الأربعاء ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٧
بقلم أمينة شرادي

تيه بين الحضارة والتوحش

صمت رهيب استوطن الشارع الرئيسي الذي يؤدي الى المدينة العامرة. كل الاتجاهات مظلمة تنبعث منها روائح اللحوم البشرية التي تاهت بين الجبال الوعرة المتوحشة الخالية من كل نبراس ومن كل نجوم تضيء طريق المسافر الوحيد. في لحظة، اندفعت حافلة من العدم لا ندري مصدرها ولا هويتها. توقفت برهة بين الخط الفاصل بين الليل الحالك وضوء النهار الذي بدأ ينتشر بكل هدوء لكن ببطء. عم النور كل ركن من أركان المدينة، تهللت أسارير بعض المارة الذين كانوا بين الخط الفاصل وكانوا ينتظرون بزوغ الضوء حتى يتحركون ويقضون حوائجهم. لأنه مر زمن لم تفرح أعينهم بهذا النور الذي تلاشت أضواءه في الأفق. هرج ومرج كأنهم عادوا من سفر بعيد ينتمي الى القرون الوسطى. توقفت الحافلة، ابتلعت كل من كان في انتظارها كأنهم خائفين من عودة الظلام في أقرب وقت. تصافحوا وتحدثوا وابتسموا وضحكوا...وعادت الحياة الى مجاريها أو على ما يبدو. لم يصدقوا تلك اللحظة النادرة الصافية المنفلتة من براثين الظلام الدامس. وهم سكارى بنشوة تلك الحظة، انزوى الصمت في ركن من أركان الحافلة في غفلة منهم. يراقبهم عن بعد وكله ثقة من عودة خفافيش الظلام. كل يحكي عن حاله وليله ونهاره. لباسهم جد متحضر. هواتف ذكية في الأيدي. حقائب يد ملونة واخر موضة. ساعات تبرق عن بعد كأنها منار تنير طريق البواخر في أعالي البحار. مفاتيح سيارات تتحرك بين اليدين وتحدث ضجيج التوفق المالي والامتياز الاجتماعي. الحافلة تسير والكل يتباهى بحريته وحضارته وانتماءه. تتوقف الحافلة، الشمس في كبد السماء، تصعد فتاة بابتسامة رقيقة ولباس جميل ومتحضر ينتمي لسكان الحافلة. تبحث عن مكان وتستريح وتنام بين أحضانهم. كيف لا وهي ابنة الأرض الطيبة ذات الحضارة العريقة. تسرع الحافلة خوفا من هبوط الظلام وخروج الوحوش البرية التي تتغذى على اللحوم البشرية تحت جنح الظلام. عاد الصمت من جديد، نظرات غير طبيعية بين سكان الحافلة. ماذا حدث؟ عيون تغير لونها الى اللون الأحمر الفاقع، نبتت لهم أنياب فجأة تتأهب للانقضاض. علت أصواتهم، يتهامسون، يتحرشون والفتاة نائمة كالرضيع بين أحضان أمه. لأنها قبل مجيئ الأمر بحضر التجول بالليل خوفا من هجوم بربري و تحول حياة المدينة الى انذار في انذار، كانت تعيش بسلام بين أحضان أسرتها و حكايات جيرانها عن حضارة أجدادها و جداتها، حضارة حكمت فيها المرأة، كانت شاعرة، كانت محاربة، كانت مقاومة ..يعني هي سليلة الفاتحات و الشاعرات و العالمات...كل هذا أعطاها قوة و افتخار بالنفس لانتمائها الى بلد متحضرو جميل و الخروج بكل حرية. لكن، في يوم من الأيام، نام الجميع وطال نومهم حتى تفشى فيروس التوحش بين خلايا عقولهم وأرواحهم. ولوث ماضيهم الصافي وجعلهم يظنون بأنهم ينتمون الى صنف مصاصي الدماء الذين يرفضون الاختلاف. الحافلة تسرع والتحول الداخلي مستمر، بدرة التوحش نبتت بين ضلوعهم ونامت تنتظر اليوم الذي تعلن فيه الحرب على كل الأنوار التي تتلألأ في المدينة. نامت الفتاة، وهي لا تدرك عمق التحول الذي غزى عقولهم وأرواحهم وأجسادهم واستحالوا أجسادا ميتة تسكنها أرواح شريرة تنام بالنهار وتستيقظ بالليل بمباركة مجتمعية.

اقتربوا أكثر من رائحتها البريئة وابتسامتها الطفولية. رفضوا الابتسامة و رفضوا الفرح و رفضوا ملامح وجهها و رفضوا لباسها ..كانت منبوذة وحوكمت و نفذ فيها حكم الإعدام و هي نائمة. تخطت الحافلة كل المحطات، صراخ وعويل داخل الحافلة. احتفال على طريقة الذئاب البرية...وكان الصمت في أبهى حلله في تلك اللحظة. لقد انتصر عليهم وهو القائم بالشرع والقانون. لقد انتصر على بصيص النور الذي كان كالنبراس يحمل بين يديه حبا وابتسامة وضحكا ولعبا. مرق من أمام الفتاة وهي تمزق بين نور ثاقب وليل دامس، حكايات الشاعرات والعالمات والمقاومات والحاكمات...لم تعد تتذكر شيئا عنهن. هل فعلا هن موجودات؟ هل ركبن حافلة زمانهن؟ حاولت الاستنجاد بهن، مدت يدها اليهن. اختفين وراء السحب والغيوم. واستوطن الحافلة ظلام حالك كظلام القبور وصمت رهيب ثقيل على الروح. وظلت ساعة اليد تبرق. والحقيبة آخر موضة بأبهى الألوان والهاتف الذكي يرن من حين الى أخر. ومفاتيح السيارة تحدث ضجيج التفوق الاجتماعي.

توقفت الحافلة، اختفى الخط الفاصل بين النور والظلام. دفعت كل سكان الحافلة الى الخارج يمتطون دروب الظلام بكل فخر وجهالة. وبقيت الفتاة سليلة الشاعرات والعالمات والحاكمات.
جراحها وتكفكف دموعها وتبحث عن بصيص ضوء ينير اليها سبيلها ويعيدها الى أهلها الذين حكوا لها عن حضارة مرت من هنا. تساءلت الفتاة بصوت خافت: هل فعلا أنا ابنة أرض العلم والمعرفة؟ أم أنها حكايات جميلة وحدت من أجل أن ينام الصغار؟ رفعت الفتاة الشكاية الى حاكم المدينة العامرة قالوا لها للمدينة حاكم. تغنوا بعدله وحبه للخير وكرهه للظلم والظلام. انتظرت الرد. مرت ليالي طوال. جاء شتاء تلو شتاء. وصيف تلو صيف...والفتاة تنتظر الجواب.

بالماء والصابون، غسلوا آثار الأقدام البربرية. ومسحوا عرق الأيادي المرتجفة. وفتحوا النوافذ وانطلق في الفضاء صراخ وعويل الفتاة الذي كان مسجونا بين الكراسي والنوافذ. وخلقوا حافلة جديدة تنتظر ليل آخر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى