لابد أن تجعله مؤمنا بالله تقيا نقيا ) (507).

وهو يعتبر الجلاوزة القائمين على الحكم في عهده لا يختلفون عن الرشيد بشيء. فهم يؤمنون بالديمقراطية ويذرفون الدمع السخين هياما بها وشفقة عليها. وتتصاعد حدة نبرة الوردي الغاضبة إلى درجة شديدة الإدانة حين يقول:
(ويبدو أن جلاوزتنا يريدون أن يعيدوا مجد الرشيد بقضه وقضيضه والعياذ بالله. فهم قد أطلقوا اسمه على كل ما كبر في نظرهم فصار لدينا من جراء ذلك: شارع الرشيد وعاصمة الرشيد ومعسكر الرشيد... إن الأمة التي تنجب رجالا من طراز محمد وأبي بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز لا يجوز لها أن تقدّس مثل هذا الرجل الذي ازدوجت شخصيته وانشق ضميره. نحن لا نريد دينا يأتي به رجل من طراز هارون الرشيد، إننا نريد دينا يأتي به رجل مثل محمد بن عبد الله إذ يقول: "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني مع المساكين " أو رجل مثل علي بن أبي طالب إذ ينصح أحد ولاته قائلا: " وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء: العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم.. والسلام ".. ) (508).

ومن جديد تتصاعد نبرة الوردي الثورية الداعية إلى الصحوة وكسر قيود الطغيان والاضطهاد، الداعية إلى مشروعه الثوري التحرّري الشعبي. وهي دعوة تظهر قصديتها الصارخة من خلال أنها تبدو مقحمة في كتاب "علمي" موضوعته المركزية هو محدودية قدرات العقل البشري وكونه محكوم بـ " حتمية " لاشعورية – ولا أعلم هل قرأ الوردي "فرويد" جيدا لكن ما يطرحه يثبت أنه قرأه جيدا، لأن هذه من أعظم مكتشفات معلم فيينا، عن هذه الطريق يكون الوردي أول من أدخل هذا المفهوم الخطير "الحتمية اللاشعورية" في الثقافة العراقية والعربية، وهذا المفهوم لو كُتب له أن يُفهم بصورة دقيقة وصحيحة فإنه كان من الممكن أن تكون له انعكاساته الهائلة في جوانب الحياة الاجتماعية العربية كلها، وخصوصا في الجوانب السياسية والدينية والثقافية، ولكان جنّب الأمة العربية الكثير من الخسائر الجسيمة. أقول: إن هذه القصدية تثبت أن الوردي هو من نمط المفكرين الثوّار، لا يفوّت الوردي أية فرصة، مهما كانت مصطنعة، في إعلان دعوته الثورية الجذرية حتى لو كانت نتيجة منفصلة عن السياق، نتيجة سياسية "حماسية" نصل إليها بعد مسار علمي تحليلي طويل.

يقول الوردي في صيحة خطابية ثورية حماسية تصلح كبيان انقلابي لكنها متزاوجة مع الدعوة التثويرية لتغيير بنى العقلية العربية الدينية والشعرية - وستلاحظ في نبرة هذا الخطاب صدق وصف المستشرق والمفكر الفرنسي "جاك بيرك" في أن الوردي هو " فولتير " العراق -:

(آن للساكتين أن يتكلموا فقد حان وقت الكلام. وأود أن أختم هذا الكتاب بما ختمت به كتاب "وعاظ السلاطين" من قبل، هو أن زمان السلاطين قد ولّى وحلّ محله زمان الشعوب. وقد آن الأوان لكي نُحدث إنقلابا في أسلوب تفكيرنا. فليس من الجدير بنا، ونحن نعيش في القرن العشرين، أن نفكّر على نمط ما يفكر فيه أسلافنا في القرون المظلمة ) (509).

إن هذه التفاؤلية التي تبشّر بالتطور المقبل وبحتمية التغيير الكاسح الذي لن يستطيع أحد إيقاف عجلته هي من السمات الجديدة في مشروع الوردي الثقافي الذي يواصل صيحته - إنذاره فيقول:

(إن الزمان الجديد يقدّم إنذارا. وعلينا أن نصغي إلى إنذاره قبل فوات الأوان، إنه زاحف علينا بهديره الذي يصم الآذان، وليس من المجدي أن نكون إزاءه كالنعامة التي تخفي رأسها في التراب حين تشاهد الصياد. فهي لا تراه وتحسب أنه لا يراها أيضا. إن الجيل الجديد مقبل على دراسة الافكار الحديثة. وقد أصبح ذهنه مشبعا بما فيها من منطق واقعي. وهو لذلك لا يستسيغ هاتيك الأفكار "العاجية" التي أكل الدهر عليها وشرب. إنه يطلب من رجال الدين أن يأتوا له بآراء تماشي الزمان لكي يحترمهم ويصغي لأقوالهم، وإلا فهو لا بد أن يسخر بهم ويتركهم وراءه. الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام. والذي يريد أن يبقى على آرائه العتيقة هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد.. يقول حكيم الإسلام علي ابن ابي طالب:
" لا تعلّموا أبناءكم على عاداتكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ". أما آن لنا أن نصغي، إلى هذا النداء الذي يأتينا من وراء القرون !!) (510).

التشكيك في انتمائه العربي

ومن التهم الشنيعة التي وُجهت للوردي هو التشكيك في منحدره العروبي الأصيل وفي انتمائه إلى أمته العربية. هذه التهمة الشنيعة والسخيفة أشار إليها الدكتور محمد حسين الأعرجي في كتابه السابق: " في الأدب وما إليه " ونقلها عنه الدكتور عبد الأمير الورد في مقدمته لكتاب " من وحي الثمانين ":

(ونال عليّاً من ذاك ما قاله أحد الكتبة من أساتذة إحدى الجامعات العراقية – فيا بؤس الجامعات العراقية إذن- وهو من القوميين العروبيين:

(وحسب اعتقادي ينتمي الوردي إلى جيل طازج من المهاجرين الفرس إلى العراق )

بكل بساطة يشجب هذا الشخص " الأستاذ " على تأريخ علّامة جهبذ يعتز به الشعب العراقي، ويمسخ بأكاذيبه وعدوانيته منحدر الوردي الكريم الذي هو كما يقول الورد الحلقة الخامسة والثلاثون في سلسلة النسب العلوي الذي يمثله الإمام علي بن أبي طالب سلام الله تعالى عليه الحلقة الأولى فيه، وهي السلسلة التي صادق عليها وضرب بها الأمثال علماء الأنساب في العراق، وصادق عليها علماء الأنساب في المغرب عندما مضى بها الدكتور بهاء بن عبد الجليل بن عبد الحسين بن باقر بن عبد الحسين بن هاشم أبي الورد وعُد بها من فئة الأشراف ).

ومن الملاحظات الخطيرة التي يطرحها الورد في ردّه على هذا " الأستاذ " الكاذب هو أن أسرة الوردي بقيت عراقية متماسكة بعراقيتها وانتسابها إلى بلدها. ففي أواخر العهد العثماني صارت الأسر العريقة تنقذ أبناءها من الخدمة في الجيش العثماني بأن تمضي إلى السفارة الفارسية فتمنحها الجنسية الفارسية وبذلك لا يُجنّد أبناؤها. ولكن جد علي الوردي " السيد محسن " رفض ذلك وقال: (نحن أبناء هذا البلد ويجري علينا ما يجري على أبنائه من خير وشر ). ويصل ظفر الورد الذروة في ردّه على هذا الدعيّ عندما يقول:

(أذكّر هذا العربي، بل دعيّ العروبة، باستعماله كلمة (طازج ) وهي فارسيّة، أصلها (تازه ) وعربيّها (طري ). وأذكّره، أيضا، إن لم يفقد الذاكرة، بعدُ، بالاستعلامات التي كانت توزّع على منتسبي الدولة من قبل الدوائر العربية المختلفة - حزبية وغير حزبية - وفيها استفسار عن الموظف أو المنتمي وأسرته حتى الدرجة الخامسة وما فوقها من القرابة وعن أزواج نساء إخوته وآبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم،... وفيها التعبيران العاميان جدا الآتيان وهما: (العمام ) ويعني: الأعمام بالفصيحة. (الخوال ) ويعني: الأخوال بالفصيحة !!

فهل كان كاتب هذين التعبيرين من جيل طري من العرب؟ أم من المهاجرين الفرس؟
لا هذا ولا ذاك.. إنهم من جيل أدعياء يبرأ منهم العرب والفرس ) (511).

تهمة العمالة لجهات أجنبية !!

لكن هناك أيضا تهم العمالة المباشرة لجهات أجنبية. يقول الوردي للمطبعي:
(لم أنل أي وسام أو جائزة من أي مصدر كان.. سوى مرّة واحدة، وذلك عندما منحني حاكم ولاية تكساس شهادة مواطن شرف على إثر نيلي شهادة الدكتوراه في جامعة تكساس، وهذه الشهادة لم تنفعني شيئا، وربما أخزتني وشوهت سمعتي، لأن بعض الناس وفي ذلك الزمان صاروا يتهمونني بأنني من عملاء الاستعمار والعياذ بالله ) (512).

ويذكر الدكتور عبد الأمير الورد وهو ابن عمّة الوردي أيضا أن صدور كتاب الوردي: " شخصية الفرد العراقي " قد سبّب هجمة من النقاد اتهمته فيها بالعمالة لأمريكا لأنه اتهم فيه الفرد العراقي بازدواج الشخصية. ويشير أيضا إلى تهمة صلة الوردي بالسفارة البريطانية فيقول:

(إن هناك سؤالا لابد من طرحه في دراسة علي الوردي، فكتابه (خوارق اللاشعور) ظهر في الأيام التي كانت فيها البلاد تغلي في مقدمة انتفاضة تشرين. وكتابه الآخر الذي أثار ضجة كبرى لتناوله قضية الإمام علي - أي "وعاظ السلاطين" ولاحظ أن الوردي هو الذي اجترح هذا المصطلح الذي شاع بعدها في الثقافة العربية - وثارت الناس لكلامه هذا وضجيج الانتخابات يملأ الساحة، ووقف حكماّ بينه وبين مهاجمه صبري الزبيدي الذي كان يخوض الانتخابات أيضا لنفسه، الشيخ محمد الخالصي والحاج عبد الهادي الچلبي الذي كان يخوض ابنه الانتخابات مرشحا للحكومة. لذلك كان الناس يتّهمون عليّا بأن له علاقة وثقى بالدولة والسفارة البريطانية لتوقيته لظهور كتبه في أيام الأزمات السياسية التي تمر بها البلاد. ولم تتكرر هذه الظاهرة، وماتت الشائعات معها أيضا ) (513).

تهمة "الشيوعيّة"

أمّا بالنسبة إلى تهمة " الشيوعية " فأعتقد أنها ترتبط وتؤكد انحياز الوردي للجماهير الفقيرة المسحوقة ولا تعبّر عن الواقع السياسي الفعلي (الحزبي ) له، فهو رافض للماركسية، وقد رفض الإنتماء للحزب الشيوعي عندما عُرض عليه هذا الأمر. يقول الوردي:

(إنني نشأت في جيل كانت النظرة الطبقية القديمة هي المنتشرة بين الناس.. والواقع أني شعرت بالنفور من هذه النظرة منذ بداية حياتي الفكرية، فقد عانيت في صباي وبداية شبابي كثيرا من الحرمان والفاقة، وأصبحت أتطلع إلى نظام خير من النظام العتيق الذي كنا نعيش فيه، وقد أتيح لي أن أقرأ سيرة أبي ذر الغفاري، وهو الصحابي الثائر الذي دعا إلى نوع من الاشتراكية وشعرت أن الاشتراكية تنسجم مع أعماقي النفسية.. وهذا هو الذي دعاني في عام 1943، إلى كتابة مسرحية عن أبي ذر.. وقد قدّمتُ هذه المسرحية إلى إحدى الفرق التمثيلية في حينها، فرفضتها الفرقة لأنها وجدت فيها اشتراكية غير مستساغة.."(514).

لكن رغم انحياز الوردي إلى الفكر الإشتراكي إلّا أنه كان يرفض الإنتماء إلى أي حزب يمثلها:

(إنه في عام 1933 اتصل بي أحد الأصدقاء وحرّضني على الإنتماء إلى حزب جديد كان على وشك التأسيس فرفضت رفضا باتا. فإني وإن كنت أميل إلى الإشتراكية غير أني لا أميل إلى الإشتراكية المتطرفة التي كان ذلك الحزب يدعو إليها.. ولأسباب ذكرتها فيما بعد في القسم الثاني من الجزء الخامس من كتاب " لمحات اجتماعية.. " الذي صدر في عام 1978 ) (515).

ويرى الوردي أن التطور العلمي الذي حصل خلال المئة عام التي تلت وفاة كارل ماركس قد شهدت تطورا مذهلا جعل معظم ما جاء به ماركس عتيقا عفا عليه الزمن. كما أشار إلى محاولات "لينين" في تطوير الماركسية خصوصا في كتابه: "مرض الطفولية اليساري عند الشيوعيين"، وبرمه من الشيوعيين النصوصيين الذين كانوا يلتزمون بالتعاليم الماركسية حرفيا. والأخطر هو أن الوردي يرى أن المجازر الغوغائية الفظيعة التي حصلت في العراق في عامي 1958و1959 كانت نتيجة متوقعة لالتزام الشيوعيين العراقيين الحرفي بالماركسية:

(وأنا واثق- كما يقول الوردي- أن لينين لو بُعث حيّا في العراق في ذلك الوقت لأعاد طبع كتابه "مرض الطفولية اليساري عند الشيوعيين".. ومن الجدير بالذكر أن إحدى الصحف السوفياتية كتبت في عام 1959مقالا ذكرت فيه أن ثلاثة أحزاب شيوعية مصابة بمرض الطفولة اليساري هي:

الحزب الشيوعي العراقي
الحزب الشيوعي الأندونيسي.
الحزب الشيوعي في (كيرالا ) في الهند ) (516).

تهمة الإنتقاص من ثورة العشرين والردّ على المستعرب الروسي "كوتلوف"

والقسم الثاني من الجزء الخامس من كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الذي أشار إليه الوردي يحتل موقعا مهما في رياديّة الوردي في مناقشة النظرية الماركسية والذي كان مدخله فيها مزدوجا تمثّل أولا في الرد على وجهة نظر المُستعرب الروسي "كوتلوف" في الرسالة التي قدمها عن ثورة العشرين لنيل شهادة الدكتوراه. فهذه الرسالة - الأطروحة قرّر المجلس العلمي لمعهد شعوب آسيا التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية طبعها " لكونها غنية في محتواها، عميقة في تحليلاتها واستنتاجاتها العلمية "، وقد وصفها الدكتور "كمال مظهر" بأنها " نموذج حي لأسلوب البحث العلمي الحديث الذي نحن بأمس الحاجة إليه لتقييم تأريخنا على ضوئه". كما وصفها مترجمها الدكتور عبد الواحد كرم بأنها تمتاز عن كل المؤلفات الأخرى التي كتبت عن ثورة العشرين بكونها تتضمن تحليلا علميا للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مهدت للثورة، وأنه اعتمد أسلوبا جديدا في البحث يضع الجماهير التي هي خالقة التاريخ في المكان الأول من الحوادث.. بالرغم من أن قيادة الثورة كانت مؤلّفة من شيوخ العشائر ورجال الدين والبرجوازية الوطنية.

لكن الوردي ينبري لهذه الآراء ليقول بجرأة:

(يؤسفني أني لا أستطيع أن أوافق هؤلاء الكتاب على رأيهم في كتاب كوتلوف. وأعترف أني حين قرأت الكتاب شعرت كأنه يتحدّث عن ثورة غير الثورة التي عرفناها وأدركناها رجالا، وعن بلاد غير البلاد التي نعيش فيها. ويبدو أن كوتلوف حاول أن يصب ثورة العشرين في القوالب التي يحملها في ذهنه بغض النظر عما جرى في الثورة من وقائع مشهودة ) (517).
ويكفينا أن نذكر بعض أراء الوردي النقديّة التي فنّد بها آراء كوتلوف لنتعرّف على النظرة التحليلية الثاقبة التي يحملها الوردي ووفّرتها له معرفته التفصيلية بالحياة الاجتماعية للشعب العراقي. يرى كوتلوف أن ثورة العشرين هي من صنع الجماهير الثائرة من أفراد العشائر، وأن القيادة الفعلية للثورة كانت في الغالب من الفلاحين وقد تولاها عنهم شيوخ العشائر ورجال الدين. فيسأله الوردي:

(كيف يمكن أن تكون الثورة من صنع الفلاحين بينما تكون قيادتها في أيدي الشيوخ ورجال الدين ؟ فالمفروض في الفلاحين أن تكون ثورتهم ضد الشيوخ المستغلين لهم، وليس من المعقول أن يكون المُستغِلون هم أنفسهم قادة الثورة ؟

يصف كوتلوف شيوخ "بني حچيم" بالإنهزامية والانتهازية وهم كانوا أشد القادة صمودا في ثورة العشرين، ولم يلقوا سلاحهم إلّا بعدما حصلوا من الإنكليز على اعتراف باستقلال البلاد. فإذا كان هؤلاء انهزاميين انتهازيين - يتساءل الوردي - فمن هم الذين كانوا ثابتين مخلصين يا ترى !! ) (518).

ثم يقدّم لنا الوردي أدلة قاطعة على التشويه والتحريف والتزوير الذي قام به كوتلوف للحوادث التاريخية وللمعلومات التي يقتبسها من الكتب التي أُلّفت عن ثورة العشرين وبعضها من قبل أبطالها ومن خاضوا غمارها أنفسهم، فمن نصدّق ؟.
يقول الوردي:

(المُلاحظ بوجه عام أن كوتلوف يحاول التشبث بأية قرينة أو دليل مهما كان واهيا من أجل إثبات رأيه، وهو لذلك يتورّط في أخطاء مفضوحة كان في غنى عنها. فهو مثلا عندما يتطرّق إلى أحوال العراق في العهد التركي يقول: " كان رؤساء القبائل، أمثال السويدي والهاشمي وجميل زاده وغيرهم ممن يقطنون بغداد وبعض المدن الأخرى، يستحوذون على مساحات شاسعة من الأراضي ". فيعلّق الوردي على ذلك بالقول:

(إن هذا كلام قد يعبر على القرّاء من غير بلادنا، ولكن القرّاء العراقيين يعرفون كل المعرفة أن السويدي والهاشمي وجميل زاده لم يكونوا من رؤساء العشائر، كما يعرفون أن السويدي لم يكن من أصحاب الأراضي، وأن الهاشمي لم يكن يملك أي أرض في العهد التركي، وقد حاول أن يكون من أصحاب الأراضي في العهد الملكي ولكنه أخفق ) (519).

وضمن محاولات كوتلوف في ليّ عنق الحقيقة وتقطيع أوصالها على طريقة قاطع الطريق اليوناني الذي ذكرته الأساطير القديمة والذي كان يضع ضحاياه على سرير حديدي ويقطع أطرافهم أو يشدّها ليكون طولهم مساوياً لطول السرير، نجده يقول إن الإنكليز شكّلوا الجندرمة المحلّية (الشبانة ) وانخرط فيها أبناء شيوخ العشائر وأقرباؤهم لكبت الجماهير الشعبية، فيرد عليه الوردي وهو ابن هذا المجتمع بالقول:

(إننا أدركنا عهد الشبانة، وشاهدنا الكثيرين منهم. وكل ما نعرفه عنهم أنهم كانوا من أوطأ طبقات المجتمع، في الريف أو المدن. فقد كان سلك الشبانة محتقرا في نظر الناس ولم ينخرط فيه إلّا أولئك الذين لم يجدوا عملا أفضل منه. أمّا أبناء الشيوخ أو أقرباؤهم فكانوا يستنكفون من الإنخراط في هذا السلك... كما أن معظم أفراد الشبانة لم يثبتوا في القتال عندما امتدت الثورة إلى مناطقهم ) (520).

وهكذا يواصل الوردي تفنيد وجهة نظر كوتلوف التي كان مقتلها كما يرى الوردي هو أنها حاولت إقحام معطيات الثورة في افتراض مسبق مصنوع حسب القناعات الماركسية وهو أن العراق بأكمله كان يعيش في العهد التركي في ظل نظام الإقطاع واعتمد على أقوال السيّاح الأجانب في زياراتهم للعراق:

(ونحن- كما يقول الوردي- لسنا في حاجة لأن ندرس هذه العشائر استنادا على أقوال سياح زاروا بلادنا زيارة عابرة ونظروا في أحوالها الاجتماعية من خلال مفاهيمهم ومعاييرهم الثقافية ) (521 ).

والافتراض المقابل الذي وضعه الوردي هو أن العراق كان يعيش في ظل " نظام عشائري " وأن العوامل الدافعة على الثورة غير التي يتصوّرها كوتلوف، والتي لخّصها الوردي بالفرق بين النظام البريطاني الجديد والنظام التركي السابق، والتضخم النقدي، ورعونة بعض الحكام الإنگليز، وتعاون الملّائية والأفندية، السياسة العشائرية البريطانية، الوعود البريطانية، الدعاية من الخارج (السورية والبلشفية والتركية والإيرانية )، المرجعية الدينية ممثلة بالشيرازي بعد وفاة اليزدي... إلخ - ولمزيد من التفصيل راجع الجزء الخامس من موسوعة الوردي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث -.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى