الأربعاء ١١ أيار (مايو) ٢٠٢٢

جـبرا إبراهيـم جـبرا و«البـئر الأولى» للطفولة في فلسـطين

مصلح كناعنة

كم من كنوز مخبوءة في أرضنا لا نعلم عن وجودها شيئاً، فنذهب للبحث عن كنوز في الطرف الآخر من العالم. وهذه الرواية لجبرا إبراهيم جبرا هي كنز من هذا القبيل. إنه كنز فلسطيني إنساني لا يقدَّر بثمن... كنزٌ من النوع الذي يجعلكَ تبتسم وأنت تبكي، وتذرف الدموع وأنت تغالب الضحك.

في هذه السيرة الذاتية يسرد الروائي والشاعر والمترجم والناقد الأدبي والرسَّام التشكيلي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، ذكريات طفولته في بيت لحم والقدس ما بين سن الخامسة والثانية عشرة... يسردها وكأنه يضعُك معه في آلة الزمن لتهبطا هبوطاً اضطرارياً في بيت لحم في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ثم يتأبَّط ذراعك ويسحبك معه في جولة في سراديب تلك القرية الفلسطينية الصغيرة الفقيرة المكافحة، فيريكَ طرقاتها وأدراجها، بيوتها وأخشاشها، كرومها وحواكيرها، تلالها ووديانها، كنائسها وأديرتها، مدارسها ومعاملها، شبابها وصباياها، رجالها ونساؤها.

وإذ هو يفعل ذلك فإنما هو يسحبك معه إلى طفولتك أنت، إلى تجارب ومقالب ونوادر طفولتك، فيجعلك تقارن تلقائياً بين ما كان وما أضحى، وبين ما كنا وما أصبحنا، وبين ما كانت عليه الأمور وما آلت إليه. وهو إذ يفعل ذلك فإنما هو يجعلك تكتشف بنفسك كم كانت قرى فلسطين تتشابه في ظروفها وأحوالها رغم الاختلاف في المنطقة والدين، وكم كان الفلسطينيون يتشابهون في قيمهم وعاداتهم وأخلاقهم وأنماط حياتهم رغم اختلافهم في الخلفيات والانتماءات.

وهكذا فإن أسلوب جبرا الحيويِّ الإنسيابيِّ المُشوِّق في الوصف والسرد يمنحك الشعور بأنك تقرأ سيرتك أنت وتستعيد ذكريات طفولتك أنت. وأراهن أنكم ستقعون في حب والده، وفي حب حبه لوالده، ذلك الرجل الأمي الفقير المكافح الذي يُضحي بصحته وراحته من أجل تعليم أولاده.

تبدأ عبقرية جبرا الروائية في اختياره للعنوان المُذهل لسيرته "البئر الأولى"، ففيه يختزل التقاطُع والتمازُج بين جبرا الفنان المُرهَف والأديب المُثقف والمهاجر المُقتلَع الذي يرزح تحت ثقل الهم الفلسطيني في بغداد عام 1986، وبين الطفل الساذج الحالم الذي كانه في حميمية الحياة الفلاحية القروية في بيت لحم في عشرينات القرن العشرين. يقول جبرا:

"البئر في الحياة إنما هي تلك البئر الأولية التي لم يكن العيش بدونها ممكناً. فيها تتجمع التجارب كما تتجمع المياه، لتكون الملاذ أيام العطش. وحياتنا ما هي إلا سلسلة من الآبار، نحفر واحدة جديدة في كل مرحلة، نُسَرّب إليها المياه المتجمعة من غيث السماء وهَمْيِ التجارب لنعود إليها كلما استبد بنا الظمأ وضرب الجفاف أرضنا." (ص 15)

لمن لا يعرف جبرا إبراهيم جبرا: ولد في بيت لحم عام 1920، تهجَّر من فلسطين في نكبة 1948 واستقر في العراق، توفي ودفن في بغداد عام 1994. درس في القدس وإنجلترا وأمريكا، ودرَّس الأدب الإنجليزي في الجامعات العراقية حتى وفاته. ترجم عدداً كبيراً من مسرحيات وليم شكسبير، وكذلك رواية "الصخب والعنف" التي حاز عنها الأديب الأمريكي وليم فوكنر جائزة نوبل للآداب عام 1955. له ثلاثة دواوين شعرية، وعشر روايات أشهرها "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود" و"شارع الأميرات، و"عالم بلا خرائط" التي ألفها بالتشارك مع عبد الرحمن منيف.

ولأني أعتقد أن كل مُطالع ومثقف فلسطيني يجب أن يقرأ هذه الرواية، فإني سأنهي هذا العرض المتواضع بهذا المثال اللذيذ الذي ربما شوّقكم لقراءتها:

"عمَدَت أمي ذات يوم إلى فكرة غريبة: "قرَّقَت" إحدى الدجاجات، فاشترت أمي عشر بيضات من بيض البط وأقعدت الدجاجة "المخدوعة" عليها، وبقينا ننتظر النتيجة... بقيت الدجاجة "القُرقة" في قعودها الأمين طيلة واحد وعشرين يوماً، عددناها كلها معاً، ترقُّباً لليوم السعيد. وفي الصباح الباكر لليوم الأخير أسرعتُ إلى الخُم في الخُشيّة، وصحتُ فرحاً لِمَا رأيت: تسع فراخ توَصوِص حول الدجاجة، أما البيضة العاشرة فكانت فاسدة.

وكبرت فراخ البط وهي تركض وراء "أمها" الدجاجة بين الدجاج. وعندما أمطرت السماء، حفرتُ لها حوضاً صغيراً تجمَّع فيه الماء بسرعة، وراحت فراخ البط تقفز إلى الماء وتسبح فيه، والدجاجة واقفة على الحافة مشدوهة لهذا التصرف الغريب، وتتحاشى السقوط في الحوض، ولعلّها حينئذ أدركت أنها قد خُدعَت واستُغلَّت! ولكن لا بأس: ففي بضعة أشهر كانت عندنا تسع بطات كبار هيَّأت لنا، حين أخذت تبيض، الشروع بتربية المزيد منها وبيعها". (ص 143-144)

هذه النادرة المضحكة من الممكن أن تحدث لأي طفل في قرى فلسطين، إلا أنَّ طبقات المعاني في رمزيَّتها الكثيفة مُستثمَرة في الرواية بأسلوب ينمُّ عن حنكة من نوع خاص.

مصلح كناعنة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى