الخميس ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٥
بقلم أحمد الخميسي

جغرافية الفكر والثقافة

حاول الكاتب الأمريكي ريتشارد نيسبت في كتابه " جغرافية الفكر " (عالم المعرفة) تأكيد شبح الافتراض القديم بأن للفكر جغرافيا ، وكانت نقاط الانطلاق التي بدأ منها أشد سخافة من النقاط التي انتهى إليها . فهو يبدأ بأسئلة وفرضيات مثل : " لماذا يتعلم الأطفال في الغرب الأسماء أسرع من الأفعال ، بينما يتعلم أطفال شرق آسيا الأفعال أسرع من الأسماء ؟ ". فهل كانت لدي المؤلف وسيلة يتحقق بها من طبيعة عقول أطفال شرق آسيا ثم أطفال الغرب في ذلك المجال ؟ . فرضيات كهذه تقود الكاتب إلي القول بأن هناك : " منظومات للإدراك والفكر ، مختلفة أشد الاختلاف ، وأنها كذلك منذ آلاف السنين ". وإذن فإن منظومة الإدراك والفكر هي عنده حالة مستقرة ، مثل الهرم الأكبر ومعابد بوذا ، وهي كذلك منذ آلاف السنين . وبناء عليه يدعو الكاتب إلي : " فهم متبادل للفوارق الذهنية " . ! وخلال ذلك تعجز هذه النظرة عن تتبع حالة التطور الفكري باعتبارها حالة متصلة تنهل من بعضها البعض وتصب روافدها في بحر واحد . وبداهة فإن " جغرافيا الفكر " هذه لم تجرؤ على الاقتراب بمنطقها من مجال العلوم ، التي توضح شيئا مختلفا تماما هو وحدة تطور الفكر البشري . في السياق ذاته يأتي كتاب " الجغرافيا الثقافية " (عالم المعرفة ) لمؤلفه البريطاني مايك كرانج الذي ينجح في التوصل لبعض النتائج الهامة ، وإن عانى من نقص في الإطلاع على ثقافات الشرق ، مما أضعف مقارناته الثقافية الجغرافية. وبداية فإن مايك كرانج ، يرفض ما تذهب إليه مدرسة " حتمية البيئة " التي فسرت الفوارق الاجتماعية بين الشعوب بوضع البيئة ، وينطلق من : " أهمية المكان في بلورة الثقافة ، وأهمية الثقافة في تشكيل المكان " ، ومن ثم يتجه إلي الجغرافيا باعتبارها قادرة على تقديم جانب من التفسير للظواهر الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والأدبية . وعلى هذا الدرب يميز الكاتب بدقة بين " الأشكال العليا من الثقافة " أي : الأدب والشعر والمسرح والموسيقى والرسم ، وبين الثقافة التي تتخلل كل جزء من حياتنا ومجتمع! نا وتتبدى في الطقوس الشعبية ، والمعتقدات ، والقيم ، والمؤسسات التي تصون الثقافة كالمكتبات ، والمدارس وطقوس افتتاح البرلمان والأعياد وغير ذلك ، وكلها أشكال وممارسات تعمل على إعادة إنتاج ثقافة بعينها . وفي هذا السياق فإن " الجغرافيا " ، و الأماكن ، والأفضية ، والشوارع ، والمنازل ، والحدائق ، والأروقة ، تعمل بعمق على حفظ الثقافات المختلفة بطرق متعددة . والثقافة هنا جزء لا يتجزأ من الجغرافيا . ويشرح مايك كرانج كيف أن الطرق التي تحددت بها فضاءات البيوت تكشف عبر تطورها عن تطور أو اختلاف ثقافي . فقد كان منزل التاجر في العصور الوسطى يتألف من فضاء متكامل تجتمع فيه وسائل الإنتاج والحياة العائلية معا ، واختلاف بناء المنازل فيما بعد كان إشارة إلي انصراف الإنتاج إلي المصانع ، نتيجة لاختلاف العوامل الثقافية والاقتصادية . وهنا كانت الثقافة السائدة تشكل الجغرافيا ، وكانت الجغرافيا تصون تلك الثقافة داخل أماكن معدة لذلك الدور . ويتعرض الكاتب في فصل بعنوان : " المشاهد الأدبية والجغرافيا " إلي نظرة الجغرافيين للأدب في مرحلة ما باعتباره مصدرا للمعلومات عن الأمكنة ، وقد قام أدب الرحلات في هذا السياق بدور ! خاص . ويعتبر أن الرواية في صلبها نوع من الجغرافية ، لأن عالم الرواية يتألف من أماكن ، ومواقع ، وخلفيات ، وميادين وفضاءات متنوعة تشغلها الشخصيات . ويقول إن أشكال الكتابة المختلفة تعبر عن علاقات مختلفة مع المكان ، وأن الروايات التي اعتمدت على السرد أساسا سادت في القرن 19 تعبيرا عن علاقة معينة مع المكان ، بينما انتشرت أساليب مثل تيار الوعي وغيره في القرن العشرين باختلاف العلاقة مع المكان . ويضرب مثلا عن علاقة المكان بالبناء الفني قائلا إن أزقة الفقراء المظلمة في رواية البؤساء لفيكتور هوجو شكلت عالما يعارض حياة المجتمع الرسمية . وبوسعنا أن نلاحظ - في القصص البوليسية – كيف أن أمكنة القصة هي جزء متكامل مع البناء الفني ، لأن أمكنة مثل هذه القصص هي دائما أمكنة منتجة للجريمة ، أمكنة مهجورة، أو فضاء خرب ، أو منزل شاغر في منطقة نائية . يمكن أيضا تأمل الأمكنة في الرواية الرومانسية التي تستدعي الحدائق ، والأنهار .

في كل الأحوال قدم لنا " مايك كرانج " كتابا ممتعا حافلا بالاكتشافات الصحيحة التي يقوم بها باحث بالغ في تخيله لأهمية فكرة " الجغرافية الثقافية "، واستطاع رغم ذلك أن يضع يده على نتائج هامة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى