الأحد ١٩ شباط (فبراير) ٢٠٢٣
بقلم عزيز باكوش

جمهور يعشق الفضيحة 1/2

ثلاثة أسباب مركزية بالغة التأثير،نعتقد أنها وراء ما يحصل اليوم من فوضى وعبث في سماوات الله المفتوحة الضاجة بالحزمات والنطاقات الرقمية السيليكونية التي تمتد بلا أفق. نرصدها هنا دون تشف أو نكاية. السبب الأول: شساعة هامش حرية التعبير المتاح مع سهولة الولوجية المفتوحة بلا حواجز وبكل اللغات. السبب الثاني: المجانية وما ينتج عنها من إفرازات متقلبة الأطوار في التحديث والتطوير والراهنية علاوة على سخاء في الدعاية والإشهار في مجال الخدمات الرقمية على نحو منقطع النظير،بل بميزات بالغة الجودة، أكثر سرعة وأقوى نجاعة لا سيما مع تطبيقات التواصل الاجتماعي. السبب الثالث: سن قوانين غير ملائمة في مجال الصحافة والنشر والإعلام من طرف الحكومات العربية، واستقالة الأنظمة الحاكمة من مسؤولياتها في تحديث القوانين،بما يلائم التطور السريع المتواتر في المجال الرقمي حول العالم.

ومن نتائج ذلك، بروز تقليعة عولمية مريبة في عالمنا العربي خلال العشرة أعوام الأخيرة وعلى نحو ملفت في المجال السمعي البصري، عبارة عن مولود خديج غير مكتمل الأعضاء انتمى قسرا إلى منظومة الصحافة والإعلام، ولأنه كذلك، فقد ظهر باهتا ممسوخا وبتشوهات خلقية،وبات بذلك بلا ملامح وخارج سيطرة الخطاب الرسمي الذي ظل مكتوف اليدين راضيا بكل الانزياحات.

لا نتحدث هنا عن مورفولوجية هذه الظاهرة، لا سيما الجانب الشكلي المتعلق بالأسلوب الأدبي ومستوى اللغة وحدود التوظيف السليم لمبناها ومعناها. ما نقصده هو ذلك المسخ الإخباري المسمى سبقا صحفيا، الذي لا تستقيم ولادته إلا مقترنا مع الفضيحة

نتحدث اليوم عن إعلام الفضيحة أو صحافة الفضائح. وهذه التوصيفة أشبه بعملة لها وجهين، الأول: مجرد أفواه معتوهة لا تستطيع التوقف لحظة عن إنتاج الصراخ والهذيان وتصريف الوقاحات على مدار الساعة،رأسمالها ليس أكثر من هاتف محمول. خذ مثلا حادث الولادة بمعناها الاجتماعي العام،يتم تقديمها على أنقاض فضيحة. وأخذ حمام شمس لإحدى الشخصيات في خصوصية محددة أضحت فضيحة، ولباس الصيف فضيحة، وزلة اللسان فضيحة، والتعثر في الدرج فضيحة،والسقوط أمام الكاميرا فضيحة،وعملية البناء باتت فضيحة،والوظيفة غدت فضيحة، والراتب تحول إلى فضيحة وكذلك الزواج والطلاق ترافقهما الفضيحة بجلاجل أينما حلا وارتحلا....إلى غير ذلك من إعلام الفضائح.

وعلى خلاف الوجه الأول ثمة وجه آخر للعملة يحلو البعض أن يروج له بهدف تسويق هذا المسخ الخلقي الكسيح،من قبيل الإعلام الجديد، إعلام المواطن،الصحافة المواطنة.. إلى غير ذلك من التوصيفات المزاجية التي تنبت كالفطر على السوشل ميديا. لكن الحقيقة غير ذلك تماما. فالمصادر مختلقة، والتطورات سابقة لأوانها، وأحكام القيمة على قفا من يشيل. ذلك أن الأمر يتعلق بصنف من الإعلام الرديء المخدر للعقول، إعلام نما فجأة،وترعرع في ظل ارتباك حكومي مخدوم. ولأنه على المقاس. فقد اكتفى بالجلوس مكتوف الأيدي وقبل بالخسارة. ما وفر الوقت الكافي أمام إعلام الفضيحة كي يصبح بين ليلة وضحاها مسخ برؤوس عملاقة وأذرع محورية لا تقاوم. إعلام فضائحي بالجملة والتقسيط لا يقتصر على تحصين الرسوخ بقوة بل يتعدى ذلك إلى الوصول إلى قاع المجتمع بأطيافه، بل والتأثير فيه بنجاعة فاقت التصور.

إعلام الفضيحة الجاري العمل به اليوم على أوسع نطاق، إن كنتم تعتقدون أنه مسؤول وعادي ونتاج حداثة ونبض مجتمع عولمي،أعيدوا التفكير في منطلقاتكم. وإن كنتم ترغبون في الرفع من منسوب التخلف والجهل في البلد،فهذا الإعلام هو مكانكم المنشود والمثالي فاحضنوه.

ليس هناك أي شيء غريب حيال أسلوب عمل هذه التقليعة المرتبطة بمجال النشر والإعلام. فالبوز، وكل ما له علاقة بالأخبار المسطحة، والأراجيف وإنتاج الفجائع المصورة، له زبائن بالهبل، وهذا الهبل تترصده وتتعقبه جماهير متلتلة حسب تعبير الاشقاء في مصر. وتتساءل حول أسباب تأخره. ورغم كونه إعلام طافح بالتوتر والفجائع المتناسلة، وتكتنفه أصوات لا تكف عن النهيق، فقد عمل بقوة على ترسيخ مكاسبه،وأقام مؤسسات وشيد بيوتا و أفواها من خشب، وعزز حمايته بملامح متجهمة قلقة دون مساحيق. و أمسى يتقوى ويتجذر في أعماق المجتمع مع مرور الزمن مثل الصدإ.

اليوم غدت الفضيحة لثلثي المجتمع حاجة ضرورية ومطلبا ملحا مثل الهواء والماء. فعلى مدار اليوم تعرض للفضائح أروقة كالفطر في سماوات الله المفتوحة. تتدفق شساعات وأقاليم على شكل أشرطة وفيديوهات بالملايين تنكئ الجروح، وتخصب الأحزان وتتنافس في تحويل الفضائح وتتهافت على نشرها حقائق،بعد التحايل على الوقائع، ولي عنق الأحداث لتصنع الفجيعة.

لا يكاد النهار يستوي لدى عامة الشعب دون مشاهدة "فيديو" غنيمة دموية فضائحية بامتياز. ولأن مصانع الأحزان ومختبرات تخصيبها على مواقع التواصل الاجتماعي أدركت غباء الناس وحاجتهم إلى محلول مخدر، فقد سارعت لوبياتها اللئيمة إلى إنشاء أطقم موضوعاتية وتأسيس مواقع على الشبكة وحصنتها بدمى، ونفخت فيها من وهم الجلالة ما سمح به العبث الحكومي..وبدا الخبر كأي منتوج سوقي لا يستوي إلا بتوابل الفضيحة.

حتى المعلومة التاريخية باتت اليوم في حاجة إلى مسحوق فضائحي لترويجها على النحو المرغوب. ولأن الكائن الذي ألهبه حريق الأسعار، انفصل عن حلمه، وغاص حتى أخمص قدميه في جراحات المعيش اليومي الذي بات ملتهبا محرجا ومصدر قلق مستمر للأسر،فقد وجد في سلة الفضائح ما يقتات به. بات يفطر على فضيحة فلانة، ويتغذى بفضيحة فلان، ويمسي على انقاضهما.

لكن، وجب التنبيه، أن إعلام الفضيحة هذا لا يشتغل لوجه الله، ولا يسعى لترصيد الأجر و الثواب خديما للإنسانية كما يفعل النبلاء أصحاب الرسائل الإنسانية الهادفة، بل أرسى لنفسه دخلا قارا وأجرا شهريا معتبرا. بات سندا له،منه وبه يبنى ويقوي ترسانته الفضائحية خارج نطاق سيطرة الدولة المالية، وبنى مجده الإعلاني.وبات مشهورا بعدساته التي تشتغل على مدار الوقت في كواليس المجتمع، تنتج وتخصب وتعلب. وباتت أعينها لا تنام،تعيش وتقتات على إبتكار جيف المشاهد وسقط الكلام انتهى


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى