الأربعاء ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٢

حتى لا نخذل لغتنا

منصور محمد أبوصفيّة

اللّغة في أساسها أداة للتواصل البشريّ و لغتنا العربيّة لها ميزتها بالقداسة التي تكتنفها، وهي محفوظة بحفظ الله - سبحانه وتعالى - للقرآن الكريم قال تعالى:"إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف: 2) وقال سبحانه وتعالى : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " (الحجر :9)

ولطالما كان المعلّم والإعلاميّ الذي يسمعه الناس أو يشاهدونه القدوة في اكتساب القيم والعلوم والنموذج المُحاكَى في اكتساب اللّغة الراقية؛ فهو يثير دهشة مستمعيه بثقافته العالية ولغته الساحرة؛ فيتأثرون به وتجري ألسنتهم على نسق لسانه.

إنّ نظريّة التعلّم الاجتماعيّ أو نظرية التعلّم بالنمذجة التي عُني بها علماء التربية اعتناء شديدًا ترى أنّ التعلّم يحدث بمحاكاة المتعلّم لنموذج واقعيّ في محيطه الاجتماعيّ، فتعلّم اللّغة إذن يحدث بالممارسة والمحاكاة، وهذا أفضل - دون شكّ - من استظهار قواعد السبك والبناء والكتابة بطريقة تلقينيّة جافة.

واللّغة العربيّة كباقي العلوم في عصرنا حظيت بفرصة للتعلّم عبر وسائل الاتصال والوسائل الحديثة في المنصات التعليميّة وقنوات (اليوتيوب) وهذا يعدّ نقلة نوعيّة في تعلّمها لو أحسن توظيفه.

لكنّ ظاهرة مقلقة رافقت هذه النقلة النوعيّة في تعليم اللّغة العربيّة - وربما سبقتها- قد تنزلق بنا بعيدًا عن الهدف الأسمى من تعلّم اللّغة العربيّة في البلاد العربيّة ومنها بلادنا؛ فقد لاحظنا عددًا غير قليل من المختصين والمدرسين الذين انبروا لتعليم اللّغة العربيّة عبر الوسائل الحديثة يتعاملون مع اللّغة العربيّة كأنّها مادّة علميّة جافّة يسعون لتلقينها إلى الطلاب بأسلوب تلقينيّ بحت، و لا يتورعون عن تقديم مهاراتها من نحو وصرف وبلاغة و تحليل للنصوص باللهجة العاميّة المحضة مركزين على تحفيظ الطلاب طرقًا تلقينيّة لتحديد الإجابة عن أسئلة الاختبارات فقط، حتى بلغ الأمر ببعضهم أنْ صاغ بعض قواعد النحو والصرف على لحن أغان شعبيّة هابطة، و كأنّ الهدف من التعلّم انحصر في اجتياز الامتحان دون أن يكون لذلك أدنى أثر بعد انقضاء حمّى الاختبارات بل و أصبح هؤلاء المقدّمون يتبارون في إظهار براعتهم في ذلك غير آبهين بأداء الرسالة على وجهها الحق.

ربما يكون من هؤلاء المعلّمين المقدّمين من يمتلكون ناصية اللّغة ويجيدون التحدث بها ويعرفون كيف تقدّم مهاراتها، ولكنّهم تحولوا لهذا الأسلوب تماشيًا مع رغبة المتلقين وميلهم للتبسيط أو تقليلًا من قدرات طلابهم. وخطورة هذا أنّ المعلّمين الذين يقدمون هذه الدروس مجانًا أو بمقابل يتابعهم أعداد كبيرة من الطلبة، وهذا يعني أنّهم يوجهون وجدان جيل كامل نحو لغتهم وكيف يتعاملون معها توجيها خطأً.

هذا الأمر يسيء إلى لغتنا العظيمة إساءة بالغة فتسلب منها الروح ويتعامل معها أبناؤها الطلبة كعلم نظريّ جافّ ثقيل بعيد عن التطبيق والممارسة سرعان ما ينسى ويندثر.

في زمن سابق كان المعلّم - بغض النظر عن تخصّصه - يشكّل نموذجًا مشرقًا للتحدث باللّغة العربيّة والكتابة بها فتجد معلّم الرّياضيات مثلًا يحرص على تقديم مادته بلسان عربيّ مبين ويخط حروفها مشرقة تسرّ الناظرين، ناهيك عن معلم اللّغة العربيّة الذي يعدّ موردًا ثقافيًا عذبًا ومنهلًا علميًا لا ينضب.

وربما يذكر من عملوا في ميدان التعليم أنّ معلّم اللّغة العربيّة كان يحرص أشدّ الحرص أن يقدّم دروسه بلغة دفّاقة وأمثلة برّاقة من القرآن الكريم و الشعر الجميل، و يخشى إن زاره زائر أو تتبعه طالب نبيه أن يسجل بحقه أيّ لحن في اللّغة فيعدّ ذلك مثلبة عظيمة.

إنّ هذا الحرص على التحدث بالفصيحة كان متطلبًا رئيسًا للمذيعين في شتّى البرامج الإذاعيّة والتلفازيّة؛ فلا تزال أصواتهم الرنّانة ونبراتهم الواثقة في ذاكرة المتابعين، وقد كان اتقان اللّغة العربيّة من المتطلبات الضروريّة للضيوف في البرامج الحواريّة، أما الآن فقد أصبح التحدث باللهجات العاميّة السمة الغالبة للبرامج.

قد يظن ظانّ أنّ اللّغة الفصيحة تعدّ حاجزًا عن التلقي الدقيق للمضمون المقدّم من المعلّم أو البرنامج الإذاعيّ، وهذا ادّعاء يجافي الحقيقة تمامًا؛ فلقد كان المجتمع سابقًا كبارًا وصغارًا متعلمين وغير متعلمين يفهمون ما يقدّم لهم ويتفاعلون معه ويصل إليهم المغزى على اختلاف مواقعهم واضحًا مفهومًا.

وكيف نفسر فهم أطفالنا التامّ لبرامج الأطفال التي تتحدث الفصيحة – وإن باتت قليلة - بل إنّ الأطفال ومن باب المحاكاة ليتأثرون بها ويقلّدون لغتها، وكثيرًا ما روى الآباء قصصًا طريفة حول لغة أطفالهم الفصيحة.

إنّ الجيل الجديد الذي يسهل عليه التعامل مع أدوات التكنولوجيا الدقيقة والعلوم الحديثة لا يمكن أن يكون عاجزًا أبدًا عن امتلاك اللّغة العربيّة والتمكن من مهاراتها والاستمتاع بإمكاناتها لو قدّر له التعرض لها تعرضًا مباشرًا صحيحًا مفيدا مدروسًا.

إنّ النوايا سليمة لا شكّ؛ لذا علينا – أبناء العربيّة العظيمة - التنبه سريعًا لهذه المشكلة لنعيد البوصلة لصوابها ونعدّل الدّفة لصحيح اتجاهها حتى لا نخذل لغتنا.

منصور محمد أبوصفيّة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى