الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم محمد البوزيدي

حديث مدن الملح المغربية

تقديم

يندرج كتاب مدن ملونة للكاتب عبد الرحيم العطري ضمن أدب الرحلات الذي لا يتناوله حديثا سوى القليل من الأدباء وفيها يوثق الكاتب مشاهداته وتأملاته وأحكامه عن/ حول أمكنة معينة زارها ذات مرة أو ارتبط بها.

إنه أول كتاب أطلع عليه يوثق لرحلات داخلية تخص المدن المغربية، مادام أن أغلب الكتاب اعتنوا بالرحلات الخارجية كليلى أبو زيد عن أمريكا، أو عبد المجيد بن جلون عن مصر/ باستثناء محمد شكري الذي اختص طنجة بمعظم كتاباته لكن لا يمكن تعدادها ضمن أدب الرحلات/.. وهذا راجع للانبهار الحاصل أثناء زيارة مدينة أجنبية، وإهمال مدينه داخلية لا يستمع جيدا لنبضاتها، أو قد لا يعيرها اهتماما من كثرة تردده عليها بل قد يبدو له واقعها عاديا جدا مع ترانيم الزمن المغربي..

يتألف الكتاب من 21 فصلا وتقديم، وكل فصل يوثق لمدينة معينة ضمن صفحتين مع استثناء مدينتين أو ثلاثة حظيتا بثلاث صفحات، كان قد زارها الكاتب ضمن أوقات معينة سواء ضمن زياراته الخاصة، أو المشاركة في لقاءات معينة ثقافية خاصة، أو أثناء عمله الصحفي نهاية التسعينيات بأحد الجرائد اليومية.

ورغبة منه في بيان أن المدن سواء فقد قدم الكتاب خاليا من أي صورة قد تبين ميله لمدينة دون أخرى مع بيان أنه أغفل مدنا عن الكتابة أكيد تماما أنه سبق له زيارتها كأكادير، الصويرة....كما أدخل مدينة الخزيرات في إشارة ذات دلالة خاصة لمدينة أجنبية "مختبئة" في كينونتنا الجمعية.

وعموما إن الكتابة عن المدن هو حديث عن فضاء خاص يلفه إيقاع متحول بتلك الأمكنة، هو حديث إلى الأعماق، بعيدا عن الصورة الفجة التي تحاول وسائل الإعلام تبليغها لنا من خلال التركيز على الشارع الرئيسي الذي يكون عرضة لكل أنواع الصباغات والديكورات المختلفة التي تعطي للمار من المدينة أن الأمور على خير ما يرام.

إذن تأتي هذه السلسلة التي يبدو أنها كتبت في تسلسل رمضاني على صفحات جريدة يومية، للبحث في جوهر المدن للتعرف بعمق عن حقيقتها، وتفتيشها لكشف أسرارها، والاستماع لنبضاتها الحقيقية والتصريح بذلك للجميع مثل الفتاة ليلة العرس التي يطمح أن/ يعرف المجتمع حقيقة أمرها فتاة طاهرة، أم "فتاة" مع وقف التنفيذ.

1*الإفتضاض/ الجرح

ولتحقيق الأهداف السابقة حاول ذ العطري أن يحدد في البدء منهجه الخاص والواضح والذي يرتكز على الاقتحام القوي والنفاذ إلى الداخل لافتضاض البكارة والتلويح بالعذرية *3* لتكون مفتوحة للجميع، لتنقيحها، وإضافة قيمة أخرى لها بعيدا عن الجو الخاص الذي تحاول المدينة الجريحة الاحتفاظ به ولو وهميا.

السؤال المطروح: قبل أن يفتض الكاتب البكارة، ألم يقم الآخرون القائمون على المدن عنوة بنفس العملية؟

طبعا مع مراعاة الفرق في العمليتين: فعملية الكاتب جاءت عن وعي واتجاه لكشف حقيقة/ حقائق ما بل وعن رضى متبادل وبفرح طفولي عارم. أما افتضاض الآخرون فكان لا يتغيا سوى الإجرام المتعمد في حق المدن المسلوبة الإرادة 20، والتي قاومت طويلا، لكنها في نهاية المطاف استسلمت "لأمرها المحتوم" فلا من يحميها، ولا من يدافع عنها، ثم وهذا الأهم لا من ينقذها.

وإذا كان نتيجة افتضاض الكاتب هو الفرح أوريكا أوريكا *3* لأنه وصل لنتيجة- ما بل وفي أقصى حدود الصراحة *3*– عميقة طالما بحث عنها، وكان الأمر فرحا وسرورا ليلة العرس، والوصول لنتيجة محددة، بينما النتيجة الأخرى بالعكس لم تكن سوى جريمة بدت للبعض القليل في حين غابت عن نظر البعض أما الغالبية فغضوا الطرف عنها –تجاهلا أو خوفا من التدخل- رغم أنها وقعت في جناح الظلام وفي واضح النهار وفي موكب جنائزي مهيب *6*.

ترى هل تستحق هذه المدن الجنائز المختلفة التي حصلت لها ومع ذلك تقدم على أنها حاضرة مغربنا الذي طمحنا أن نستقبل فيه المونديال و...و... احتضنا فيها الكل من نانسي عجرم... لبيريز..... أليس هذا افتضاض آخر؟ .

إن الإحالة على الجرائم المرتكبة في المدن تجد دليلها العملي في ثنايا الكتاب فالتوقف عند حال كل مدينة، وقراءة ما تحت السطور يحيلنا فعلا على هول الإفتضاض الذي تعرضت له المدن والجرائم المختلفة التي ارتكبت، ناهيك عن الآلام الممتدة التي خلفتها لدى الجيل الحالي والذي حدده الكاتب في الذاكرة المعذبة/ تعذيب الذاكرة *4*، ويزداد الألم آلاما حين نتبين جيدا مآل المدن هاته فماذا نقول عن القرى التي بين الكاتب وإن لم يسعه التفصيل أنها غرقت في قيعان الفقر 3؟

2*المدينة.... والقضية/ قضية المدينة

من هنا ننطلق للحديث عن مأساة كل مدينة والتي لا تنتهي. فالمأساة حكايات.—. والحكاية بألف حقيقة وحقيقة..— لطبيعة البنيات القائمة فيها خاصة العقليات المتحكمة فيها، والكاتب أعطى نماذج مع الإقرار أن الأمر عام وممتد على طول الوطن الجريح، بل لا يخص منطقة أو جهة جغرافية محددة بدءا بالشمال حيث طنجة المغتصبة والتي تعتنق الحزن إلى الأبد *15* للجيل الصاعد الذي تفقده يوميا والذي لا يعوض بثمن، والإحالة هنا على قوارب الموت التي تحصد يوميا شبابا ضاق ذرعا بوطن افتضه الآخرون فتاه الذين تبقوا فيه، ووصل بهم الأمر درجة "السماح فيه" ومغادرته ولو كان الأمر على حساب مواقفهم أو حتى حياتهم الشخصية فحتى الكاتب داهمه نفس الشعور/ الموقف في لحظات ما، وأكيد أنها فترات العطالة التي تجعل كل شيء حالكا خاصة إذا اقترن مع القمع عند المطالبة بحق الشغل، فقد طمح ل يتحرر من قطران الوطن 15*. فهل ضاق الوطن بأهله لهذه الدرجة التي أصبح فيها الموت خبزا يوميا عاديا ومطلوبا، وبالأداء في هذا الزمن، بل إن الأمر لم يقتصر على طنجة القريبة من المضيق بل أصبح الأمر مأساة حقيقية اكتسحت كل المدن والقرى وكل الفئات أطفالا وشبابا، رجالا ونساء..لذلك أصبحت كل مدينة تفطر هي الأخرى على أخبار الحريك *30*.. وأصابتها عدوى الشمال المنكوب بل أن الابتكار قارب أن يتخذ أساليب أخرى دون حاجة لقارب موت *30*.

وإذا كانت طنجة حزينة في علاقتها بالإنسان فإن مدنا أخرى أشد حزنا على ما لحق بها في حد ذاتها فهاهي ال "جرادة" التي تحيل على حشرة صغيرة –وهم يعتبرونها كذلك – أو لعبة للصغار – لذلك لا تستحق اهتمام "الكبار" - تنطق ألما وتعتصر حزنا لتصيح: أين فحمي؟ أين دليل احتراقي؟ *:22* فجرادة استنزف مخزونها الطاقي وشرد أهلها، وفسدت أرضها... ولم يتكلم أحد؟ أو لعله تكلم فلم يسمعه أحد، مما جعلها تصرخ في وجه الصامتين على افتضاضها/ الجريمة بقوة وتصيح عاليا أين أنتم؟ *23* وهو سؤال له دلالة أن الصبر وصل مستوى ودرجة لم يعد معها من الممكن التحمل كثيرا، كما أن التساؤل يحيل على عدم قيام أي كان بإنقاذها.

ترى هل سمع أحد صراخها؟ أم لا؟ هل عجزوا عن التدخل؟ أم أن العجز تواطؤ خاص وغريب رغم احتجاجها بشكل حضاري وأخلاقي بسؤال يحمل دلالات أنها مستعدة للمحاسبة والإتيان بالحجة لذلك نجدها تواصل كلامها أين جمري البارد خلال ملايين السنين؟ *22*.

هذا الصراخ الذي لم يجب عليه أحد امتد إلى الوسط وبالضبط إلى بن جرير التي سرق فوسفاطها وطبعا مثل جرادة سكت الجميع وحين أراد من وكله السكان الحديث باسمهم طمس الحقائق بشكل خطير، فعوض أن يطالب بتحقيق رسمي وشفاف في الموضوع طالب على رؤوس الأشهاد بتوفير سجن ومقبرة فقط *4، طبعا سجن من يتكلم ومقبرة معنوية للمتبقين، فالجميع إذن في السجن الكبير والصغير، فمن رأى منكم مدينة تسجن وتدفن أبنائها؟؟ .

إن هذا الواقع الخاص جعل المدينة تفقد كل شيء، فقدت الجانب الاقتصادي الذي يعيش عليه السكان وهو الفوسفاط وفقدت الجانب المعنوي وهي كرامة الإنسان المتجلية في حكم ممثل المدينة على أهلها مسبقا وسط ترحيب خاص، وبتصفيق في زيارة مناسباتية، *4 مما جعل المدينة خارج التاريخ غائطة في يومها المكرور تنتحب وقد طوقها الفقر وغطاها بعباءته الثقيلة.* 4

كما لا ننسى أن الحكم تجاوز الإنسان ليصل للحيوان الذي عانى من القتل الوحشي لذلك تكلم حتى من لا يستطيع الكلام أصلا وهو الحيوان. فكان الحل الأمثل أن أمير الكلاب أعطى الأمر بالرحيل لبطانته *4*، وإذا كان قد رحل الحيوان فمتى/ أو هل يمتلك الإنسان حرية الرحيل كذلك عاجلا أم آجلا؟ وإذا كان قد فقد الفوسفاط، وحكم على الإنسان فيها وأعدم حتى الحيوان فلذلك لم يبقى أمام المدينة سوى أن تتعرى.. وتكشف العورة.* 4 *. وهذا أسوا وضع يمكن أن يصل إليه أي كائن في هذا العالم التائه.

إن الاغتصاب الفظيع الذي تعرضت له المدن لم يقتصر على منطقة محددة بل كان عاما ويواصل الكاتب انسيابه وسط خارطة الوطن ليذكرنا بوضعية آسفي التي مازالت على حد وصفه لم تصل مرحلة القتامة بل هي مهددة في كل لحظة ومرشحة دوما للكسر *:9*، وذلك ناتج عن التلوث الذي تعاني منه والذي جاء نتيجة للمواد الكيماوية التي تقذفها المركبات الصناعية والتي حولت بحرها إلى فراغ حيث فقدت الحياة بداخله الأسماك وبذلك تعدى الأثر إلى الحيوان، أما الإنسان فكاد يمنع عنه حتى الظرف الطبيعي الضروري للاستمرار في الحياة وهو الهواء النقي *10* لذلك تبقى المدينة مرشحة في كل وقت وحين مرشحة للكسر والتفتت تماما مثل قطع الخزف الذي تشتهر به فمن ينقدها من التكسر؟؟

وإذا كانت جولة الكاتب قد استهدفت مدن وأحياء الفقر والتهميش فلماذا هذا النزوع إلى سواد قاتم... أهو انزياح مظهري يعكس واقعا نحاول تغليفه بحماقات لا منتهية 44؟ لماذا لا يبحر مع القارئ في الأماكن الأخرى التي قد نجد فيها ما يدعو لمعانقة هواء خاص وانفتاح جميل على الحياة للتفاؤل بالمستقبل؟ لماذا لم يأخذنا لعالم المعالم السياحية والتي يصر السياح على زيارتها من أماكن ودول بعيدة لكن ليتفرجن كذلك على.... أما كان أولى بالكاتب أن يرشدنا إليها وبأن في بلدنا كما غنى صلاح شيكار مازال هناك شيء يستحق الانتباه؟ أم أن زيارة الأحياء/ الأموات نوع من سياحة جديدة يبشر بها هذا العالم اجتماع والذي تدعو للتأمل حقا للوصول إلى نتيجة ما لم يحددها من خلال الكتاب؟ وهل الأمر تحطيم لصورة يصر البعض على ترسيخها لدينا؟ وهل جولات الكاتب جاءت ضمن هذا الإطار أم على هامش السبب الرئيسي للزيارة مما جعله يضرب عصافير عديدة في أوقات متعددة فيسافر في مغارات واقع أليم/ جميل بتعرجاته الحقيقية؟ وإذا كان الكاتب قد فكر في دمج الحديث عن الواقع بالفضاء الجميل/ كالواحات الطبيعية الخضراء والجرداء، والساحات التي تمتلئ كل مساء والشواطئ المحتضنة لكل الأجساد التائهة في مساواة غريبة، والشمس الدافئة، والجبال الشاهقة التي تحتضن ثلوجا بيضاء، ألا يكون قد تراجع عن ذلك خشية سقوطه في تسطيح الوعي الذي تحدث عنه في البيضاء، وحتى حينما تحدث بإيجاز عن التاريخ كان يلمح للوضع المزري للمدن التي تمتعت بحضارات عريقة في الزمن الماضي وكأنه يقول وعلى رؤوس الأشهاد: هاهي مدنكم انظروا كيف هو راهنها؟ ما مسؤوليتكم لفقدان لمعانها التاريخي الذي كان أيام زمان؟ وذكر كأمثلة شالة، سلا، الجديدة، الريصاني، فاس.../ ذات التراث الإنساني المنسي 14.. القديم تصل لهذا المستوى من الانشراخ والانهيار الفجائعي 14 فهل ستتغير الأوضاع؟ ويعاد تشكيل تماثيل الزمن وفق أحلامنا البلا حدود؟ 32 ناهيك أنه قد يعتبر ذلك تمويها للنفس وإغراقا لها في يم الكذب والوهم 52 والصمت الحكيم، لذلك لم يكن له من خيار سوى السفر مع المتلقي ليوصل رسالة خاصة مملوءة برموز لا تعد ولا تحصى وبأقصى حدود الصراحة 3 ودون أن تكون الكاميرا شاعلة 23.

3*توظيف المعجم المحلي

لقد كان هدف الكاتب هو التركيز على الجانب غير الرسمي والانكباب على تشريع الواقع بلغة الواقع بعيدا عن أي ديكور أو تزويق في الأسلوب لذلك حين اختار أن يخاطب المتلقي بما رآه و عاشه. حاول أن ينقله كما هو دون إضافات أو تجبير أو كاميرا شاعلة لذلك لجأ إلى توظيف المعجم المحلي بعيدا عن أي تعقيدات معينة قد يلجأ إليها لإيصال المفهوم، وإن كان الأمر قد يبدو عصيا على المتلقي غير المغربي الذي لن يفهم بعض الكلمات أو الرموز. وإذا كان الإنسان يعيش جانبين مادي و معنوي. فالمادي هو العيش بكل رفاهية, ومن هنا ارتباط الواقع بالمال و النقود. فإن الجانب المعنوي هو الحرية بكل مدلولات الكلمة. إن المال و الحرية هما اللذان حرم منهما المواطن المغربي المغلوب على أمره. فالفقر وصل مستوى خطيرا. أما القمع فذلك ملف آخر نتمنى للعطري أن يحدثنا عنه بحكم أنه عاش فترة عطالة كان فيها عضوا فعالا في أكثر من حركة احتجاجية , كما أن مقاله عن الاعتصام في سوسيولوجيا الشباب هو من أشهر ماكتب عن سوسيولوجيا الحركات الاحتجاجية. لذلك حين أراد الحديث عن واقع المدن وارتباطها بالمكان رجع لهذين العنصرين.

1*النقود والمال ومهن من لا مهنة لهم

إن الحديث عن الجانب المادي بلغة خاصة تختصر بكل حرية جوهر تفكير الإنسان البسيط. لذلك وظف أمثلة خاصة أصبحت تغني عن كل تفسير كالبزطام دار الروايض 27 والذي يحيل على السرقة الخاصة بالطبقات الشعبية و التي تختصر في الشفرة 16 و الكريساج 46 دون أن ينسى بعض الملح في الطعام حين أضاف أبرز الكلمات التي يخاطب فيها السارق المسروق أثناء لحظات الفعل/ السرقة و هي دين تيماك.

كما أشار الكاتب لشيء آخر و هو ارتباط المواطن المغربي المغلوب على أمره بالمجانية بكل الطرق الخاصة و هذا ما يتجلى في الفابور لدرجة أن المسألة تبقى قائمة حتى في حالة أداء الثمن كما هو الحال في براكة الفابور 46 بالرباط.

وارتباطا بالمعجم المحلي ذكر ببعض المهن أو أشباهها التي تجلب النقود (الفلوس) 9 ويتعاطى لها الفقراء سواء في فترة الراحة أو في فترة الحيوية. ففي الأولى الذين وصفهم بالمعكازين يتعاطون للضامة والكارطة. وبينما يتجه أغلب السكان النشيطون إلى البالة والبغلي 16 كمهنة من لامهنة له، مفتوحة للجميع وبدون شروط مسبقة، حيث تمكن الكاتب نفسه من العمل في إطارها رغم شواهده المختلفة حيث عاش تجربة خاصة كانت فيها البالة صديقة الدرب البئيس والخبز الأسود الذي يأكله المهمشون 17 هو القوت اليومي المتوفر وأتاي الشانطي 16 رفيقه المفضل، وحين غابت/ المهنة/ تغيب الرفقة الوفية في مثل هذه المواقف، لكن واقع المهنة اليوم أنها وصلت بدورها مؤخرا "للوسيطة" والمحسوبية خاصة مع الأزمة الاقتصادية التي تلقي بظلالها معظم الأوقات. في مثل تلك الأوقات التي عاشها العطري ألم يكن يردد معزوفات سعيد المغربي "البالة والفاس تمارة فاتت لقياس البالة والفاس تمارة قهرت الناس".

كما تعرض لمهن أخرى دون التفصيل فيها كمهنة الكريسون 9 واستقى هذه المهنة من كثرة الأسفار التي يجد فيها هذا النوع و الذي يلجأ بدوره إلى مهنة أخرى داخل مهنته وهي مساومة الركاب خاصة ظاهرة "باقي بلاصة" 9 لكن لمح للطبقية في نفس المهنة من خلال بيان أن المتمتع بها في مكان آخر يعيش من شركات أخرى غير الشركات المعروفة فالكريسون درجة أولى يتمتع بحقوق وعلى غير عادة أبناء عمومته "الكراسنة 39 فهو دوما أنيق ينشق عنقه بربطة زاهية الألوان، كما لا يصيح على أحد بل الركاب هم الذين يقصدونه تطرق الكاتب أيضا لمهنة الشنافة 6 وهي المضاربة في الأسعار. ترى هل تهرب من المقارنة بين مضاربة البعض في الوطن أو في مستوى آخر مضاربة السياسي في الجماهير.؟؟؟ ولماذا اقتصر على مضاربة فقراء في أسعار الفقراء أنفسهم دون تفصيل. كما لمح الجوك 27 إلى تفسير الحظ لدى العموم وهو مرتبط طبعا بالمضاربة في الأسعار.

تحدث أيضا عن الكرابة 6 وفصل المتأمل للمشاهد الذي رسمها الكاتب يحتاج لمياه كثيرة لابتلاع حنظل ما يرى وتجاوز الصدمة والكل يدرك أن الماء البارد يوظف لتبريد العطش, عطش الغضب الذي يتأجج في مدينة تلو الأخرى لا تحل بواحدة إلا لتزداد ألما تلو الألم..

2* القمع شكل البوليس وما يزال عقدة خاصة للمواطن المغربي نتيجة سنوات القمع التي رزح تحتها المواطنون لدرجة فر الكثير من الوطن نحو الخارج أو نحو داخله العاص فانكفأ عن نفسه ومارس رقابة ذاتية على جوانحه وقاوم كثيرا ليميز بين الحكم والوطن وأنهما ليسا نفس الشيء. لذلك لم يكن ذ العطري ليتجاوز الموضوع و ليحيل عليه خاصة أن التخوف يكون في شقين.

• الشق الذاتي فالسقوط في يد البوليس ولو لغرض إداري يعرضك لما قد لا يخطر على بالك لذلك يكون كل اهتمام الإنسان عدم ترك الفرصة له، ولو بشكل آخر وذلك ما تنبه له خلال الخزيرات إذ كان في كل لحظة وحين يتحسس أوراقه 8 ليفوت الفرصة على البوليس بشكل أو بآخر لإدراكه أنهم يبحثون عن الآخر بكل الوسائل حتى الوهمية منها، ويزداد التخوف حين قد بظنونه حراكا مما يجعله عرضة لكل ماقد يخطر على باله كالاحتجاز أو الترحيل أو شراء الموقف ماليا..

• الشق الجماعي فالمعروف تاريخيا أن التدخل يكون للهجوم وتفريق المظاهرات أثناء الاعتصامات المختلفة حيث تكون "سلخة الزراويط" 29 هي الوجبة المفضلة. ويزداد الألم آلاما حين تتم العملية قرب ساحات ذات دلالة كموقع ساحة خطاب طنجة التاريخي 15 و ضد شباب احتضنوا الألم من فرط العطالة 15.

وبطريقة فنية جميلة يبين الكاتب جزاء من يخرق حقوق الإنسان, فعوض الكرامة للمعطلين ومعاقبة كل المسئولين الأمنيين المتورطين في كل الجرائم المختلفة، يتم ترقيتهم وتأكيد الثقة فيهم, بل إعطاء عمداء الشرطة "عرشان" وأبطال الماضي الأسود "بطاقة المقاومة" 42 والتي تعترف لهم ضدا على لا منطق الذاكرة الجماعية للوطن بالتصدي للاحتلال رغم أنهم كانوا أذنابه.

هذا المحتل الذي ترك آثاره فينا حتى التاريخية منها و الني وقف عندها الكاتب في زيارته للقنيطرة, حيث ما زالت الآثار شاهدة على التواجد الأمريكي من خلال القشلة 30 و ما ارتبط منها سواء أ كان حانة أو قنطرة أو أشياء أخرى رغم مرور مدة طويلة عليها ما زالت القنيطرة لم تتخلص منها 30.

4*قضايا اجتماعية

إذا كانت هذه المدن تختص بخاصيات محددة سالفة تجعلها حزينة في ذاتها فقد تطرق الكاتب للحواضر "المعترف بها" ليسهب في جرد جزءا من قوتها اليومي المر، ورغم ذلك عجز عن الإلمام بكل التفاصيل اليومية "المملة" أحيانا ترى هل أراد التوقف التلقائي لضخامة الآلام المختلفة والتي ترسم على الجسد الداخلي خدوشا عصية على الإستيعاب؟ أم أن معظم الحيثيات أكبر من أن توصف وتقبض 29؟؟ . من هنا تطرق لقضايا اجتماعية بشكل مختصر وسنختار منها حالات قليلة يتعرض فيها المواطن لعنف وإن بأشكال مختلفة:

1* السرقة البسيطة باعتبارها عنفا من المواطن ضد المواطن

2* الرشوة باعتبارها عنفا ضد المواطن من الآخر "غير المواطن."

3*الدعارة باعتبارها أقصى درجات العنف البشري

4-1* السرقة: تطرق لها الكاتب في مواقع متعددة من الكتاب وسرد بعض تفاصيلها وبإسهاب خاصة في سلا التي وصفها ب"عاصمة التسول والنشل 25"فهل اكتسبت خاصيتها من العاصمة التي يتفنن المسؤولون فيها في تسول السفارات والمنظمات القابعة هناك، ونشل وانتشال الوطن والمواطن المغلوبان على أمرهما؟؟

كما ركز على المكان المفضل للعملية وهو الباص حيث الزحام، وحيث المكان الآمن التي ينزل منها السارق "البطل "دون أن تطاله أيدي الأمن، خاصة أن السرقة تنظم وفق طقس خاص تكون اللحظة فيها مجانا، وكمن يتفرج في مسلسل سينمائي الكل يركن إلى "الصمت الحكيم"26 لتتم العملية "بالعلالي" دون خوف أو استحياء أو تدخل من المارة لوقف الجريمة. ترى من يتواطؤ مع من؟ وضد من؟ فالتفرج دون التدخل كما حكى الكاتب في الصفحة هو اتفاق ضمني على العملية وتصفيق عليها.

لكن المتأمل جيدا لثنايا سطور الكتاب يتضح له أن الموضوع طبيعي مادامت أن هناك أحياء مهمشة كسيدي موسى والدار الحمراء أصبحت ميزتها انبعاث روائح "التهميش والسرقة وبالواضح" التي أصبحت من مكونات المعيش اليومي, 26.

إن ما بينه الكاتب في الموضوع يجعل الكل ضحية حتى ينجو بنفسه، أليس هذه هي العدالة المفقودة والموت العميق اللذان تتميز بهما مدينة سلا، خاصة إذا ربطنا جيدا بين أحياء في سلا وبين ما يبعد عنها بأمتار كقصور الرياض والسويسي وأكدال و...47.

لكن كما ألمحنا من قبل فالسرقة لاتقتصر على سلا بل تشترك معها مدن عدة لعل أهمها البيضاء التي أطلق عليها الكاتب "المدينة الوحش" حيث يخاف من رهبتها كلما زارها ولو لغرض ضروري وشخصي بل وإداري، حيث تعرض للسرقة في واضح النهار ففقد ورقة هويته، لكن تبين له بعد ذلك أن الأمر أكبر من أن يتقبل فاكتشف أن هويته ليست الوحيدة المسروقة بل شملت الجميع "فالهوية مسروقة منا جميعا 48، كما تطورت المسألة لتفقد البيضاء/ السوداء هويتها هي ذاتها التي "أضاعتها بغير وعي" 49.

فالكاتب تجاوز السرقة بالمفهوم الضيق ليدعو الكاتب لتأمل ضياع هوية شعب، ولضياع هوية مدينة تعتبر "أم المدن المغربية"، ترى هل فقد الوطن هو ذاته الهوية؟ فالهوية المقصودة هنا أكثر من ورقة عادية قد تكتب من جديد.

وإذا كان الحديث عن الضياع حديث ذو شجون "وماهموني غير الرجال إلى ضاعوا" فإن الكاتب لم يبين من هو المجرم؟ ومتى وقعت سرقة الهويات المتعددة؟ هل في زمن واحد؟ أم بتدرج؟

وما لسبيل لتجاوز الجيل العالي لمأساته المتجلية في فقدان الهوية التي سرقت منه؟ فهل سيتم البحث عنها؟ أم من الأفضل إبداع هوية جديدة إذا كان ذلك ممكنا؟ ترى متى تسترد الهوية المفقودة؟ وكيف؟ خاصة أن الهوية مسلوبة منشرخة مهزوزة فكيف السبيل إذن إلى تحقيق الوجود في ظل هذا الضياع الباذخ؟ 49.

إنه السؤال الذي طرحه الكاتب في الصفحة 49 وهو مطروح على الجميع، فهو دعوة إذن للتفكير الجيد في الأمر. خاصة أن الكاتب نفسه مازال لم يجب عنه، لأنه لم يحسم بعد هو نفسه في هويته الجديدة التي أصبحت له قبل سرقة الهوية الأولى فلذلك جاء السؤال مفزعا للقارئ حين يسأل ذاته: من أكون أنا؟؟ 48.

4-2*الرشوة: تشير أغلب التقارير الدولية أن الرشوة من أكبر رموز الفساد في هذا العالم وطبيعي أن الكاتب سيتوقف عندها باعتبارها جزءا من نسيج الفساد الاجتماعي، وقد طرح في البداية سؤالا استنكاريا وهو: هل تم القضاء على الرشوة؟ 9 ليجيب عمليا بالنفي من خلال جرد بعض أساليب الرشوة بطريقتين مختلفتين:

الأولى: حين تعرض لها وتمت مساومته في ملف إداري بسيط بالبيضاء/ الوحش حيث بعين ثاقبة وضح أنها قد لاتكون بشكل مباشر بل يتم تغليفها بالإكراميات والإنسانية ومن كلمات التعليب الفارغة. 49.

كما توقف عند مثال ثاني وابتكار طريقة جديدة والتي أسماها بالرشوة الطائرة 33، وهي التي يرميها السائق المار من الطريق من نافذة الحافلة أو الشاحنة لأخذها من الطريق بعد المرور، وطبعا لعدم إثارة الانتباه وتجاوز زحام الطريق العام فهي توضع في أوراق أو ترمى مباشرة أو.. ليحملها الموظف/ الدركي أو الشرطي بعد مرور الحافلة أو... فهل هو تقدم ملموس في أساليب الرشوة خاصة أن هذا الأسلوب هو ابتكار جديد "اهتدت إليه الشرائح أخيرا إلى رمي النقود في الهواء بدل تقديمها باليد 33.." يراقبه الكاتب من نافذة الإغاثة، ترى هل فكر في فتح النافذة للهروب من جريمة السكوت أو التواطؤ أو التضايق.. أو.. أو...؟؟؟

بهذين المثالين يكون الكاتب قد أجاب عن السؤال الذي طرحه في بداية الفصل، وأجاب عنه في ثناياه مع تحميل المسؤولية للمواطن وتوجيه اللوم والتهمة له بالارتشاء في قوله "لكن لماذا نذهب بعيدا ونرميهم دوما بالرشوة؟ "33 فهل هو نقذ ذاتي من الكاتب باسم الجميع المغلوب على أمرهم؟؟؟

4-3* الدعارة:

لقد شكلت الدعارة منذ زمان بعيد عنفا معنويا مضاعفا ضد الذات الإنسانية نفسها، وضد الاستقرار الاجتماعي في شقه الجماعي، ورغم الحديث المتكرر عن الدعارة وبأسف كنقطة سوداء داخل الفضاء المجتمعي، لكنها أصبحت أثاثا خاصا في الكتابات القصصية والروائية انطلاقا من أنها أصبحت ديكورا وأثاثا خاص ومتميزا يصعب تجاوزه في الخيال المجتمعي للكتاب وللمتلقي، كما أصبحت عملة خاصة داخل الخريطة المجتمعية للمدن بل وللقرى لامناص منها إلا من حاول تجاهل الواقع الحقيقي وإخفائه، لأن "الحاجة غزت الأجساد المعتوهة. والتي لم يحددها الكاتب لكن يبدو أنها تشمل الجميع. من هنا لم يكن الكاتب ليغفلها في رسم الخريطة الاجتماعية للمدن.. إنها إذن جزء أساسي من صباغة متميزة للمدن الملونة فبدت واضحة جلية وبتفاصيل عميقة من خلال تناولها عبر ثلاثة مستويات وعلائق مختلفة:

1*الدعارة بارتباط مع أبناء الوطن في الداخل

2* الدعارة بارتباط مع أبناء الوطن القادمين من الخارج

3* الدعارة داخل الوطن وفي ارتباط مع الأجانب القادمين من الشرق

المستوى الأول: بدا في "السوق" الخاص بهذا الصنف وهو الشارع حيث تعرض السلع البشرية على مرأى من الجميع الصامت، بل لعلهم الزبناء المفترضون، وطبيعي جدا أن السلع الجيدة تنفذ مبكرا بل لها سوق خاص، لذلك لم تبق سوى سلع أخرى "باهتات فاقدات للأنوثة" في شارع رهيب باسمه وهو الزرقطوني الذي يذكر بالمقاومة فماذا يقاوم هؤلاء؟ هل الزمن العاثر الذي يفترسنهن وهن أحياء؟

فهاهو "الزرقطوني" يبقى لزمن الجراح ليشهد على البشر يباع ويشترى تلقائيا و "بأبخس الأثمان" ترى هل وصل الإنسان في هذا الوطن هذه الدرجة من...؟؟ .وفقد طراوته ولم يجد حتى ثمنا مناسبا يناسب قيمة الجنس لدى المحروم منه. فهل هي مرحلة مدارج الموت البعيدة التي رسم الكاتب خطوطها ومبياناتها على طول صفحات الكتاب.

المستوى الثاني وهو الذي يبدو من بعيد، إذ يختلف الفضاء عن ما سبقه فعوض أن تعرض النساء أجسامهن، يعرض الآخر أسعاره وكل مغرياته من أوربا والتي يحاول عبرها تفجير "ماترسب في أغوار نفسه الملتهبة "46+ لاسيما السيارات الفارهة المستوردة التي يركبها هذا الشباب القادم من هناك، ولعدم خبرته بثنايا الأمور يلتجئ لتوظيف الهاتف النقال الذي أثبتت دراسات سرية أن العاهرات يستعملنه أكثر من رجال الأعمال 15

المستوى الثالث: ويتعلق بالدعارة التي يكون زبناؤها هم القادمون من الخليج والذين أصبحت صورة بلدنا تقترن لديهم بالجنس، حيث انتشرت هذه الظاهرة في مدن متعددة تمكن الكاتب من رصد جزء منها يجري في عين الذئاب بالمدينة/ الوحش كازابلانكا، حيث شبه الأجواء الخاصة لتلك الطقوس بأهوال/ عجائب ألف ليلة وليلة في دلالات ذات معاني تحيل على البذخ والثراء خاصة أن الزبون من "آل الذهب الأسود"، بل استغرب الكاتب للتطور الحاصل والذي وصل أن أصبح هذا المستوى من الدعارة منظما ليصبح "دعارة مؤسساتية" 49 تنافس باقي المؤسسات الاجتماعية وتشتغل تحت جناح الظلام المضيء مما يحيل للزمن المفضل لهذا النوع.

إن المفارقات السابقة تحيل على الحزن من نساء يغتصبن بطريقة فجة تخفي طبقية خطيرة، ونظرة رديئة لهن داخل المجتمع تتدرج من المتعاملين المحلين إلى أصحاب الخليج إلى القادمين من أوربا أما صاحب البلد فلن يبقى له سوى ماتركه الآخرون لأن المسكين لا قدرة له على الدخول لبورصة الأسعار التي تشتعل دوما حين مغيب الشمس. وبالبورصة حيث المنافسة القوية والشقية، ترتفع الأسهم طوال الوقت ويحتوي القوي القادر على المنافسة الضعيف الذي لا طاقة له على مواصلة السير، حينها تهبط كرامة المواطن/ الوطن نتيجة ل "تحقيق بطولات جنسية وهمية" 49.

كما أن الدعارة قد تتحقق بالتراضي المفروض قسرا بضغوطات الزمن القاتل على الضحايا وبقوانين طاحونة الأيام المخادعة في دورانها 16، لكن في أحيان أخرى قد يكون الأمر فرضا وإجباريا وبالمجان رغم أنفهن، والأمر ليس خاصا بمكان بل هو عام لذلك نبه الكاتب لنموذج بسيط ينطبق على باقي المدن ففي سلا مثلا وبحي كريمة تتعرض آلاف النساء لكل أشكال التمييز والعنف والاغتصاب مما قد يؤدي بهن إلى الموت بشكل أو بآخر، موت مادي أو موت معنوي، وغذا كان الكاتب يحسم أن الموت مصير كل واحد كيفما كان، لكن مالا يتقبله أو يستسيغه هو الموت الرخيص 18 وطبيعي أن الكاتب لم يتحمل الوضع المر كل مساء فوصفه بوجبة خاصة من الحياة و"كحنظل تقدمه لنا مع غروبها اليومي 18 وإذا كانت هذه وجبة الغروب فماهي وجبة المساء والليل التي يكون كل شيء مباحا بفعل غياب أي ضوء قد يكشف ماقد يحصل.؟

فهل الوطن بالتراكمات المعبر عنها في هذا المستوى وداخل الكتاب ككل يعيش هذه اللحظات أو أشباهها أو يقترب منها؟

إن الكاتب حين يذكر بهذه الوقائع الفظيعة كغيض من فيض، وكحقائق واقعية يخجل الإنسان أن يعلن للآخر/ غير المغربي تواجدها في بلاده، بينما قد لا يصدقها البعض ممن لا يحفر جيدا في الواقع أو يثق طويلا بوسائل الإعلام لذلك يطلب منهم الكاتب مازحا أن "اعذروا القلم الباكي سوادا على هذيانه المتواصل فوق البياض المستفز" 45.

وطبيعي جدا أن يطلب المعذرة مادامت الدعارة قد تجاوزت بعض مواقعها التقليدية الخاصة لتصبح جارا دائما للقدس، إنها المهزلة التي لم يتحملها الكاتب بل تمنى لو لم يزر مدينة العيون ليقف وليجد الدعارة أمام دار الشباب القدس، خاصة حين نحاول ترغيب النشء في داره/ دار الشباب فإذا بالأدوار تنقلب لنكرس واقعا بشعا أمام فضاء للتربية والتكوين والتثقيف. فالأمر تجاوز ذلك ليطرح الكاتب دلالة تواجد الدعارة في فضاء ارتبط بمدينة مقدسة في كينونتنا الجمعية والقومية.

إنها مفارقات التسمية التي تناولها الكاتب في أمكنة متفرقة ليخلص وبالتأكيد أننا لا نضبط التسميات الخاصة للمدن وللأمكنة بل نوزعها كيفما اتفق لجبر الخاطر أو بالأحرى لتمويه النفس وإغراقها في يم الكذب والوهم..52....

5*"التسلكيط" الثقافي

هو مصطلح استعاره الكاتب من عالم المستقبليات المهدي المنجرة وقد تناوله الكاتب في حديثه عن إحدى الجهات المنظمة ل"مهرجان ثقافي "غدا" قدوة" لباقي المدن وعميدا لفنون البهرجة والفلكرة التي تقتل الثقافة بعمد وإصرار عبر تبني النخبوية والمواضيع التي لاعلاقة لها بواقع البلد فبالأحرى تمس المواطن البسيط في مدينته الأصيلة التي تعيش على إيقاع أحلام باهتة, تسترق مساحات تيه راغبة في الإمتلاء 33. إنه مهرجان للتلاعب بالثقافة والمثقفين على حد سواء.

كان ذلك في بداية الثمانينات حين ظن الحكم أن أفضل وسيلة لتحطيم مناعة الثقافي العصي على الإحتواء هي تمييعه وتأسيس إطارات تنبت كالفطر داخل نبات يرفضها، إطارات أعطي لها كل الدعم واعترف لها بالمنفعة العامة "لأصحابها وأولياء نعمتها" والتي حرمت منها الجمعيات المناضلة والعريقة تاريخا وعملا، وفي كل مدينة حددت جمعية أو ملتقى مع صاحبه المعين والذي ينتمي للأعيان و "المنتخبين" يكون أبرز مهامها تنظيم ال "موسم" الذي سيتكلف بتسطيح الفكر 49 و الوعي وتحريفه عن الإيقاع المجتمعي العام.

ولم تكن أصيلا الهادئة بمعزل عن هذا التحول الدراماتيكي في صيرورة تطور الثقافة المغربية في علاقتها بالمدن، وحين زارها الكاتب كان مهرجانها السنوي قد انتهى فأسدل الليل غطاءه على مدينة لم يغادرها أصلا بفعل ما أصبحت ترمز له على الصعيد العربي منذ زمن مبكر كملجأ للتطبيع الثقافي، ومقرا مفضلا للبترودولارية وفضاء للصفقات المعلومة بالنسبة لرجال الأعمال الجدد الذين انتهزوا واستغلوا الثقافة لملء الجيوب عبر التسول بها، بل أن الاستغلال تجاوز كل شيء ليصل إستغلال عمال البلدية في حمل ونزع لافتات المهرجان 38.

6*أسئلــة السؤال
على طول صفحات الكتاب حاول الكاتب أن يحلق بنا في عالم خاص داخل مدن خاصة "ملونة"بكل أطياف الحزن والألم الذي تراكم لسنين عديدة وسط فزع هائل، ما جعله يتوقف أحيانا ليصرخ وبأعلى صوته تارة وكمناضل في تخوم الهامش برفقة الفقر والفقراء 42 وتارة كفيلسوف "تائه" كاد أن يغمى عليه في هذا العالم المصاب بالجنون, 11 فلم يتحمل مسائلا ذاته والآخرين: ما الذي يحدث إذن؟ 32 وتارة كالمنادي وسط أولئك الذين كسر الفقر ذاتهم وقارب أن يتجاوز إنسانيتهم: "أين المجالس البلدية؟ المسؤولة عن الوضع وأين ذهبت الميزانيات المنهوبة؟ 30 التي رصدت وترصد كل سنة، فهل حولها أصحابها غنيمة لهم واستأثروا بها لأنفسهم حتى ظهرت عليهم مختلف صنوف النعم في بطونهم المنتفخة ووجوههم المحنكة 32، فهل نعمة هؤلاء كانت كذلك نتيجة لامتصاص ما تبقى لنا من كريات ملونة؟ 11.

إنها أسئلة عديدة مطروحة بين ثنايا الكتاب/ وأخرى سكت عن توجيهها لبعض المدن خشية أن يتعبها.. لأنها غارقة في الحزن 31، كما أن البعض منها مازالت تغط في النوم.. تملأ الدنيا شخيرا.. وربما خوارا 33/ تحاول أن تلمح لسبب الوضعية وتوجه أصابع الاتهام لأصحابها فورا لكن للأسف لا أحد يجيب 30.

فهل المتهم يرفض الاعتراف أم أن الذين لا قدر لهم سوى الحزن والتهميش والآلام لا يقدرون على الكلام وسط وضع خاص تواصل فيه كل أصناف القوى المخزنية استعراض عضلاتها 15.

ترى هل هذه الوضعية قد تدفع الكاتب للصمت مستقبلا، فحاول استباق الحكم بالاعتذار مسبقا عن الكلام المباح 28 أم أن السؤال/ الأسئلة/ سيبقى دوما كما كان مفتوحا ومشاغبا للمقاربة والاكتشاف والانكماش 3.

إنه حزن خاص حين ضاع السؤال الذي لا ينفتح إلا لينغلق 3 وسط متاهة خاصة فلم يجب عنه أحد؟ لكن هل سمع أحد السؤال قبل أن ننتظر الجواب؟ من يدري؟ لكن الأكيد أنه لا جواب 16.

ويبدو أن الأسئلة لن تتوقف عن التناسل ولو بصيغ مختلفة لكن دون جواب عملي أو نظري لذلك نجد الكاتب تشاؤم طويلا وبدرجة كبيرة لدرجة أن الأبيض لم يعد رمزا للسلام 17، وحين مل كان السؤال الصاعقة الذين يحمل إجابة شاملة وهو متى نستوعب الدرس؟ 52 .

خاتمة

إنها لوحات مختلفة نقلها لنا الكاتب بكل أمانة طالبا منا التأمل، والصراخ ضد تغيير ما يمكن تغييره بل ألا يعتبر الصمت مؤامرة ضد مدننا وضد ذواتنا، وكان منظرا شقيا حين رأى أن اللوحات المعبر عنها تتكرر في كل مكان وع تعاقب الزمان وأن المغلوبين على أمرهم كأصنام مع وقف التنفيذ لم يتحركوا، لم يدقوا الخزان الذي يرقدوا داخله، بل هم يباركون الحكاية/ الحكايا بكل أشكال التواطؤ ولو ضد الذات. مما دعا الكاتب للاستغراب والتساؤل عن هذا الزمن الغادر فعاد واستعاد وحاول من جديد أن يستعيد دوامة من الأفكار الشقية 48 ليصعقنا بأسئلته التي يطلقها من رشاشه الرحيم صوبنا لعلنا نفهم، لكن هل تحقق له ما أراد؟! 33 فهل تراه حقق ما كان يحلم به؟ 34 أم بقي يتأمل فقط ويلاحظ من بعيد عبثا عابثا 19 بكل شيء لا جواب لكن الأكيد أنه بعد طول تأمل ومعاناة ورفع لشعار ليسقط الصمت 13 اكتشف الكاتب أن المسألة أكبر وأعمق، فالجميع نحت لنفسه بوعي أو عن غير وعي طريق الدم المغدور 11. مما استلزم منه اتخاذ احتياطاته الخاصة، لذلك بعد أن أبدى أسفه على الماضي الغادر... والراهن المنسي.. وتاريخ الغد المجهول 22 للمدن الملونة بالبؤس والفقر والضياع والتيهان اللامحدود. لم يجد بدا من الاعتراف كالمنهزم في آخر لحظات المعركة، وبعد التأكد من ضياع صرخاته في الهواء مجانا أن هذه المدن ضاقت بالعقلاء.. ولا حيلة أمامه/ أمامنا للبقاء في غابة الأقوياء إلا بالرحيل إلى فضاءات أخرى يغيب فيها التعقل والعقل والعقال والأغلال! والانطلاق نحو تيه جميل نتحرر فيه كلية من لغة الخشب وصدوية الموقف! 43 لماذا ترحل وتتوقف؟ ألا تخشى لعنة/ لغة الحيطيزم 12 ودنيا الانبطاح 2 التي حذرت منها مرارا وفي لحظات عدة وتغادرنا، ومن سيواصل طرح السؤال؟؟؟ فهل سيعود عبد الرحيم المعطر بشغف السؤال اليومي المستفز للخيال الفردي والجماعي في إبداع آخر ليطل علينا بأسئلة مختلفة وبانعطافات أخرى شائكة, مستعصية على الفهم؟! 22 أم أن الكاتب سينحت لنفسه طريقا جديدا..11 بعد قناعة بادية أن العمل صعب جدا جدا في زمن التلوين 16 هذا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى