الأربعاء ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم يوسف حسين الشوفي

حلوى بلا سكر

كان العمال منهمكين بتلميع زجاج الواجهة، بينما وقف المشرف يراقبهم ويعطي تعليماته، بأن تكون واجهة محل الحلوى لائقة بقوالب الحلوى ومحطّ نظر الزبائن خاصة الأطفال.

وقد وقف عدد من المارة ينتظرون ما سيُعرض من حلوى، في هذه الأثناء دخل العمال حاملين قوالب الحلوى بحذر شديد، وأخذ المشرف يوجههم بوضع كل قالب بمكانه الصحيح. راح المارّة يشيرون إلى ما أعجبهم من حلوى، ويقفز الأطفال فرحين محاولين إلصاق وجوههم بزجاج الواجهة.

كل هذا الصخب والاهتمام أعجب القوالبَ، فصار كل قالب ينظر لنفسه ولغيره من القوالب، وكل قالب يعدُّ العيون والأيدي التي تشير إليه، بل ويتخيل مَن من هؤلاء المعجبين سوف يلتهمه، وكيف سوف يلتهمه؟ هل سوف يستمتعون بطعومهم المختلفة وألوان الفاكهة المزينة بهم؟ هذه الأسئلة تثير اللغط بين القوالب، تصل لحدّ الغيرة أو التباهي بمكوناتها.

فتقول المزيّنَة بالشوكولاته السميكة: الكل يحب الشوكولاته لاسيما الأطفال وسوف يقبلون على اختياري من بينكم, فأنا الأشهى....

اعترض القالب المزين بالفراولة: لا ..لا.. الفراولة يحبها الجميع وسوف يقبلون عليّ.

ضحكت المزيّنَة باللون الأبيض: ولماذا لا يقبلون عليّ؟ فأنا أجمع الأصناف جميعها الفواكه والشوكولاته والكريمة.

وبينما هم في هذا الجدال الذي لا ينتهي، كان المشرف يوسّع مكاناً صغيراً بين القوالب، فساد الصمت بينهم، وهم يحاولون توقّع شكل القطعة التي سوف تأخذ هذا الحيّز، والقلق بادٍ على ملامحها، خشية منافستهم لفت النظر إليها، والإقبال عليها من قِبل الجمهور. وربما لفت هذا بعض الذين ما زالوا يلصقون عيونهم بواجهة الزجاج، على أملٍ بخيارٍ جديد، يحسم لديهم فضولهم لالتهام الحلوى.

أما الذين اختاروا مسبقاً ما يشتهونه فكانت عيونهم تسبقهم إلى قطع الحلوى، كأنها أيادٍ تداعب القطط الصغيرة، وهذه بدورها تحاول قدر ما تستطيع عرض مكوّناتها وما تتميّز به بدلال لافتٍ.

وسط هذه التكهّنات همست قطعة الحلوى المزينة بالشوكولاته لجاراتها: لابدّ أنّها قطعةٌ مخصّصة لأميرٍ أو أميرةٍ أو طفلٍ مدلّلٍ.

طال الانتظار وسط صمت خارجيّ، بينما يسود الضجيج في أعماق قوالب الحلوى وفي داخل عيون وخيال المنتظرين من الزبائن.

هنا توجّهت الأعين لصوت أقدام المشرف، كان رأسه مرفوعاً، جادّ الملامح, واضعاً يداً خلف ظهره والأخرى يمدّها بشكل مستقيم, يحمل قالب حلوى صغيراً (صغير) لا يظهر عليه أيّ أثرٍ للزينة، سوى أنه تفوح منه روائح زكية تنفث وسط روائح الشوكولاته والكريمة والفواكه المجففة والطازجة، وضع القالب الصغير مكانه، وبدأت الهمهمات تسود مع الروائح، إمارات (أمارات) الدهشة باديةٌ على الجميع، البعض هدأ لديه ضجيج التكهّنات، حيث اطمأنّت بعض قوالب الحلوى لتميّزها، والبعض الآخر الخبير، مازال يتخيّل تميّز القالب الصغير بروائحه، فلا بدّ أنه يحمل مفاجآتٍ أخرى، أما جمهور الزبائن، فقسمٌ منهم ارتاح لاختياره المُسبق، والقسم الآخر مازال لديه الفضول لهذه النكهة الجديدة. فُتح الباب قاطعاً ومُنهياً الأقاويل والهمهمات، ليدخل الجميع ويختاروا من الحلوى ما لذّ لهم وطاب.

بدأت القوالب تتناقص قطعها شيئاً فشيئاً، وكل قالب يتأمل شهية الزبائن وقد آلمها كيف يأكل بعض الأطفال دون مراعاةٍ لهيئة القطعة وزينتها، فالمتعة الوحيدة لديهم كانت بتخريب قطع الحلوى، أما الآخرون فيعملون السكين بالقطع دون استمتاعٍ بنكهات الحلوى.

هنا قالت قطعة الحلوى المزينة بالفراولة: هل نُسعدُ حقّاً جمهور الأطفال؟ أم أننا لم نعد نختلف بنكهاتنا وزينتنا وسط هذه الفوضى والشراهة. فما معنى أن نكون متمّيزين ومختلفين عن بعضنا؟

قالت المزينة بالشوكولاته: عُدّي كم قطعةً يلتهم الأطفال لتعرفي أنّ هناك تمايزاً بيننا.

فردّت المزينة بالكريمة: لكن الكل سعيدٌ، فكلّنا نشترك بإسعادهم، وكلٌ منهم له طريقته بالسعادة والفرح، أمّا نحن فمصيرنا هذه الفوضى، على أمل أن يحفظ الزبون بخياله ذكرى طيّبة تعيده إلى هنا، ليجدد اللقاء والفرح معنا.

وسط مواساة قوالب الحلوى لبعضها وتعنّت بعضها، ووسط الصخب في المطعم وأصوات الصراع بين السكاكين، وتلقي الصحون للضربات، وطغيان ضحكاتٍ على أخرى، وسط كلّ ذلك فُتح الباب من جديدٍ، لكن كان الداخل ملفتاً للنظر، جعل القوالب والزبائن والعمال يتوجّهون بأنظارهم إليه.

كان فتىً صغيراً يحاول جرّ كرسيه المتحرّك, تساعده امرأةٌ تبتسم ملامحها دون أن تتكلم، دخلوا المطعم وبرفقة الصبيّ فتاتان صغيرتان كذلك، وقفوا في المدخل، ثم جاء العامل ليرحّب بهم، لكنه تركهم وذهب مسرعاً لطلب المشرف، الذي جاء مُشرقاً، مُتخلّصاً من الجدية التي ظهر بها منذ فترةٍ، تكلّم معهم ثم دعاهم للجلوس حول طاولةٍ مستديرة، وبقي الصبيّ جالساً على كرسيّه.

الذي لفت انتباه الجميع وجعلهم ينظرون نحوهم، هو جديّتهم وهدوؤهم، فلم يكونوا صاخبين رغم أن ابتسامات صغيرة تمسح وجوههم ولا تغطيها، اللافت كذلك أنّ المشرف بذاته دون أن يطلب من العمال إحضار قطع الحلوى، تقدّم بشكل مباشر من زجاج الواجهة وتناول قالب الحلوى الصغير, وسط دهشة الجميع، ثم غاب لدقائق وأعاد قطعةً واحدة منه للمكان الفارغ الصغير، وقدّم بنفسه باقي القطع للزبائن الهادئين، كانت قطعاً صغيرة، حملوها بأيديهم دون الاستعانة بسكاكين، ودون طرقٍ على الصحون، ما أثار القوالب أكثر، كيف أنّ الصبيّ أغمض عينيه حين قرّب القطعة من فمه، وراح يشتمّها، ثم يقضمها بهدوءٍ، وكأنّ حواراً خيالياً يجري بينه وبين قطعة الحلوى.

هنا أدركت قوالب الحلوى خيبتها وتأسّفت لمصيرها في تلك الفوضى وسط ذلك الصخب الشديد، كان جمهور الذين يلتهمون قطع الحلوى يتهامسون، كلٌّ منهم يحاول فهم ما يجري.

تدخّلت قطعة الحلوى الصغيرة بصوتٍ رقيقٍ سعيدٍ هادئٍ: كلٌّ منّا يحاول إسعاد الآخرين كما قلتم لكن على طريقته، وبما يملك من مقوّمات، فلا تنزعجن وتتأسّفن لعدم اختيار ذلك الصبيّ لكنّ، لأن بي ميزة تجعله يختارني، أو بالأصح لا يستطيع اختيار غيري..

قاطعها الجميع بصوتٍ واحدٍ: ما هذه الميزة؟

ردّت قطعة الحلوى: لأنه ببساطة طفلٌ مريض بالسكريّ وأنا ميزتي أنني خالية من السكّر!!.. فلا تتأسّفن، أنتم أسعدتم عدداً كبيراً وسوف يعودون لهذا الفرح دائماً، أمّا أنا فأسعدْتُ طفلاً واحداً وقد يكون هناك غيره في هذا العالم، المهمّ أن نكون قادرين على إسعاد غيرنا ونعرف بالضبط ما الذي يسعدهم.

= انتهت =


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى