السبت ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم سامية إدريس

حزمة قوس قزح

 هواء ساخن وغيمة يتيمة في شتاء فقير.
قليل من الحمق يكفي لقهر كبرياء بلدة يشهد التاريخ بقصة حملها المتجدد لسنابل القمح. هاهي البلدة الصغيرة في شرق الجزائر تتعطر باسمها العتيق " فج مزالة " تضع يدها على خدها. تتأمل العمارات الغبية التي ارتفعت من رحمها كمخلوقات مشوهة غريبة. لا تحيد عن رسالتها المرجعية احتضان أسرّة النوم.

الآن وقد تراجع جموح أشجار الخروب التي طالما احتضنت الهواء في الشوارع يمكن القول إن البلاط الذي سيغير وجهه في السنة القادمة قد نام بسلام. با عتباره الكائن الوحيد القابل للتجدد.

هنا كان لمنى بيت. وقبلها كان لها حلم. وقبل الحلم كان الوجود وكانت الطفولة المعتقة في الشمس والغبار والحرائق. وقبلها جميعا ولد مشروعها الكبير أعذرني فلم أجب عن سؤالك الأول: من تكون منى؟

 نستطيع القول وبسذاجة منافية لكل النوايا السيئة. وباختصار إن منى هي الفتاة البا سمة. لا تضحك من فضلك. فلست أروي قصة ما قبل النوم لابنتي. ولكني أروي قصة حقيقية عن فتاة عرفتها. أنت لا تفهم. لن أقول فتاة سأقول إنسانة تفاديا للاحتمالات الوهمية المضمرة في الداخل فلم تكن بيننا تلك الارتباطات العاطفية المعقدة التي عادة ما تنأى بنا عن التعبير عن تجليات أرواحنا الحقيقية. بعيدا عن كل تلك الحسابات ذات النهايات التراجيدية غالبا والتي تتربص بالمحبين عند كل منعطف. أستطيع القول ودون مبالغة أننا عشنا الحرية في أبهى صورها. أقول لك إن معرفتي بهذه الفتاة كانت بعيدة عن كل أغراض دنيئة. طبعا ليس من السهل أن تتجاهل فتاة مثلها. 

 لهذا انطلقنا منذ البداية من نقاط واضحة كأنها معالم في الطريق بعيدا عن أذيال المثالية الحالمة. فقد كانت لي ابنة وزوجة وبيت ومائدة عامرة وفراش دافئ. وهي أيضا كان لها خطيب وأحلام ومشاريع وحجارة تنتظر الترتيب وفجوات بحاجة لخيالها الخلاق. لهذا حينما أطلعتني على مشروعها رحبت به منذ البداية لأن ثمة تحصينات وجدران مقاومة للاختراق وصمامات أمان في كل زاوية.

 كانت متخرجة جديدة ستلج عما قريب أدغال النفس البشرية لا تتوانى ملامحها ــ عيناها بالخصوص ــ عن الإعلان المباشر عن حضورها الآسر. ماذا كنا نسميها يومئذ؟ نسمة الهواء؟ لا. ندى الأيام ؟ لا. كيف سميناها يومئذ ؟ حزمة قوس قزح نعم هو هذا. قل لي بربك لم هذه التسمية ؟ الأمر بسيط يتعلق بفلسفة رأيناها حينئذ غريبة وبلا هوية.

جاءت إلينا ذات صباح شتوي عابق بالبرد والجليد وقد طوت مطريتها منذ أسابيع داخل حقيبة يدها. محملة بباقة من الورد. وقفت وسط القاعة المشبعة برائحة القهوة والشاي وروائح الجروح والأنات والضعف والشيخوخة. كان الجميع يعرف أجواء المستشفى و شخصيا كانت ركبتاي تبدآن في الارتعاش كلما ولجت عتبات الباب الخارجي. وطبعا الداء عام حتى أنك في كثير من الأحيان لا تستطيع تمييز الطبيب من المريض أو العكس. كانت حالة الاكتئاب عامة. حتى ولو خرجت إلى الشارع ووسط الأصحاء سترى ودون جهد كبير ملامح الداء بادية على الوجوه والأخطر من ذلك أنه بدأ يزحف باتجاه نضارة الأطفال. لا أحد على الإطلاق فكر في الحل: لم وجوه المدينة بأكملها ذابلة ومتغضنة. كأنما تتهيأ للنهاية ؟ وضعت منى باقة ورد على الطاولة وقذفتنا بالسؤال. هل هو الغذاء أم الماء أم الهواء ؟

والتفتنا جميعا. كل الأطباء التفتوا نحو الصوت. أعني أن كبار الأساتذة في الطب وذوي الآمال العريضة أيضا فعلوا. بالحركة ذاتها والاستدارة المستغربة. للمرة الأولى أرى منى. بل أنظر إليها بتمعن ولعله كان تحديقا يدفع إلى الريبة. الغريب أنها ظلت تنتظر الإجابة. عيناها تطرفان بهدوء وابتسامة راعشة تحط بلطف على شفتيها. ولون وردي فاتح يكسو وجهها. أنا ــ ولعل الجميع فعل مثلي ــ بقيت أنقل بصري بين منى وبين باقة الورد التي من كل الألوان الوردي والأحمر مع صفرة النرجس و بياض البابونج وخضرة السيقان وأسأل نفسي أيهما منى وأيهما باقة الورد؟
 
 كأنها قد قرصت آذاننا وهي ترى زحف الشيخوخة المبكر نحونا كما لو أنه التصحر يغشى البلدة الزراعية التي تضع يدها على خدها وتتأمل في أسى المخلوقات الغريبة التي طلعت من رحمها فيما ذكرى سنابل القمح تؤرق لياليها الطويلة المليئة بالسهاد.

 نقرت منى بأصابعها الرهيفة على الطاولة. الآن أيها الحكماء ألم تقسموا أمام الله بمد يد المساعدة لكل من يحتاج إليها. وهاهي بلدتكم تتوجع من داء غريب ! إذ لا أحد سيعرف سره غيركم. فماذا أنتم فاعلون ؟ ألا تسمعون أنينها الخافت ؟ وصفرة وجهها كأوراق الخريف ؟

 أعرف أننا عدنا من الإضراب منذ أسابيع قليلة وبخطى ثقيلة نحو الحاضر حتى أبريئ المستقبل من الآثام إذ لا بريق يومض في الأفق سنبقى جميعا أسرى هذا الداء الغريب الذي اجتاح حياتنا. سنسميه ندرة حزمة من فيتامين قوس قزح وهو المسبب للاكتئاب والمؤدي لاسوداد الوجه وذبوله وارتخاء الركبتين وانطفاء الابتسامة والشيخوخة المبكرة والموت العاجل. لهذا كثرت قوافل الحراقة باتجاه الشمال أقصد البحر.

ومن أعراضه الأخرى التنقل بين المكاتب والإدارات لإعداد آلاف الملفات أو الانضمام إلى قائمة مفتوحة برصيد فارغ تسمونها جميعا جيل"الحيطست " أو ربما إهداء البيوت المتحركة التي هي أجسادنا لألسنة النار هل فكرتم جميعا ؟ أرأيتم ما أرى ؟ وكنا فعلا قد رأينا الداء يزحف نحونا مذكرا إيانا بالطاعون الأسود والمجاعات فارتعدنا. ورفعنا أبصارنا نحو منى فرأينا عينيها تتقدان بشعاع ملون من ألوان قوس قزح‘ وكانت تلك بداية بحثنا عن العقار المضاد للشيخوخة والاكتئاب والموت المبكر وكان يكمن هنا في أرواحنا وقلوبنا وعقولنا ومواضع أخرى ستضاء ذات يوم. فقط لأننا عرفنا أن قليلا من الحمق قد يقتل مدينة بأكملها. ولن يبقى فيها غير وجه البلاط القابل للتجدد. وهواء ساخن وغيمة شتوية عقيمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى