السبت ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

حسنين الشيال

حدث نفسه، كالمجذوب، وهو ما زال يستحل الرصيف، بحثاً عن حمال يساعده على أن ينقل له خزانته الرابضة في بيته، كالصخرة، من محل سكنه إلى محل رزقه؛ هذا كل ما في الأمر يا ناس، يا هو... صرخ دون انتباه أو قصد، كأنه يكلم الناس ويدعوهم إلى وليمة... ولم يجبه أحد، كما لم يستجب لندائه حمال؛ خاصة عندما انتصف النهار وما عاد ثائر، يتحمل الوقوف والصبر والانتظار...

ثائر، شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة من حصيلة حياته؛ له أنف صغير، دقيق، كحبة بلوط، زرعت في وجه عينان مكورتان، كالخرز يشع منهما بريق غير منتظر، ولنظراته حدة جليه، صارمة، كالتي تنطق بها عينا صقر؛ أنيق المظهر، حلو المعشر، رقيق المشاعر، كفتاة عذراء، عذب اللسان، خجول ومهذب، لكنه يحب المزح وصاحب نكته، ويميل للهزل الساخر، الهادف، المتزن... الذي يمرره من خلال جديته الحقيقة الصادقة؛ مازال طالباً عند الصباح، عاملاً عند المساء، إذ كان يدير متجراً صغيراً لبيع القطع الفضية التي تفنن في صنعها مذ كان صغيرا...

أتعبه الوقوف والتحديق بالناس، والشمس لا ترحم الساكنين تحتها، فكأنها تحاول أن تستعيد عرشها المنهوب مجدداً بالقوة التي تمتلكها؛ وثائر، أصرَّ أن يكون كالثائر... فظل يسأل المارة وأصحاب المحال التجارية القريبة، إن كانوا يعرفوا أو يأتوا بأحدهم... ولم يحصل إلا على جواب بالنفي، بقولهم: سوف لن تجد حمالاً له الوقت لمساعدتك! فهم وفي مثل هذه الأجواء الحارة القائظه يزداد عليهم الطلب، بحيث لا يستطيعون حتى من حك رؤوسهم أو أقفيتهم!!

صدقهم وهو يمص شفتيه اليابستين، كأنهما قطعة حلوى، وبقى ينتظر، كثور الساقية، قد يحن عليه أحدهم أو أن يجده بحدسه، ولعل بصوته... تائهاً أو جائعاً أو فارغ اليدين... وطال صبره وقضم هواجسه... التي باتت بعيدة التحقيق أو المنال، ولا أمل مرجو من الانتظار... فقرر العودة خالي اليدين، كحمال بلا عمل، لا يملك ما يحمله؛ حتى تقرب منه أحدهم وهو يصفر، كأنما يشخر، يتغربل في مشيته، كأنما يرقص؛ وقال بلهجة مصرية، صعيدية، متسائلاً والفرحة تعلو محياه، كأنما سيزف الليلة:

أنت تبحث عن شيال(يا باشا)؟!

 كاد ثائر يفسد على المصري فرحته، من خلال الضحك على منظره، الذي ذكره فجأة، بفزاعة الطيور والغربان- ثم نظر له بتمعن، ومن خلال نظراته الحارة القاصفة... لم يقتنع به تماماً، كشيال كما قال، فاختار الصمت، ولم يرد.

 تقربت فزاعة الطيور منه أكثر، حتى أصبحت قبالته، وكرر سؤاله: أنت تبحث عن شيال( يا باشا )؟! واستطرد بنفس الرنة، وكأنه تلقى الجواب: أنا هنا( يا بيه )... أنت لا تراني؟! أم لا تراني؟!

 أخز الشيطان يا رجل، أمش من هنا أرجوك، دعني وشأني، فأنا أصلاً هنا لأتسلى، وليس لي ما أريد حمله أو نقله... ( أجابه ثائر مقتضباً وبانفعال )

 أجابه نائحاً: ولماذا أخزيه؟ وهل نحن سنعمل شيء وسخاً لا سامح الله؟!

لم يعد ثائر يطيق الرائحة النتنة، العفنة التي كانت تنطلق من بين ثنايا فزاعة الطيور التي تصف نفسها بالقوة والحكمة، فتراجع قليلاً، وهو يهمس في سره: ما عافاك الله رغم قهرك! ثم أردف: شيء بغيض... من أين خرجت لي؟!

بدا ثائر أكثر هدوءا، وحاول أن يروض أعصابه أو يهدئها ولو قليلاً، دون فائدة، فقد كان داخله يغلي وخارجه معروق ومحروق، كبركان ينوي الانفجار، فالحر كان لا يطاق، ووقوفه الطويل أتعبه، ورائحة الفزاعة تزفر رائحة مميزة، لا يمكن السكوت عليها، أو تحملها طويلاً، كتلك التي تنشرها جثة حمار نافق، متفسخ والذباب من حولها ينبش ويهبش! - ولو أراد إنصافه، لشبه رائحته، برائحة البول المختمر- فشرح له بكلمات بسيطة ما يدفعه للبحث عن حمال، وقال في نهاية حديثة المقتضب أصلاً: يا عزيزي، ليست عندي مشكلة، أن يكون الحمال، عراقياً أو مصرياً، أو حتى العفريت الأزرق شخصياً، المهم هو أن يقوى على حمل الخزانة التي أنوي نقلها... ثم باغته بالسؤال:

هل تعرف ماذا تعني خزانة؟

 نعم، أنا أعرف، الخزانة تسمى في بلدنا- صندوق- تمام(يا بيه)؟ أليست هي كذلك؟!

ثم أردف مضيفاً: لا مؤاخذه تعني صندوق... وهو يركز على حرف القاف كثيراً، وكأنه يسعل قافات!!

 ما اسمك؟ (سأله برنة مصرية وبنبرة صعيدية دون أن ينتبه على نفسه)

 أنا خادمك، حسنين الشيال.

 وما هو عملك، يا حسنين؟!

 شيال(يا بيه)... شيال وروح المرحومة أمي... (قال ذلك برنة، وكأنه صبي تائه وهو يبكي)

 يا رجل، قل كلام آخر... كي أصدقك!! إذ وكما أرى ودون مؤاخذه يعني... أنا لا أرى أمامي سوى فانوس (كاز) بفتيلة محروقة ولم يبق منها سوى خيط محروق لا يقوى على الاشتعال! ثم انتبه إلى نفسه... فحاول أن يلطف الأجواء التي توترت بينهما بسرعة دون قصد مسبوق، فحاول جاهداً أن يجد ما يقوله لتخفيف وطأة ثقل الحديث، ولم يجد سوى ما هو أتعس، فقال: أقصد فانوس أظلم، عتيق ومتهالك، لا يصلح للإضاءة أو الاستعمال!!

 ربنا يسامحك(يا بيه)... وهو يضحك بفم واسع، كفم تمساح مفتوح.

 يا حسنين، اتق الله فيما تقوله، فأنا أملك خزانة ثقيلة لا يزحزحها الشيطان، بجلالة قدره... بينما أنت تريد حملها لا زحزحتها!! وأنا لا أراك سوى خفاش نائم معلق، رأسه إلى الأرض، وأجنحته معلقة إلى الأعلى كخروف يراد سلخه!!

 لماذا تتكلم معي بهذه الطريقة؟! أنا لم أعمل لك شيئاً، ثم تنحنح وقال: هذا جزائي لأنني أريد مساعدتك وأنقل حاجتك؟

كاد ثائر يقول: أنت رجل عاقل يا خفاش، حد الغباء! لكنه اعدل عن القول، وارتاح لذلك قليلاً، فأجابه: يقال بأن الجهل يؤدي إلى الخوف، والخوف يصلك إلى الكذب، والكذب سيد الشياطين!! ثم تراجع نصف خطوة- اتقاء الرائحة- وتابع: لا تزعل من صراحتي يا عم حسنين، الحذر واجب، وأنا أخاف عليك لا على نفسي، فأنت بالتالي من سيتحمل عبء ووزن الخزانة... ستأتي معي، ولكن بشرط، أنا غير مسؤول عما سيحدث لك؟ ثم همس بصوت لا يكاد يسمع، كأنما يكلم نفسه: قصف الله رقبتك يا مهزوز، ستفضحنا وستكون رنة فضيحتنا، كرنة جناجل غجرية وهي ترقص! إنه من الظاهر لم ير نفسه بالمرآة منذ ولادته! إنه لا يتعدى على صليب من خشب منخور، مفروش عليه قطعة قماش مرقعة سوداء، لقد قلت ولم يعجبه وصفي، فزاعة غربان، والله يا عم حسنين أنت في بلدكم يضعونك هناك... في الحقل لتخويف الطيور، منظرك وشكلك يدلان على هذا، ما ذنبي أنا؟! لنجرب إذن وكما تريد... ولسوف نرى!!

 هتف حسنين غير مصدق: اتفقنا(يا باشا)... حتى لو مت... ماذا يعني؟ فأنا في عداد الموتى!!

لا تشرح لي ظروفك يا ممصوص، يا خشبه صليب، أمش معي وأنت صامت، بع لي سكوتك يرحمك الله، ولكن تذكر وعدك... ثم بلع كلماته التي قالها في سره، ولم ينطق بها: لا يسكن في قلبه سوى إبليس، ولا تتحرك أطرافه أصابعه إلا بإمرته، أنا أعرفهم جيداً... يفهمون في كل شيء، ولا يعرفون أي شيء، ولا يقتنعون بأنهم لا يقدرون!! شاء الله أن يجمعنا هنا بغير موعد.

استقلا تاكسي، وجلسا الواحد خلف الآخر، فبدأ ثائر بسؤاله هازلاً، تضييعاً للوقت:

ألست يا عم حسنين مصرياً؟

 نعم(يا بيه) أنا من ريف أسوان.

 إذن أنت شقيقي؟!

 نحن كلنا أخوة، ثم أردف بثقة زائدة متملقاً: ألسنا مسلمين؟!

 لقد أخطأت يا شقيقي هذه المرة، ثم استطرد ثائر بجد مازح قائلاً: نحن أخوه صحيح... لكن اختلاف الدين لا يفسد علاقة الإنسان بأخيه... أليس كذلك؟

 هذا صحيح(يا بيه) ثم استطرد بفرح: في بلدنا أناس كثيرون مسيحيون، ونعتبرهم أكثر من أهلنا.

 لذلك يا حسنين، سأناديك يا روح أخوك!!

 لم أفهم.

 أجابه ثائر وهو يمثل معه دور المتأثر بالرد: هذا أحسن.

 مازلت لم أفهم.

 انتهينا يا روح أخوك، قلت لك هكذا أفضل...

 قال مغموماً: مادام الأمر يسعدك... هكذا أحسن، ثم عقب: ولماذا نفهم؟ ونوجع رأسنا؟ وتابع بقهر: حياتنا هناك... في بلدنا لا تختلف كثيراً عن حياة البهائم... هل تصدق بالله؟

(همس ثائر في سره: ليسَ كثيراً) لكنه رد عليه بصوت عال موثوق منه قائلاً: نحمده، لأنني لست متعصباً!! لم يعر حسنين أهميه لقوله، وتابع ما يريد وبرنة ودودة ومتمسكنة، وكأنه يشحذ: نحن أناس نعلف الشعير، كالبهائم! وتابع كلامه بانكسار ورغبة في البكاء: أصل الجوع سيء وقاس؛ ثم أردف مغالياً: نحن شعب لا نحب أن نجرب الحياة، يعني التجربة لنا، كالخطيئة... أقصد دراويش(يا بيه)!!

 حاشاك الله! ولكن لتعلم بأن الجهل، كالجوع... كلاهما ثقيلان!! ثم أشفق ثائر عليه فجأة، وشعر بالتعاطف معه... تناسى رائحته البولية المختمرة، وتقبله هكذا على صدقه وبراءته... ولم يكن ثائر يعرف- بحكم حداثة سنه - بأن الحياة والحكم على أحياؤها لا يأتيان بسهولة ودون عراقيل... ولكل شيء، ثمن.

دخلا الدار سويه، والخزانة في مكانها رابضة، كالصخرة، فوق جدار عريض من الأسمنت (تنظر لهما هادئة، مستهزئة، وكأنها تعرف قوتها ومكانتها)... رفع الحمال ثوبه الأسود المرقع، اليتيم على الأرجح، وعضه بقوة، وكأن ثوبه سلسلة حديديه يريد قطعها كي يتحرر! وأشار إلى ثائر وهو يتلفت حوله، كالمخدوع: سأجلس تحت الصندوق، محاذياً له وللجدار الذي يحملها... ولا عليك سوى دفعها على ظهري كي تستقر، ثم أردف بوقار لا يعود إليه: وأنا بدوري سأتلقفها بيدي، لأجعلها تستقر على قفاي، وكأنه ابني! سأحمل الصندوق وأركض به... وسترى روح أخيك (يا باشا)... كم هي قوية وعزيزة!!

 (حدث ثائر نفسه) ستموت لا محال... سيقضي عليك صندوقي النحس، التعيس هذا، أنا متأكد مما أقول...

تنحنح الحمال قليلاً، ثم ركع، كأنما ينوي الصلاة محاذياً للجدار... وهو يترقب الآتي... عندها تشجع ثائر قليلاً، وهو يعلم بأنها رغبة الممصوص، خفاش الليل، فزاعة الغربان... ولم يعلم ثائر في تلك اللحظة الحاسمة التي ستقصم ظهر الحمال، إن كان قلبه قد رق له أم قسا... ولم يتوان... حتى دفع الخزانة صوب ظهر حسنين، والأخير قام بدوره كما وعد... حتى تزحزحت الخزانة واستقرت تماماً على ظهره، فأصبحت وكأنها طافية على سطح بحر، تتمايل، لكنها لا تغرق!! لكن الأمر لم يسلم، كما توقع ثائر تماماً... تخاذل المقهور... اضطرب، كالمحشور ولم يجد مكاناً يتبول فيه! ترنح ثم تمدد على الأرض، وكأنه يسبح، والخزانة فوقه... يصرخ ويصيح، كالديك وهو ينظر إلى ثائر جانبياً، كالسمكة وبعينين عكرتين: أنقذوني... سأموت يا ناس... أرحموني... أنزلوا هذه الجاموسة من على ظهري، يرحمكم الله...

 غمغم ثائر حائراً، مرتبكاً: كيف أساعدك؟! وهو يردد بمهل: شيال على سن الرمح!!

 (يا بيه) أقبل يدك... أنزل الصندوق من على ظهري أولاً، أرجوك، أتوسل إليك... ومن ثم اعمل بي ما يعجبك وما يحلوا لك!!

 أجابه بنكد: يا روح أخوك، لو استطعت تنزيل الخزانة، كما تقول، لسهل علي حملها وبالتالي نقلها... وما كان علي البحث عن حمال، بل لماذا أنت هنا؟!

 صرخ مغتاظاً: أنا كلب ابن ستين كلب( يا بيه) وكما ترى فأنا ما انقطعت عن النباح، أرجوك ساعدني(قال حسنين ذلك وهو مازال يتمتع بالموت تحت الخزانة)

سأله ثائر بخبث شيطاني عجيب، وببرود قاسي، أثقل من وزن الخزانة نفسها: سألتك قبل أن نأتي عن عملك، وقلت لي بأنك شيال، وقسمت بروح المرحومة أمك على ذلك، حصل؟

 حصل(يا باشا) - أجابه حسنين بسرعة الطلقة، وهو مازال يئن تحت الضغط - ثم استطرد بانكسار ووهن: لقد كذبت عليك، وقلت لنفسي، رزق يا حسنين لا تتركه! وهذا كل الذي حصل؛ أقسم بالله العظيم... هذا الذي حصل... فقط، فك وثاقي، حررني من هذا الحمل الثقيل!

 وما هو عملك الحقيقي يا هيكل يا خشبي؟

 في بلدنا(يا بيه) أعطي حقن، يعني بلا مؤاخذة، مضمد صحي... وهنا اعمل في صيدلية مستشفى اليرموك، أرتب الأدوية وأضعها في أماكنها وخاناتها ورفوفها... ثم صرخ بقوه وهو يتأوه ويتألم، وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة: دين الصندوق على الخزانة على القاصة... لم أعد أتحمل، سأنفق، كالحمار دون رحمة... أنقذني أرجوك... خلصني(يا بيه)... أجلّك الله وخلصك من ناره الحمراء(قال ذلك ومنظره أصبح مخيفاً جداً، كخرقة مبلولة وجفت، بعد أن انحسر الدم في وجه وازرق لونه وانقلبت سحنته، كأنما أحدهم دلق حبراً عليه)

وبدافع لعين، وجد ثائر نفسه يتعاطف معه من جديد، وهو يقول له بحزم وصدق: سوف لن أتخلى عنك، ولن أمد لك لساني... سآتي بمن يساعدنا نحن الاثنين حالاً... تحمل قليلاً... سأجعلك ترتاح، كمؤمن بعد الصلاة... وهو يهمس في سره: لا ردك الله لي يوما... وهرع إلى الجيران يطلب العون منهم.

وما أن أعتدل الحال، وخرج حسنين من تحت الخزانة... حتى فرد طوله وحك قدميه في الأرض، كالديك، ثم نفض عن ثوبه اليتيم المرقع، الغبار... وصاح بثائر وبصوت جبار: اعذر تجاسري ومغامرتي البلهاء التي لم أحسب لها حسابا، ولم افرق بين الطين والعجين، قصف الله رقبتي وعمري... لكنني سأركع تحت الصندوق من جديد... ولنحاول مرة ثانيه... ثم أردف متمماً، وكأنه يريد كسر الخوف والصمت: التكرار... يعلم الحمار، مد الله في عمرك، وأعلى من شأنك... اجعلني أجرب مرةً أخرى... وحق دين النبي!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى