الجمعة ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم عبد المجيـد إبراهيـم قاسـم

جبران . . . سفـير الألم

" أيها الإنسان جئت إلى هذا العالم وحيداً، وستمضي وحيداً في الضباب، أشرب كأسك وحدك إذن، وإن كان لها طعم دمك
ودموعك، واحمد الحياة على نعمة الظمأ، فإن قلبك من غير ظمأ
ليس إلا شطاً لبحر قاحل، ولا نشيد فيه ولا جزر ولا مد" . [1]

حياته

لقد كان الأدباء على مرِّ العصور المنارات الأكثر إضاءة في تاريخ الأمم، كانوا ومازالوا سُفراءها إلى بقاع الأرض، ومن هنا فإن ذاكرة الأدب تفرد من تلقاء ذاتها مساحة فضفاضة لتلك القامة المديدة في روضها، صاحب المداد الطافح بالمحبّة . .

جبران خليل جبران . . . سفير الألم وفيلسوف الشّرق، واللون البهي في أسفار قوس قزح، صاحب الفلسفة الإنسانية التي أينعت في تربة الأحزان، الأديب الذي استطاع أن يبدع لذاته نهجاً متفرِّداً، غاية في السمو والرفعة ؛ ارتكز على مقومات راسخة هي " المعرفة، الصدق المحبة "، وأن يختار لكتاباته طريقاً كان الأقرب إلى القلوب .
لقد استطاعت كلماته المتدفقِّة من نبع الإنسانية المتأصلة في أعماقه أن تنفذ إلى أعماق الروح، وأن تجتاح معانيها العقول قبل الأفئدة .

ولد جبران في / 6 كانون الثاني سنة 1883 / في يوم عاصف من أيام الشتاء الجبلي القارس في بلدة / بشرّي / الغافية على سفح جبل الأرز في لبنان، والدته " كاملة رحمة " كانت تعمل في الخياطة، والده " خليل جبران "، " بطرس " أخاه غير الشقيق " ماريانا وسلطانة " شقيقتاه اللتان تصغرانه، تعلَّم مبادئ القراءة العربية والسريانية، والمبادئ الأولية للعلوم، وبعض التعاليم الدينية في مدرسة / الخوري سمعان / راهب القرية وهو ابن الخامسة . كان ملتصقاً كثيراً بأمه ؛ التي اكتشفت فيه فطرة الإبداع والميل إلى التأمل، وكانت تحبّه كثيراً، وتمنحه الحنان، تعلَّم منها الصبر والمقدرة على التحمّل، و أخذ عنها صفة التأمل بالوجود والإحساس بما حوله ؛ خلافاً لأبيه الذي لم يكن يبالي بأوضاع أسرته المدقعة الفقر . اضطرت ظروف العائلة الصعبة للسفر إلى بوسطن في أمريكا / بعد فرنسا / ثم أُرسل جبران ثانية ليتمَّ تعليمه في مدرسة الحكمة في لبنان، حيث بدأت ملامح النبوغ والذكاء تظهر عليه هناك، ثم عاد إلى بوسطن، لينهي دراسته الجامعية سنة / 1902 /، وكان قد تعلَّم الفرنسية فيها أيضاً، عُرف بالتفوق والاجتهاد خلالها ، لتزداد مدارات إبداعه بالاتساع، وتأخذ مواهبه بالنضوج والتبلور، وهو هناك في المغترب كان قلبه في لبنان، نشر العديد من قصائده آنذاك أفصح فيها عن الحنين إلى الوطن لبنان، وبعد عام من هذا التاريخ أي سنة / 1903 / ماتت أخته " سلطانه " ثم تَبعها أخوه " بطرس " بمرض السل، وبعد أشهر توقف قلب والدته عن الخفقان، وماتت بداء السرطان، قال جبران عندها : " لم تعد أمّي تتألم" هذه الحوادث المفجعة التي توالت عليه ولَّدت لديه براكين حزن، وفجّرت ينابيع حسرة، جعلته يعيش في حياته المرارة والألم، إلا أن فكرة الموت خلقت لديه روح المواجهة، وقوَّة التحدي، فأثرت الأحزان المستمرة نهر إبداعه، وخصَّبت الفواجع المتلاحقة روض كتاباته، واستطاع أن يحوِّل الحزن إبداعاً، وأن يصوغ المأساة لوحات تحكي عن الفرح
يقول جبران في كتابه النبي : " كلّما أعمل وحش الحزن أنيابه في أجسادكم، تضاعف الفرح في قلوبكم " .

 " آلامكم هي الجرعة الشديدة المرارة التي بواسطتها يُشفي الطبيب الساهر في أعماقكم أسقام نفوسكم " .
 " إذا رغبتم بالحقيقة في أن تنظروا إلى روح الموت فافتحوا قلوبكم على مصارعها لنهار الحياة، لأن الحياة والموت واحد، كما أن النهر والبحر واحد " .
سافر إلى باريس عام / 1908 / لدراسة الرسم بعد أن اشتدَّ ولعه به .
وكانت لحكايته مع " سلمى شهيدة الحب " أثراً كبيراً في حياته، وكان سبب فشل حبّه العادات الاجتماعية التي تقدِّس المادّة، وتنأى عن الحياة الروحية .
( أعماله )
استقر جبران في بوسطن، وبدأ نتاجه الأدبي يتدفَّق، وكانت " الأجنحة المتكسِّرة " أول إصداراته، ثم " دمعة وابتسامة "، ثم " المواكب " و" العواصف " بالعربية .
تعرَّف على " مي زيادة " التي شجعته على الكتابة، وهي التي منحها جبران حق التصرّف برسومه، وظلَّ يبادلها الرسائل فترة طويلة دون أن يلتقيها، ثم جمعت تلك الرسائل في كتاب تحت عنوان " الوميض الأزرق " .

ثم أصدر باللغة الانجليزية كتبه : " المجنون " سنة / 1918 /، والذي استخدم فيه الرمزية والسخرية، و " السابق " سنة / 1920 / و " النبي " سنة / 1923 / - رائعة جبران التي تفيض بجمالية الصور، وبحلاوة الإيقاع في المنطق -، وقد وصل عدد النسخ التي بيعت منه إلى المليون، و " رمل وزبد " الذي استخدم فيه المثل، بما يعنيه من اختصار للفِكر سنة / 1926 / و " يسوع ابن الانسان " سنة / 1928 /، الذي ينظر فيه جبران للسيد المسيح على أنه إنسان . . إنسان بلغ أسمى مراتب الإنسانية، و " آلهة الأرض " سنة / 1931 / ثم صدر له " التائه " سنة / 1932 /، و" حديقة النبي " / 1933 / أي بعد وفاته، ودون ان يكمل " جنة النبي " الجزء الثاني من النبي، وفي النبي المؤلَّف من ستة وعشرون فصلاً يبوح خلالها بمجموعة من المواعظ في كلِّ ما يتصل بالإنسان من الولادة والحب، والحزن والفرح، والجريمة والعقاب، والصلاة والصداقة، إلى الحرية والموت، يقول في بعض فصوله :
 " الفرح والحزن توأمان لا ينفصلان، يأتيان معاً ويذهبان معاً، إذا جلس أحدهما منفرداً إلى مائدتكم، فلا يغربُ عن أذهانكم أن رفيقه يكون حينها مضجعاً على أسرتكم "
 " إنكم معلَّقون ككفتي الميزان بين ترحكم وفرحكم وأنتم بينهما متحركون أبداً، ولا تقف حركتكم إلا إذا كنتم فارغين في أعماقكم " .

 " المحبّة لا تعطي إلا نفسها ولا تأخذ إلا من نفسها ولا تملك شيئاً ولا تريد أن يملكها أحد، فالمحبَّة مكتفية بالمحبّة، ولكن إذا أحببت فلتكن هذه رغباتك، أن تذوب وتكون كجدول متدفِّق أن تنزف دماؤك وأنت راضٍ، أن تنهض عند الفجر فتؤدي واجب الشكــر ملتمساً يوم محبة آخر، أن تعود إلى منزلك عند المساء شاكراً فتنام حينئذ والصلاة لأجل من أحببت تتردّد في قلبك، وأنشودة الحمد مرتسمة على شفتيك " .
 " إذا رغب أحد منكم في أن يضع الفأس على أصل الشجرة باسم العدالة، فلينظر أولاً إلى أعماق جذورها، فسيجد أن الجذور الشريرة و الصالحة كلّها مشتبكة معاً في قلب الأرض الصامت " .

 " إن اجتمعت أيدينا في حلم ثانٍ، فهنالك سنبني برجاً آخر في السماء " .
اُنتخب رئيساً للرابطة القلمية التي أسسها في بيته عام / 1920 /، والتي ضمَّت كبار أدباء المهجر مثل "ميخائيل نعيمة" و "إيليا أبو ماضي" و "أمين الريحاني ".
كان جبران صاحب وجدانية قويّة، تجاوز بها أرض الواقع، باحثاً خلالها عن كلمات يهتدي بها الإنسان . استأثر الخيال بجزء كبير من كتاباته، إذ مزج فيها بين الإنسان والطبيعة إلى درجة التوحّد، وبرزت الطبيعة كعنصر أساسي في كتاباته ولوحاته، فطالما غنّت كلماته للصباح، وطالما فقدت دوحة روحه من أوراقها في المغيب، كان جبران يحاور الأزهار والطيور، يتألم لأنين الشجر، تهمي دموعه مع ترنيمة البلبل الأسير الطافحة بالزفرات، يقول في / النبي / :
 " كما تحلمُ الحبوب الهاجعة تحت الثلوج بالربيع، هكذا تحلم قلوبكم بربيعها " .
 " الطيور تغرِّد فتأخذ ألحانها بمجامع قلبي فتأسره، كما تأسر الزنبقة النحلة بين
وريقاتها " .
 " كيف أحوّل هذا البحر الذي في نفسي إلى ضباب كثيف، وأهيم وإياك في فضاء
اللانهاية " .
 " هكذا ظلت صفحة الورق البيضاء كالثلج نقية طاهرة ولكن . . . فارغة " .
ويقول في / حديقة النبي / :
 " عندما يأتي الربيع ليلتقي حبيبته في الكروم، ستذوب الثلوج في الحقيقة وتجري سواقي تنشد النهر في الوادي، وتحمل الكؤوس لسقيا أشجار ألآس وكذلك هو شأن الثلج في قلبك، فإنه سيذوب عندما يأتي ربيعك وكذلك يجري سرّك سواقيً تنشد نهر حياتك في الوادي، وسيلفُّ النهر سرِّك، ويحمله إلى الخضم الكبير " .
حارب جبران الإقطاع الديني والاجتماعي، ووقف ضد قوّة الظلم والتسلّط، كان يدعو إلى الروح المفعمة بالإيمان العميق والمليئة بالتسامح، وينبذ إيمان الطقوس، ويرفض استغلال الدين للناس، لأنه كان يعي جيداً دوره كمبدع، يشعر بآلام الإنسانية قبل أن يشعر بها الآخرون، وكان مشغولاً بهواجسها الأبدية .

كان يقول : " إن الدّين هو كلُّ ما نعمله، وما نفكِّر به "، ويقول أيضاً : " كلُّ من يعتقد أن العبادة نافذة يفتحها ثم يغلقها، فهو لم يبلغ بعد هيكل نفسه المفتوحة " ويقول في / حديقة النبي / : " إنكم تترنمون باسم الله السرمدي غير أنكم لا تسمعون النشيد الذي تترنمون به، هلا أصغيتم إلى أغاني العصافير، إلى أنين الأوراق التي تنتزعها الريح عن الأغصان حين تهب عليها، و لا تنسوا أن هذه الأوراق لا تغني إلا عندما تفارق الأغصان " .
" إنكم لا تنشدون الله إلا عندما تضيعون في ذاتكم الصغيرة، هلا جهدتم في أن تجدوا سُبل الرشاد في ذاتكم الكبرى " .

كان قريباً من الفلاحين والبسطاء، دافع عنهم، وكتب عن آلامهم وأفراحهم وطموحاتهم، وكان يرى أنّ الطمع مُشوِّه للفطرة الإنسانية الخيِّرة، ثار على المجتمع بعاداته القديمة وقيمه البالية، أراد بثورته تغيير الواقع الفاسد وتحوليه لجنة على الأرض .
أثناء إقامته في أمريكا أصرَّ على هويته الُّلبنانية، وقام بحملة جمع تبرعات لأجل لبنان عام / 1916 / وكان سكرتيراً للجنة / إنقاذ سورية وجبل لبنان /، كان يدعوا لاستقلال لبنان واعتماد الشعب على نفسه، بعيداً عن الأتراك والفرنسيين والأمريكيين . كان يقول : " الأرض لكم وأنتم الطريق، قدِّسوا الحرية حتى لا يحكمكم طغاة الأرض " .

 " ويلٌ لأمة تحسب المستبد بطلاً، وترى الفاتح رحيماً , ويلٌ لأمة لا ترفع صوتها إلا إذا مشت في جنازة ولا تفخرُ إلا بالخرائب، ولا تثور إلا وعنقها بين السيف والنطع , ويلٌ لأمة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنها من الترقيع والتقليد " / حديقة النبي / كتب جبران عن الحرية والمحبَّة والحياة، وعبَّر عن توق الإنسان لها، كما كتب في الشعر والنثر وفي القصة والخاطرة والرواية والنشيد والمثل .

غاص في أعماق النفس الإنسانية، ولامسَ فيها جرحها الغائر، أراد أن يزيل الحواجز المتناثرة في أعماقها، وأن يقودها حيث سرِّ الوجود وطريق الخلاص، أراد أن يصبح الانسان قادراً على اكتشاف ذاته الحقيقية ؛ عندما يطلق لجناحيّ روحه العنان، لتسبح في فضاء اللا حدود، وأوقد مئات الشموع في عتمة الأرواح التائهة، كان يحلمُ دائماً بانتصار الإنسانية في داخل الانسان من خلال دعوته إلى المحبَّة بكل ما أوتي من كلمات تلك التي أينعت كينبوع ماء يسيل برقة وعذوبة، يمضي بين الروابي القاحلة، فينهض الربيع على ضفتيه، يقول في / رمل وزبد / : " الإنسانية نهرٌ من النور يسير من أودية الأزل إلى بحر الأبد " . كان يؤمن بأن الحبَّ أساس الحياة الحقيقية والفاضلة وأن المحبَّة متلازمة مع الأبدية، يقول : " إذا الحب أومأ إليكم فاتبعوه، حتى وان كانت مسالكه وعرة وكثيرة المزالق " .
- " أوصيكم باسم الحب الذي يجمع قلوبنا أن تكونوا مسالك لا حصر لها، يتلاقى بعضها مع البعض الآخر في الصحراء، حيث تطوف الذئاب والنعاج واذكروا هذا عني " / حديقة النبي / - " أحبّوا بعضكم بعضاً ولكن لا تقيّدوا المحبة بالقيود، ولتكن بحراً متموجاً بين شواطئ نفوسكم " / النبي / .

كان جبران طافحاً بالثقافة الإنسانية، لاهثاً في رواق المبادئ الكبرى كالعدالة والحرية والحقيقة، داعياً لقيم سامية ومبادئ نبيلة، ناذراً قلمه لانتصار الحق والجمال، يقول في / آلهة الأرض / : " حيث يكون الجمال . . . يكون كلُّ شيء " .
ويقول في / رمل وزبد / : " إذا بلغت إلى قلب الحياة تجد الجمال في كل شئ حتى في العيون المتعامية عن الجمال " .

ويقول في / التائه / : " الشاعر الأول : لقد انتهيت من نظم أروع قصيدة قِيلت حتى الآن بالإغريقية، إنها مناجاة لزوس الأعلى الشاعر الثاني : لم أنظم سوى القليل، فقط ثمانية أبيات تذكاراً لصبيٍّ كان يلعب في الحديقة، واليوم وبعد ألفيّ سنة لا تزال الأبيات الثمانية تدور على كل لسان ويردِّدها الناس بإعجاب واعتزاز، أما القصيدة الطويلة فإنها وإن تناقلتها الأجيال من بعض في المكتبات وحجرات الباحثين، كان الناس يذكرونها، ولكنّها لم تلقى محبّتهم ولم يتلوها " .
إنه ابن الشرق وحامل ثقافته، والمشبَّع بالأدب العالمي، كما أنه المتبحّر بأسفار الكتاب المقدس، تفاعلت في خضم تطلعاته الإبداعية ثقافات الشرق والغرب، والتحرُّر والتديُّن، شغلته قضايا الإنسان أينما وجد، بعيداً عن الانتماءات الضيقة، يقول في / المجنون / : " أحببتك أيّتها القويّ مع أن حوافرك الجديدة لا تزال ظاهرة في لحمي، وأحببتك أيّها الضعيف مع أنك خففت إيماني، أحببتك أيّها الغني في حين أن عسلك كان علقماً في فمي، وأحببتك أيّها الفقير مع أنك عرفت عوزي، أحببتك أيّها الكاهن الجالس في سكون أمسه متسائلاً عن مصير غده، وأحببتك أيّها العابد الذي يتخذ له من أشباح رغائبه آلهة يعبدها، أجل أحببتكم جميعكم، ولكن و أسفاه فإن قلبي الطامح بحبكم قد حوَّل قلوبكم عني، لأن في وسعكم أن ترتشفوا خمرة المحبّة من القدح الصغير، ولكنكم لا تقوون على شربها من النهر الفياض ، إنكم تستطيعون أن تسمعوا صوت المحبة عندما تهمس ولكنكم تصمّون آذانكم عندما تصيح مهلهلة بأعلى صوتها، إنكم لاتحبون سوى السيوف التي تطعن قلوبكم والرماح التي تخترق صدوركم، لأنكم لا تتعزون إلا بجراحكم ولا تسكرون إلا بخمرة دمائكم، كما يتجمّع الفَراش حول اللهيب " .

نالت كتاباته الشهرة الواسعة، واستأثر نتاجه الإبداعي بأهمية كبيرة في المكتبة الأدبية العالمية، تناقلت كتبه الأيدي، مثلما تناقلت كلماته الألسن، وتُرجمت أعماله إلى الكثير من اللغات الحيّة في العالم .
ولا يمكن إغفال موهبة جبران في الرسم، والبراعة التي استخدمها في التقاط مظاهر الجمال التي حرَّر بها لوحاته باللون والضوء، لدرجة أن الكثير من النقّاد رأوا أن براعة جبران الرسام فاقت براعته في الكتابة .

وفـاته

عندما استبدّ به داء الكبد، وأحسَّ بدنو أجله قال عندها : " أنا بركان صغير تم إغلاق فوهته " . كان يوم / 10 / نيسان عام / 1931 / من أكثر الأيام ظلمة في تاريخ الأدب، وهو اليوم الذي توفي فيه جبران في مشفى / فنسنت / في نيويورك وهو في قمّة مجده الأدبي عن عمر يناهر / 48 / عاما، ثم نقلت رفاته إلى لبنان في العام نفسه، ودُفن في / مار سركيس / قرب بشرّي، لتنتهي رحلة إنسان مبدع، سكن القلوب وهزَّ المشاعر وكان المبدع في الحب كما في الألم، وليخلِّد اسمه على دروب الأجيال مبدعاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى . يقول جبران خليل جبران :

" إن الإنسان متى جلس على عرش الملك فقد صار عبدا، ومتى أدرك أعماق روحه فقد طوى كتاب حياته ومتى بلغ أوج كماله قضى نحبه، فهو كالثمرة تسقط إذا نضجت " .
/ المجنون /
 " هاهي ذي جزيرة مولدنا، لقد لفظتنا الأرض هنا أغنيةً ولغزاً : أغنية تتسامى إلى السماء، ولغزاً تحاربه الأرض، وأيّ شيءٍ هناك بين الأرض والسماء يُقلُّ الأغنية ويحلّ اللغز سوى هوانا " .
 " الموت لا يغير شيئاً سوى الأقنعة التي تغطي وجوهنا، والذي يغنّي أغنية للريح سيظلُ أيضاً يغنيها للأفلاك الدائرة " . / حديقة النبي /

جبران واللغة:

عمل جبران على التجديد في اللغة، وفي تطوير أدواتها، لأن اللغة التي تبقى على حالها بالنسبة له هي لغة ميّتة، واللغة تختار ألفاظها لكل زمان، حتى تتناسب وروح العصر وتساير تطوراته، ويعتبر جبران أن اللغة " مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمة فإذا هجعت قوة الابتكار توقفت اللغة عن مسيرها، وفي الوقوف التقهقر وفي التوقف الموت والاندثار " . كان صادقاً في الدعوة لتحرُّر اللغة العربية من الشوائب، وفي محاربة الجمود والركود في الأساليب والألفاظ والتعابير، يقول : " أن اللغات تتبع مثل كلِّ شيء سنة البقاء للأنسب " . وقد استطاع أن يصنع للغته جناحين تحلِّق بكتاباته عالياً في سماء الإبداع، لأنها انطلقت لتلامس قاع النفس البشرية، وتُترجم معاناة الإنسانية وطموحاتها، يقول أيضاً : " لكم من لغتكم " البديع" و" البيان " و" المنطق " ولي من لغتي " نظرة في عين المغلوب " و" دمعة في جفن المشتاق " و" ابتسامة على ثغر الزمن "، و" إشارة في يد السموح الحكيم "، ولكم منها ما قاله " سيبويه " و" أبو الأسود " و " ابن عقيل " ومن جاء قبلهم وبعدهم من المضجرين المملين، ولي منها ما تقوله " الأم لطفلها و" المحبّ لرفيقته " و" المتعبد لسكينة ليله " .

ويقول أيضاً : " لكم لغتكم عازفاً يتناولكم عوداً، فيطرب عليكم أنغاماً تختارها أصابعه المتظلفة، ولي من لغتي قيثارة أتناولها فأستخرج منها أغنية تحلم بها روحي وتذيعها أصابعي، ولكم أن تسكبوا لغتكم بعضاً في مسامع بعض ليسرّ ويعجب بعضكم ببعض، ولي أن أستودع لغتي عصفات الريح وأمواج البحر، فللريح آذان أشد غيرة على لغتي من آذانكم، وللبحر قلب أربأ بها من قلوبكم، ولكم ان تلتقطوا ما يتناثر خرقاً من أثواب لغتكم، ولي ان أمزق بيدي كل عتيق بال، وأطرح على جانب الطريق كل ما يعيق مسيري نحو قمة الجبل".

وكما كانت فلسفته مستمدة من صدق الحياة ؛ فإن لغته العذبة السلسة والسهلة السليمة، فاضت بالرِّقة والحلاوة . يقول جبران في نهاية المقالة التي كتبها رداً على الاتهامات الكثيرة التي وجهت له بضعفه بالعربية واستعماله لبعض المفردات العامية في كتاباته " والآن وقد طلع الفجر، أتحسبون إنني أشكو لغتكم لأبرّر لغتي ؟ لا والذي جعلني ناراً ودخاناً بين عيونكم وأنوفكم، إن الحياة لا ولن تحاول تبرئة نفسها أمام الموت، والحقيقة لا ولن تشرح ذاتها لدى البُطل، والقوّة لا ولن تقف أمام الضعف، لكم لغتكم ولي لغتي " .
لقد أوقد جبران في اللغة جمرة الإبداع، واصطفى منها الأساليب والألفاظ بغاية الدقة والدِّراية . يقول : " في اللغة العربية قد خلقت لغة جديدة داخل لغة قديمة، لم ابتدع مفردات جديدة بل تعابير جديدة واستعمالات جديدة لعناصر اللغة " .

" إن اللغة كائن حي ينمو ويكبر، ثم يموت ويندثر، وليس موت اللغة يعني اندثارها، بل يعني ان تموت ألفاظ و تحيا ألفاظ أخرى أن تموت عبارات وتأتي عبارات، وهذا هو السرّ العجيب لبقاء اللغات في الحياة " .

وقد انبرى العديد من الأدباء والكُتّاب للدفاع عن لغته وأسلوبه في الكتابة، ومنهم الأستاذ / أحمد الخوص / الذي أورد العديد من الأدلة التي توضِّح فصاحة الكلمات التي اتهمت بأنها كلمات عامية، استناداً إلى معظم المعاجم اللغوية العربية قديمها وحديثها وعلى سلامة لغته، مما يدحّض الاتهامات الموجهة للغة جبران .


[1حديقة النبي


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى