الأحد ٢٧ شباط (فبراير) ٢٠٢٢

حليب الضحى لمحمود شقير في اليوم السابع

ديمة جمعة السمان

ناقشت ندوة اليوم السابع الثّقافيّة المقدسيّة مجموعة قصص قصيرة جدّا للأديب الكبير محمود شقير تحمل عنوان حليب الضحى، صدرت المجموعة عام 2021 عن مكتبة كل شيء في حيفا، وصمّمها ومنتجها شربل الياس، وتقع في 235 صفحة من الحجم المتوسّط.

افتتحت الأمسية ديمة جمعة السمان مديرة الندوة فقالت:

"حليب الضّحى" جنس أدبي جديد هجين.. يجمع بين القصّة القصيرة جدّا والرّواية

في كل إصدار جديد يفاجئنا الأديب محمود شقير، بأسلوب متجدّد يثير الجدل.

في مجموعته القصصيّة "حليب الضّحى" لم يكن الجديد في الفحوى فحسب، إذ أن المرأة دائمة الحضور في كتاباته، فهي الأم والأخت والإبنة والحفيدة والحبيبة... الخ. ولم يكن الجديد أيضا في تناوله واقع المقدسيّين في مدينتهم المحتلّة المقهورة بفعل الاحتلال الغاصب. إذ أن شقير أفرد إصدارات كاملة عن القدس التي يعشقها، والتي لا يعتبرها أي مكان فحسب، فهي كل شيء ذكره ولم يذكره في مجموعته، تسكن الوجدان والأحاسيس والمشاعر، وتتربّع داخل حجرات القلب، تأبى أن تغادرها.

كان الجديد في "حليب الضحى" أنها تميزت بلون جديد هجين، يجمع بين القصة القصيرة جدا والرواية، وكأن شقير يؤسس لجنس أدبي جديد.

المجموعة عبارة عن سلسلة من قصص قصيرة جدا، مربوطة بخيط رفيع، يجمعها كخرز المسبحة، تقرأها رواية متكاملة، تقدّم لك تفاصيل الحكاية، مع الاحتفاظ باستقلالية كل قصة قصيرة جدا من ال 202 قصة، إذ أنّه من الممكن قراءة كل قصة منفردة، والاكتفاء بها، تماما كقصصه التي اعتدنا على قراءتها والاستمتاع بمفرداتها المكثفة الغنية، قليلة العدد وكبيرة المعنى.

حليب الضّحى لون جديد لا ينحاز للرّواية، ولم ينحز للقصة القصيرة جدا أيضا، بل جمع بينهما في قالب جميل منمق، فقدّم لكل قارىء اللون الذي يرغبه، فإن رغب في القصة، يقرأ كل قصة باستقلالية تامة، ويبحر في خياله، يغوص في الكلمات يحللها ويصنع منها حكاية طويلة. أما القارىء الذي يبحث عن الرواية والترابط بين الأحداث فيقرأها "رواية". كما فعلت انا، فقد استمتعت بأحداثها المترابطة المتكاملة بشخوصها وعلاقاتهم ببعضهم البعض، ونسيت أو تناسيت ما كتب على غلاف الكتاب: (قصص قصيرة جدا).

"حليب الضحى" نصوص تحمل الوجهين بتقنية المحترف. كتبها شقير بأسلوبه السهل الممتنع، فيها الوصف والخيال والمعلومة والعمق والدهشة والعبرة والألم المغموس بالأمل.

رأيت فيها الانسان بضعفه وقوته، ابتسمت حين ابتسم، ومسحت دمعته حين حزن، وفرحت لفرحه، وغضبت لغضبه، وتألمت لألمه.. وتأمّلت الخير معه بمستقبل فجر آت.

ولكن، ماذا قصد شقير بحليب الضّحى؟ وهل يختلف حليب الضّحى عن حليب الصّباح؟

وفق تفسير بن سيرين للأحلام، فإنّ شرب الحليب في المنام، يعني الرّزق والمال. إذن، هو وصف للعامل الذي يخرج في وقت الضّحى ليلتقط رزقه، ويعود لعياله آخر النّهار بالرّزق الوفير، ليلبّي احتياجاتهم ويوفّر لهم حياة كريمة. ولكن هل يستوي رزق الذي يسري صباحا، ورزق الذي يفوته الصّباح؟

تناول شقير حياة عائلة بدوية، يخرج أبناؤها إلى مدينة القدس بحثا عن الرّزق الوفير. وقد كان لكل ابن من أبنائها قصة لها دلالات اجتماعية ونفسية، منهم من يتزوج ليكتشف أنه عقيم، وآخر يتزوج ليكتشف أن زوجته عاقر، ومنهم من يتوه بين الموبقات السبع، فيرتدّ ويصحو من غفوته على يد امرأة اسمها مريم، وهي نصرانية الديانة. لم يختر الأديب شقير أسماء شخوصه بعفوية، بل قصد أن يوظف كل اسم لخدمة نصوصه، إذ كان كل اسم يشكل دلالة لها أبعادها.

"قيس" العقيم طلّقته زوجته نفيسة، فتزوج ليلى العوراء التي عشقته بعد أن علمت أنه يكتب رواية، وهي تحب الروايات.

قررا أن يتبنيا طفلة، فأسمياها "قدس".

نفيسة، طليقة قيس تزوجت رشيد، فأنجبا طفلا أسمياه قيس. نفيسة أرضعت قدس، فأصبح "قيس" و"قدس" أخوين في الرّضاعة. استشهد رشيد -والد قيس الصغير- برصاص الغرباء، الا أن العلاقة الحميمة بين الأسرتين زادت تقاربهما، وجعلت منهما أسرة واحدة متحابّة.

ركّز شقير على رضاعة الطّفلين، وعلى مشاعر الأمومة، وحاجة الأم لإشباع غريزتها.

أمّا مدينة القدس، وواقع مجتمعها المرير، فقد كان له حظّا كبيرا في المجموعة.

فكان الشّهيد والأسير والجريح، وكانت جرافات الغرباء التي تستهدف المنازل وتترك سكّانها دون مأوى. وكان جمال القدس بطبيعتها الخلابة، وتنوّع فصولها الأربعة. وكان جمال روح من يسكن القدس: الطّيبة والرّحمة والتّكاتف والتّعاطف والانتماء والإخلاص مكلّل بالأصالة.

تحدّثت مجموعة "حليب الضّحى" عن النّكبة التي شرّدت الفلسطينيين من بيوتهم، وتحدّثت عن ضياع المراهقين داخل مجتمع الغرباء، حيث تتوفّر فرصة العمل. فهناك الخمر والنّساء والموبقات بأنواعها، في ظلّ غياب المناعة النّفسية والاجتماعيّة. ولا يصحو الشّاب إلا بعد حين، وقد غرق في وحل الخطايا، إلا من رحم ربي.

مجموعة "حليب الضحى" هي عبارة عن عدّة صور اجتماعيّة سياسيّة اقتصاديّة تاريخيّة جغرافيّة متراصّة، جعلت منها لوحة إنسانيّة كبيرة، وثّقت سيرة شعب ومكان في زمان حرج، ينتظر رؤية توثيقيّة إنسانيّة بعيدة عن التّوثيق التّاريخي التّقليدي الذي يزيد من ظلم الإنسان، ويحوّله إلى رقم لا قيمة له.

وقال الدّكتور عمر عتيق:

ثورة في بناء الخطاب السردي في (حليب الضحى)

الكتاب ليس قصة قصيرة جدا ،وليس رواية وفق المعايير البنائية للسرد، وإنما الكتاب رواية بتقنيات القصة القصيرة جدا مؤسس على التقنيات المعاصرة للسينما من حيث المشهد واللقطة والتعالق المنفصل بين المشاهد، وعليه يعد الكتاب ثورة على مفهوم الأجناسية الأدبية.

تشكل البنية الاستعارية المكثفة للعنوان (حليب الضحى) صورة غير مسبوقة فيما أعلم، إذ ورد في الشعر العربي صورة حلب السحاب، أما حليب الضحى فلم يرد. وتضمر الصورة التشخيصية بنية دلالية عميقة ومضمرة تتوزع بين حنايا قصص المجموعة، ولكنها لا تكشف الخمار عن دلالاتها لقارئ عادي بل تحتاج إلى متلق قادر على تفكيك البنية العميقة، وجمع جزئيات الفضاء الدلالي الكلي الذي تناثر في أعماق القصص التي اختار لها الكاتب تقنيات معاصرة مستمدة من السينما والدراما في الغالب.

سيميائية الإهداء تختزل الفضاء الدلالي لمضمون الكتاب في البعدين الوطني الذي يتجسد في القدس. والاجتماعي الذي يتمثل بالحفيدة "ريتا".

يدل النص الوارد في صفحة الإشارة إلى أن نصوص حليب الضحى امتداد فكري ووجداني لرواية ظلال العائلة، وأن "ليلى" في مجموعة القصص القصيرة جدا والروائية تعد معادلا موضوعيا لرؤية أيدولوجية وطنية، وتعد أيضا فضاء مشبعا بالأبعاد الدلالية الاجتماعية .

خصص الأديب صفحة تحمل رقم (1) أورد فيها قول سلفادور دالي (لا تخف من الكمال فإنك لن تُدركه)، ومن المرجح أن الأديب يختزل فلسفته في الحياة بهذه المقولة ، لأن الأبعاد الدلالية لنصوص الكتاب تعبر عن اللون الرمادي للبعد السيكولوجي للإنسان، ففي النص ثنائيات القوة والضعف ، والفرح والحزن وغيرهما، كما يرد في قصة (ذلك الهش) (ذلك الهش الضعيف القابل للكسر؛ المتين الرصين في الوقت نفسه)

يشكل الفضاء المكاني في معظم النصوص البعد الدلالي المركزي المبأر على الرغم أن الكاتب يكتفي بالإشارة للمكان، والتفصيل السردي للحدث، ولكن البنية العميقة المقصودة هي المكان، ففي نص (قيس) يأتي حي رأس النبع في القدس إشارة مكانية. ويشكل نص (يافا) ثنائية المضمر والمعلن، فالمضمر (يافا) التي جاءت عنوانا، وإشارة عابرة في السطر الأول، والمعلن مشهد رومانسي مفعم بالحب والأنوثة يقترب من لقطة سيميائية، ولكن المضمر هو المقصود الذي يختزل الحق التاريخي بالعودة إلى يافا، وكأن الكاتب يرسم مشهدا سرديا مثيرا يفضي إلى وهم المتلقي بالمقصود. وفي قصة (سبب الحب) يصور السرد المعلن البطالة والاضطرار للعمل في مجالات بعيدة عن التخصص، ولكن السرد المضمر يدعو المتلقي إلى معرفة مخرجات سياسة الاحتلال في القدس التي اختزلتها عبارة (البطالة دفعتني للعمل في هذه المهنة الخطرة في الظروف التي تحياها القدس).

تتناغم العناقيد الدلالية في النصوص مع تقنيات بناء القصة القصيرة جدا، إذ تأتي موحية مكثفة دالة، ففي قصة (قيس) تكثيف دلالي يتوزع على حرمان الاحتلال للمواطن الفلسطيني من العمل بسبب مواقفه الوطنية، واحترام رغبة الزوجة بالطلاق التي تؤسس لمفهوم "ثقافة الطلاق والانفصال"، وتأثير التفاوت الطبقي في الزواج، كما في قصة (الحبيب قيس) التي تصور الرفض الغاضب، والغيظ من زواج قيس سائق التاكسي المنحدر من أصول بدية، وهي قضايا اجتماعية كبرى اتسعت لها سطور معدودات.

تشغل الصورة الحركية حيزا لافتا في المتن السردي، تقترب من المشاهد الدرامية، ففي نص (يافا) يتجلى تتابع الأفعال الحركية (ذهبنا، مشينا، خلعت ليلى فستانها، نزعته عن بياض جسد، ارتدت ملابس السباحة، وقفت تتأمل، حملتها بذراعي)

تحفل غير قصة بالانزياح الدلالي بين المشهد التصوري والمشهد النفسي ،ففي قصة (قلق) يرسم الكاتب صورة فنية تعبق بالأنوثة والجمال في قوله: (حينما تنزل درجات باب العمود ، وهي تتأود مثلَ سروة بفستانها الرشيق)، ولكن المشهد النفسي يشكل ثنائية ضدية مع المشهد الأنثوي الجمالي لأن نزول تلك الجميلة الفاتنة الرشيقة عن درجات باب العمود يرافقه توتو وقلق وخوف في قول السارد (ينزل قلبي معها الدرجات).

وفي قصة (هديل) يمتزج الحب بالحرب ، والفرح بالخوف ، والسكينة بالقلق، ففي المشهد التصويري تتجلى دلالات الحب والتأمل والتفاؤل في قول السارد: ( قلت : لك ولي رونق الصباح .ورائحة البن ، وغبطة النوافذ المشرعة، وهديل البنات الذاهبات إلى المدارس)، وفي المشهد النفسي انزياح دلالي يسلب المشهد التصويري جمالياته في قول السارد: (قالت: لك ولي هذا الهدوء الذي قد تعصف به الطائرات).

وفي قصة (البرية) يتماهى الانزياح الدلالي الحاد بين مشهد تصويري مفهم بالحب والأنوثة كما يتجلى بقول السارد: (خلعت فستاني وكورته بين يدي، ثم طوّحت به، فاستقر بين العشب، من دون خوف أو قلق. ثم عاد به قيس إليّ بعد ساعة لذيذة من ألق)، ولا يخفى أن المشهد التصويري يَضمر النشوة والشهوة وانصهار الجسدين، ولكن الفضاء النفسي مثقل بالحزن والحنين؛ لأن اللقاء في البرية كان بالقرب من قبر الشهيد، واللقاء محفوف بقلق من عيون كاميرات المستوطنات التي ترصد كل صغيرة وكبيرة، فالانزياح بين المشهدين تأكيد انتصار الحب على الحرب والخوف، والتأكيد أن التمسك بالحياة ومتعتَها أقوى من مخاطر الاستيطان.

يستمد الكاتب من السينما تقنية قطع المشاهد السردية ، والفصل بينها بقصص لا تتعلق بها مباشرة، ففي القصة الأولى (قيس) يخبرنا السارد أنه استجاب لرغبة نفيسة بالطلاق في قوله: (تزوجت نفيسة؛ ابنة عائلتي، وبعد ثلاث سنوات طلبت الطلاق؛ فلم أتنكر لرغبتها.) وتخلو القصة الثانية (يافا) من الكشف عن سبب الطلاق الذي يُفصح عنه الكاتب في القصة الثالثة (ذلك الهش) في قول السارد: (ابنة عائلتي نفيسة طلبت الطلاق لأنها كانت ترغب في الإنجاب) . وفي القصة الأولى( قيس) يخبرنا السارد بحبه لليلى، وفي القصة الرابعة (سبب الحب) يخبرنا بأسباب الحب. ويتأخر التعريف بشخصية ليلى حتى القصة الثانية عشرة التي جاءت بعنوان (ليلى)، إذ تعرض القصة بطاقة تعريفية لليلى (اسمي ليلى محمد حسن القانع، ولدت في القدس والأصل من يافا)، وتكشف كذلك عن البعد الوطني السياسي والحق التاريخي بالعودة إلى يافا ،وهو البعد الذي جاء مضمرا في القصة الثانية (يافا)، إذ يبوح السارد في القصة الثانية عشرة بما سكتت عنه القصة الثانية (رصاص أعدائي اضطر أجدادي إلى مغادرة بيوتهم ، ومطارح الذكريات)

تؤسس بعض القصص لثقافة البوح والتطهر، وتغلّب "الأنا" على "الهو" حينما يحدث صراع بين رغبة الرجل بالزواج والحقوق الفطرية الغريزية للزوجة، كما في قصة (لؤم ) ( أشعر في بعض الأحيان بأنني مخادع لئيم، وإلا لماذا أوقعت ليلى في حبائلي وأنا أعلم أنها كانت راغبة في إنجاب الأطفال؟)

يعتني الكاتب باستحضار اللحظة الزمنية المتوترة المتماهية مع الموقف الوجداني المضطرب، كما تجلى في قصة (قلق)

يجسد دال الزمن (حين) الزمن المتوتر الذي يصور مشاهد من الحياة اليومية المثقلة بالقلق في حياة الفلسطيني في القدس، فالوصول إلى مكان العمل، والمرور من باب العمود، وتفتيش جنود الاحتلال للمواطنين، والسير في أسواق القدس مشاهد يومية محفوفة بالمخاطر.

ويتجلى اضطراب الموقف الوجداني في الفعل المضارع المسند للقلب في أربعة مواضع الذي يرصد التموجات النفسية من قلق وخوف وتوجس وارتياب.

تسهم لغة الجسد في الكشف عن الفضاء النفسي، ففي قصة (مناجاة) تكشف التعبيرات الحركية عن دلالات تعجز اللغة عن الكشف عنها في قول السارد: (هزت رأسها بين قبول واعتراض، أو ربما هو الدلال الذي يجعها غامضة في بعض الحالات).

في المجموعة القصصية نصوص تشكل معمارا رمزيا يتسم بالانفتاح الدلالي نحو التأويل اللانهائي الذي يتسع وفق ثقافة المتلقي في التحليل والتأويل، نحو قصة (دليل) ( قالت ذات نهار: الطريق طويل. قلت: نحكي حكايتنا ونمشي، وقلبك هو الدليل .مشينا ومشينا وما زلنا نمشي حتى الآن ).

يعيد الكاتب صياغة مفهوم الحب الذي يتجاوز الرغبة في الإنجاب في قصة (ندم)، إذ إن الحب عاطفة إنسانية أقوى من غريزة الإنجاب وديمومة النسل، ولكن هذا المفهوم الإشكالي لا يخلو من صراع نفسي بين الحب وحده، والإنجاب في العلاقة الزوجية، وأرى في هذه الإشكالية مساءلة فلسفية لمؤسسة الزواج تتجاوز الأهداف المألوفة من الزواج.

ويتجلى الصراع النفسي بين الحب وحده، والرغبة في الإنجاب في قصة (أولاد وبنات) حينما يتكرر حلم ليلى في المنام أنها أنجبت أولادا وبناتا.

يستعين الكاتب في بعض القصص بالمرجعيات الثقافية لتعزيز الرؤية الفكرية السردية، نحو استدعاء قول الشاعر: لا يعرف الحبَ إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها

تعرض القصص مشاهد من قضايا اجتماعية حرجة نحو تعرض الفتيات القاصرات للتحرش الجنسي في قصة (نهدي الأيسر)، واللافت أن القصة تشير إلى أن المتحرش رجل في الأربعين من عمره، وليس مراهقا، وفي الإشارة للعمر تكمن أزمة أخلاقية لدى كبار السن، وتثير لدى المتلقي أسئلة تحفر في البنية الاجتماعية والمستوى الثقافي لفئة الرجال المتحرشين، هل يرتبط السبب بالشبق أم بالحرمان الجنسي أم بأمراض نفسية سلوكية؟

ومن المغرب كتب حسن المصلوحي:

محمود شقير؛ فلسطين، ثدي الحياة و حليب الذكريات

كنت أظن أن شاعريّة الوصف في القدس والمرأة قد استنفدت عذوبتها مع درويش الذي قال عن القدس أنها امرأة من حليب البلابل، حتى قرأت هاته القصص القصيرة جدا للأديب محمود شقير التي عنونها ب "حليب الضحى". قرأتها البارحة في ليلة ماطرة اصطفت فيها قطرات الجَوْد على نافذة غرفتي مصرة أنها لن تكمل رحلتها نحو الأرض، إلا بالاحتفاء بهاته اللحظة التي لا كاللحظات... لقد وجدتني أمارس نوعا جديدا من القراءة، و كأنه الرقص على نغم الكلمات والمعاني، وغوص في ما وراء الحروف، هنالك هنالك حيث تكمن الحقيقة الخجولة... لا يبوح شقير بمكنوناته مجانا، إنها كتابة مرهِقة، متمنِّعة عن العشاق الذين يكبح الخمول جماح خيالهم.

ليس خفيا أن الأديب محمود شقير متفرد في هذا المنجز، مخاتل، محتال على أصناف الأدب وأجناسه؛ فالعمل صُنّف على أنه قصص قصيرة جدا، لكني قرأته شعرا وومضات بلجاء تصطاد من الحياة ما يجب الظفر به، و هو أيضا رواية بل روايات متكاملة، تدعوك إلى التقاط الكلمات ورتق الصور المفرقة في بهاء وجمال لتكوين صورة كبرى، بل صور تتنوع بحسب مخيال القارئ.

أكاد أجزم بأنه حقا نوع جديد من صنوف الأدب، وإذا سمح لي أديبنا أن أسميه "رواية القصص الشاعرية القصيرة"، إنها رواية تجمعت فصولها عبر ومضات قصصية والتقاطات باذخة تفسح للخيال المجال ليسمو بعيدا بعيدا... وفي القدس وضواحيها يحلو السرد والقصيد، وتحلو الذكريات ولحظات الحياة اللذيذة رغم الهجر واليتم والعقم والسجن... عبر شخوص عديدة وعلى لسانهم قصّت القدس نفسها على وقع خطوات الأطفال الصغيرة في الأزقة والحارات. في أحاديث النساء والشيوخ والحيطان التي تشهد بأن التاريخ لنا لا لغيرنا.

أرى أن هذا العمل يمتلك أبوابا عديدة لقراءته، أبواب ليس من السهل فتحها، أبواب بل ومستويات عديدة للقارئ، فالرواية هي حكاية أزواج يتفاعلون مع الحياة بلحظات الفرح فيها ولحظات الألم، وهي أيضا مشاعر الحب، الحقيقي منه والزائف، وهي أيضا القدس التي ترضع كل ضحى أمة جائعة حليب الكرامة! والرواية أيضا تعرية لواقع إنسانية أصبحت تتأبط الغدر والقهر تحت رداء من سراب، مفضوحة ظهرت عورات هذا الزمن الديوث داخل الرواية.

و بعين الشاعر الذي لا زالت أبيات عيون الشعر العربي تلازمه وجدت في الرواية "ليلى"، وتذكرت ليلى مثلما كان يتذكرها مجنونها والليالي الخوالي، وتذكرت ما قاله فيها: "على مثل ليلى يقتل المرء نفسه"، وبدا أن ليلى العاقر هي قدسنا التي لم تعد تلد الحياة، هي قدسنا التي تنكرت لها بطنها فأصبحت تلد الخيبات، وحين تبنت ليلى طفلة هدأ روعي وتذكرت أنه إن عازك بطنك اجعل بطون الناس بطنك وأرحامهم رحمك. تدور الأحداث ويحلو السرد في ليلى وحواليها التي يدعوها الكاتب لئلا تخشى الكمال لأنها لن تطاوله، وأن بعض السعادة، كل السعادة تكمن في النقصان. ويمضي بنا في هودج الكلمات العذبة المرهفة الرنانة؛ ليحكي لنا عن تفاصيل الحب والبحر والرواية و مشاعر اللؤم والخوف والقلق والدلال لليلى، الذي لا يليق إلا بها. يناجي طفلة تنتظر الحلوى فتحصل على قلب هائم وعبق وحفنة ذكريات، وقلب ليلى نبراس الوجود في ديجور الحياة القاسية ومشوار العنت الذي نسير فيه جميعا، فأين غابت ليلى ليغيب هذا الضوء الذي لطالما آنس وحدتنا؟ وفي الرواية أيضا استدعاء للتفاصيل حيث يكمن المعنى الذي يستدعي فك الرموز؛ يحضر الهديل والصباح والبن وأرصفة المدينة وتحضر سيدة المقام "ليلى" المقدسية الأصيلة، التي تفصح عن نفسها لنحفل نحن القراء بالحديث إليها، تخبرنا أنها تورطت في الحب ورغم ذلك أحبت واستمرت على الدرب رغم السأم والضجر ولحظات الوهن... وفي برية القدس نكتشف أن الحلم يجب أن يصبح حقيقة، وأن الحب ربما يكون درعا أمام العدو وسيفا يزرع في خاصرة المحتل... وعبر مريم المسيحية المقدسية ومحمد يعيد الكاتب كتابة تاريخ المكان والزمان وفضح اللقيط القادم من شتات الأرض؛ ليرسم لنفسه صورة من رصاص، وهنا كان لا بد أن يحضر درويش برمزيته الخالدة، ويتردد نشيد الحياة بأن عليها ما يستحق الحياة، ونتوقف أيضا عند تيمة الصمود والعيش من أجل قضية والوفاء والبهجة والخريف والحب الذي يصمد وحده أمام قسمات الزمن ونكبات الأيام، إنه ذلك السمو فوق قوانين الطبيعة وحتمية الوجود.

صُور الكاتب كانت مدهشة، جياشة بالمشاعر، مراوغة وعجيبة؛ فتراه يتنقل بين لحظة ألم تتعرى فيها الأشجار خانعة لرياح الخريف، ويعود بك إلى قطة تنام إلى جوار المدفئة، فتتساءل ما الذي قصد بذلك؟ فتغيب في تأويلات وتأويلات وقد تنتهي باللاشيء، لا فكرة، لا نتيجة ولكن بلذة شاعرية تستقر في سويداء القلب، وإذا حُزتَ نصيبا من القدرة على التأويل وتطويع المشاهد، قد تقول في نفسك (كما قلت أنا) ربما في ساق ليلى الذي أبى أن يزعج راحة قطة ما لا تحويه قلوب الملايين، ويدعوك عبر المشهدية إلى الحب الذي لا طريق للحياة إلا طريقه...

ماذا أقول؟

لا أعتقد أن ورقة نقدية كهاته كافية لقراءة هذا المنجز المتفرد، بل إن كل أقصوصة داخل هاته الرواية تحتاج لدراسة خاصة ومعمقة، فيها ما هو نفسي وما هو اجتماعي وتاريخي... فيها الموسيقى والشاعرية وذكاء في اللعب بالكلمات لا يخفى على القارئ.

وعبر رمزية الثدي يمكن أن نحلل الصورة، فالثدي هو الملاذ الأول أمام الوجع، الثدي هو الأمّ وهو الزوجة وهو الطفلة، الثدي هو الحياة التي يجب أن نتمسك بها حتى لا ننسحب أمام زبانية الموت، فلا نلوم امرأة ترقب ثديها أمام المرآة منتظرة أن يجود حليبا يطفئ عطش الروح التي تتحرق شوقا لفلذة الكبد، فالأطفال هم القضية وهم النصر... فوصف الكاتب القدس بأنها انعتاق وبأنها البراءة وهي الغضب أيضا حين يستلزم الأمر ذلك، القدس هي أهلها هي كل شيء هي اليتم والكمد والمجد والصمود... لتنتهي الرواية بيد تمسك بأختها على ضوء الأمل؛ ليبقى كتاب الحياة مفتوحا تشهد سطوره بأنه ما زال عليه متسع لكتابة حياة جديدة.

عمل سردي يمتح من معين خيال شاعري خصب يجعل القراءة متعة حقيقية، عمل يحتفي بالحياة و يزرع الأمل في النفوس بأن ثدي العروبة يوما ما سيحلب الحياة ليسقيها عزة و شموخا لأفواه أعياها الجوع وهامات كسرها الخنوع.

فهنيئا لنا بك أديبنا "محمود شقير" حارسا للحب و الحياة في زمن الحرب والموت.

وقال جميل السلحوت:

هذه هي المرّة الثّانية التي أقرأ فيها هذه المجموعة القصصيّة لأديبنا الكبير محمود شقير، وقد تهيّبت من الكتابة عنها في المرّة الأولى، خوفا من أن لا أعطيها حقّها، لكن بما أنّها طُرحت للنّقاش في ندوة اليوم السابع المقدسيّة، فقد وجدت نفسي ملزما بالكتابة عنها.

ومن يقرأ هذه المجموعة القصصيّة سيجد أنّ أديبنا شقير قد أعادنا إلى شخوص ثلاثيّته الرّوائيّة" فرس العائلة، مديح لنساء العائلة وظلال العائلة." ولا يفهمنّ أحد من هذا القول أنّ أديبنا يكرّر نفسه، بل العكس هو الصّحيح، فكلّ جديد للأديب شقير مدهش أكثر من سابقاته، فأديبنا دأب على التّجريب ويأتينا دائما بما هو جديد ومدهش. ففي ثلاثيّته الرّوائيّة صاحبنا الأديب في مراحل حياتيّة لعشيرة العبداللات، التي تسكن أطراف القدس من الجهة الجنوبيّة، وكيف تطوّرت، ومعروف أنّ "العبداللات" لمن يعرف سيرة الأديب سيجد فيها شيئا من سيرة آبائه وأجداده وأبناء بلدته.

وهنا لا بدّ من التّأكيد أنّنا حظينا كفلسطينيّين وكعرب بمحمودين: محمود درويش في الشّعر، ومحمود شقير بالسّرد القصصي والرّوائي.

وسيلاحظ القارئ لكتابات محمود شقير أنّه يمتلك لغة شعريّة وشاعريّة لافتة. لكن ما يجب التّوقّف عنده، وآمل أن يلقى دراسات من قبل نقّاد أكّاديميّين محترفين، هو ضرورة الإنتباه إلى مجموعته القصصيّة"حليب الضّحى" ومجموعات قصصية أخرى سابقة للأديب شقير حيث أنّه يؤسّس لفنّ روائيّ جديد لم نعهده من قبل، فمن يقرأ مجموعاته الأخيرة في القصّة القصيرة جدّا، سيجد بقليل من الأنتباه ودون عناء، أنّ بإمكانه قراءة كل قصّة منفردة، وإذا ما قرأها بتسلسل سيجد نفسه أمام رواية، وهذا يشير بقوّة إلى قدرات أديبنا السّرديّة، والسّؤال الذي يطرح نفسه هو: هل نحن أمام فنّ روائيّ جديد؟

وجوابي أنا شخصيّا: نعم نحن أمام فنّ روائيّ جديد أبدعه الأديب شقير.

وفي مجموعة "حليب الضّحى" وأعود هنا إلى "ثلاثيّته الرّوائية"، يواصل الأديب شقير سرد شيء من سيرته الذّاتيّة، مغموسة بالواقع الذي عايشه هو وأبناء جيله، لكنّ القدس تبقى محورا أساسيّا في قصصه، بل هي المكان الرّئيس الذي تدور الأحداث فيه، فأديبنا تسكنه القدس وهمومها وحرصه على فلسطينيّتها وعروبتها ليس جديدا عليه، فهذا ما اعتاد عليه وما اعتدنا على رؤيته في إبداعاته.

ومحمود شقير الذي يطرح ما يرديه بفنّيّة عالية بعيدة عن المباشرة يبقى إنسانا كبقيّة البشر، فهو يحبّ ويكره ويعاني ويفرح ويتألّم نجده يعاني ويحمل معاناة شعبه وقدسه ووطنه من بطش الاحتلال، ونجده ينحاز إلى المرأة التي يراها شريكة الرّجل ونصفه الآخر، كما ينحاز إلى الأطفال وبراءتهم التي بنتهكها المحتلون. ويؤكّد في قصصه على الأخوّة بين أبناء شعبه المسلمين والمسيحيّين.

وواضح أن الأديب شقير يحمل تقديرا عاليا لصديقه الرّاحل محمود درويش، وهو مطّلع على شعره وعارف لوعيه، ومتأثر به، لذا نراه يتّكئ على مقولته "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة" ويبني عليها أقصوصة بعنوان "حوار" ص74. ويشير بعدها مباشرة إلى درويش قائلا:" صمتنا لحظة: ثمّ تذكّرنا معا شاعرنا الذي غاب قبل الأوان." ص74.

يبقى أن نقول أنّ هذه العجالة لا تغني عن قراءة المجموعة القصصيّة اللافتة بشكلها ومضمونها، وأكرّر على ضرورة دراسة هذه القصص من قبل أكّاديميّين محترفين، وآمل أن تحظى بذلك من عديدين وفي مقدّمتهم الدّكتور عادل الأسطة الذي أشار إليها في عجالة كتبها قبل أيّام قليلة.

وقال الدكتور صافي صافي:

رموز ومعاني في "حليب الضحى"

ليس من السهل أن أكتب عن أعمال الكاتب المتميز محمود شقير، فهو علامة فلسطينية في الكتابة الفلسطينية النثرية، وهو أكبر من أن نفهمه، ونفهم رسالته الممتدة الأصيلة، ليس فقط من خلال الكتابة وإنما من حيث انغماسه في العمل النضالي منذ عقود القرن الماضي. إن خبرته الطويلة في الكتابة وفي العمل النضالي، هي بوصلة لي، فعلى كتاباته تتلمذت أنا وجيلي، وهو اسم أفخر به أمام العالم، وأمام نفسي.

ليس هنا المجال لأذكر كل ذلك، وما لم أذكره، لكني وودت أن أطرح بعض التساؤلات في مجموعته القصصية "حليب الضحى" الصادرة عن "مكتبة كل شيء"/ حيفا عام 2021، وتقع في 238، وتحتوي على 202 قصة قصيرة، وهي امتداد لكل ما أنتجه ونشره طوال حياتنا التي نعرفها.

وحدة المجموعة القصصية

يعجبني أن أقرأ وحدة الموضوع في المجموعات القصصية، ولا أحب أن أقرأ قصصا متناثرة، وهذا ينطبق على مجموعة كاتبنا محمود شقير إلى حد بعيد، فمحمود يشغله كل شيء، وتشغله التفاصيل، وينحاز بشكل واضح للطفولة، والمرأة، والقدس، وضواحي القدس، والعمال، والذين يعيشون تحت، مناصرا لقضاياهم، وهمومهم وآمالهم، وأحلامهم وتأملاتهم.

قلت أحب أن أقرأ وحدة الموضوع في المجموعات القصصية، ولفت انتباهي في هذه المجموعة موضوع "العقم" الذي سأتناوله بقدر ما أستطيع، وأنا لست بناقد، ولا أدعي ذلك.

البداوة والمدينة

ليس صدفة أن تكون الشخصيات الأساسية في المجموعة القصصية من آل العبداللات، ف "منان" شيخ العبداللات"، المزواج، له ثلاثة أبناء في المجموعة، أكبرهم محمد الكبير من أمه فاطمة، وقيس علامة المجموعة الرئيس، ومحمد الأصغر، وعليوان.

محمد الكبير، ولد من علاقة غير شرعية بأبيه، عمل في مقهى في يافا، يتردد عليه رجال ونساء، يهوديات وأجنبيات، تعلم السكر والطيش، طرد من العمل ثم عاد بتعهد. تعلق برفقة التي تكبره بخمس سنوات، التي قتلت على يد زوجها الأزعر، ثم تزوج مريم المسيحية المقدسية، وهي التي دلته على الطريق إلى ظلام السجون (ص36)، فهي التي صنعت منه إنساناً صاحب مبدأ وعقيدة، فكانت معبودته الأولى والأخيرة.

محمد الأصغر، ابن وضحى، تزوج سناء التي لا تنجب، ولم يتبنيا طفلا كما قيس وليلى، وظل معجباً ب "ماريا زخاروفا" الروسية الشقراء التي تتقن الرقص. كان مريضا أثناء طفولته، وسكن أريحا ثم يافا للعلاج. فكرت بالانفصال وترك البيت، و "كانت المفاجأة حين تشبثت بي وضحا ومحمد وثلاث من نساء العائلة" (ص80).

أما قيس ليلى، فكان أن تزوج قريبته "نفسيه"، ثم تطالقا بسبب عقمه، فتزوج ليلى العوراء، وأحبا بعضهما، وتبنيا طفلة، سمياها "قدس". هي ابنة الحسب والنسب والأصول اليافاوية، والمقدسية السكن، والمعلمة. أحبته لأنه نوى أن يكتب رواية، وهي تحب ذلك. حلمت بستة عشر مولودا أو سبعة عشر، ورغم أنه خريج معهد معلمين، إلا أنه عمل سائقاً في شوارع القدس.

أما نفيسة، ابنة عشيرة العبداللات، طليقة قيس، فتزوجت من رشيد، عامل البناء المجتهد المواظب، فرزقت بمولود أسمته "قيس"، فأرضعته، و "قدس" ابنة قيس وليلى بالتبني، حتى صارا أخوين. استشهد رشيد وهو عائد من عمله مساء.

وظل "عليوان"، الذي قرر الانفصال عن عائلة العبداللات، وعمل مراسلا في مؤسسة، وتزوج من زهية، بائعة دوالي العنب في أسواق القدس، أنجبا "رهوان" المشاغب، وصارت عقيمة.

من الواضح أن أولاد "العبد اللات"، قد ارتبطوا بعلاقات زوجية خارج العشيرة، وأغلبها مدنية أو ما يقترب منها كما يبدو.

العقم

لا أدري سبب مرض العقم في أبناء عائلة العبداللات، سواء من الرجال أنفسهم أو نسائهم. ولا أدري سبب اختيار الكاتب شقير لهذا الحالة إن صح القول فالكتابة اختيار، وتوجهات، ورؤية، وشقير حين يكتب، يفعل ذلك برؤية واضحة له، بوعي، وتتضح لنا في سياقات القصص الواردة.

من المعروف أن العشائر البدوية، مزواجة، ولودة، فالعشائر تشكل بطوناً وأفخاد، ولا أعرف العدد الحقيقي لأبناء "منان العبد اللات"، فهو هنا تناول أربعة منهم، وظل الباب مفتوحا للتخمين.

فإذا كان قيس الذي تزوج قريبته "نفسيه"، ولم يرزق منها بطفل/ة طفلة، فإن شقير، يتبنى موقف أن زواج الأقارب سيؤدي إلى "العقم"، لكن نفيسة نفسها حين تزوجت من غريب (رشيد)، عامل البناء المجتهد، فإنه رزق ب "قيس"، ثم استشهد أثناء عودته من العمل مساء.

أما "عليوان" الذي تزوج "زهية" بائعة الخضار، فإنه رزق منها ب "رهوان" المشاغب، وانقطع نسلها. هل يعني ذلك أيضاً أن علاقة البدوي بالفلاحين لا تؤدي إلى نتيجة، إلا ما ندر؟

وتبقى حالات الزواج بالمدنية، كما في محمد الكبير ومريم المسيحية (مدنية بالطبع)، وعلاقة قيس بليلى، فتبنيا طفلة بسبب عقمه، ومحمد الأصغر المتزوج من سناء العقيمة. هل يعني ذلك استحالة خروج البدو إلى المدنية، والعيش فيها كما هم؟

إذا كانت هذه الزاوية التي تناولتها مهمة، فهذا يعني، أن شقير يشير إلى عقم العلاقة بين البداوة والبداوة (قيس/ نفيسة)، والبداوة المدنية (محمد الكبير/ مريم، وقيس/ ليلى، ومحمد الأصغر/ سناء)، والبداوة الفلاحية (عليوان/ زهية)، والديانة الإسلامية والمسيحية (محمد الكبير/ مريم). فهل قصد ذلك؟ ولا تنفصل عن ذلك علاقة نفسية (بدوية الأصل)، بعامل البناء (رشيد)، فلم يرزقا إلا بطفل.

ربما ود القول، بأننا ما زلنا نعيش قبائليا وعشائريا، رغم المحاولات.

مرة أخرى لا أعرف إن كان شقير قصد ذلك، أم كان قصده، بأن علاقات الفلسطينيين ببعضهم البعض فيها عقم، بغض النظر عن أصلهم ومعتقداتهم الفكرية والدينية؟ هل هذه إيحاءات سياسية بقراءة الواقع الحالي الذي لم يؤد إلى مخرج واضح؟ هذه العلاقات المشوهة غير المنتجة، سوى بعض الحب الذي لاحظناه في بعض القصص، الأقرب إلى النصوص الدينية، كما في:

ماء القلب

قالت في لحظة نزق: تربتي عطشى والمطر لا يجيء،

والثديان بلا حليب وقلبي حزين.

طوّقت خصرها وبدت مثل نخلة

وقلت: من ماء قلبي تشربين. (ص198)

ونقطة

وقفت النقطةُ عندَ آخر السطر.

تأمّلت الهوّة التي تفصلها عن السطر الأخير، وقالت:

كم هو فسيح هذا العالم! (ص215)

وهل تستوي هذه الشاعرية العاطفية، مع حالات العقم؟ لا أعرف.

عبارات تلفت الإنتباه

أعجبتني بعض النصوص، وربما فيها الدلالات، أولها استخدام كلمة "ربما"، فهو اليوم يتشكك في ما يقال، بعيدا عن الحسم واليقين، فوردت كلمة "ربما" حوالي عشرين مرة، بصيغ مختلفة، يتلوها أفعال وأسماء أو دونها: الدلال، قتلها، كانت راغبة، أعزي نفسي، انصياعا لرغبة أمه، مخلصا لقناعة أبيه في تعدد الزوجات، انتقاما مريحا للأنفس المعذبة، لتشعرني، أرادت أن تعتذر، لأنني كنت طفلا، لأننا أربعة، خوفا، لسبب ما.

وبالمقابل، فإن استخدامه الاستثناءات بتعبير "دون"، مما يعني اتجاه الفعل والسلوك والاعتقاد، فوردت هذه الكلمة حوالي عشرين مرة أيضا في سياقات "دون": حرج، نقصان، سبب، إنذار، خوف، إبطاء، شغل، ملل، حليب، سواه، ارتباك، أسف، تحيز، ترخيص، استعجال، زيادة، وجل، موافقة.

استمتعت بالقراءة، وأعدتها أكثر من مرة، علني ألتقط بعض ما بباله، ورغم التقاطي لحالة العقم التي تطفو في أكثر من حالة، لا يعني أن هناك رموزا أخرى، ليس الوقت لتناولها هنا.

وكتبت د. روز اليوسف شعبان:

حليب الضحى بين المفارقة والدهشة!

تشكّل كل قصّة في هذه المجموعة لوحة فسيفساء منفردة، فاذا ما جمعت اللوحات معا تتكون لدينا لوحة فسيفساء واحدة مكتملة في غاية الجمال والمتعة.

قبل أن أتطرّق إلى الكتابة عن هذه القصص لا بدّ من تعربف للقصّة القصيرة جدّا:" القصة القصيرة جداً نوع حديث من الأدب انتشر في الفترة المعاصرة بشكل واسع وأصبح نوعاً سرديًّا قائماً بحد ذاته. تعتبر بالحجم أصغر من القصّة القصيرة وقد لا تتجاوز بضعة أسطر وأحياناً قد لا تكون أكثر من سطر واحد.

تتجلّى أركان القصة القصيرة جداً الأساسية في: القصصيّة، الجرأة، الوحدة، التكثيف، المفارقة، فعلية الجملة، السخرية، الإدهاش، اللجوء إلى الأنسنة، استخدام الرمز والإيماء والتلميح والإيهام، الاعتماد على الخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة، طرافة اللقطة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها." (ويكبيديا الموسوعة الحرّة).

في قصص حليب الضحى القصيرة جدا تتوفر جميع العناصر المذكورة أعلاه، وقد ظهرت كلّ قصّة في صفحة منفردة، لكنها تترابط في الأحداث، الزمان و المكان. فالقصص تتحدّث عن عائلة العبداللات المكوّنة من، قيس بن منان، زوجته نفيسة التي طلبت الطلاق لأن زوجها قيس عقيم، زوجة قيس الثانية المعلمة ليلى التي رضيت الزواج منه علما أنه عقيم، محمد الكبير عم والد قيس وأخ محمد الأصغر، محمد الأصغر بن منان، عم والد قيس، سناء زوجة محمد الأصغر، عليوان الذي انشقّ عن عائلة عبداللات، رشيد البناء زوج نفيسة طليقة قيس.

تبدأ القصة الأولى بتعريف قيس بن منان بن عبد اللات عن نفسه فيقول: "اسمي قيس منان من حي راس النبع، أحد أحياء القدس، رغبت في العمل معلّما في مدرسة، فلم تتحقق رغبتي لأن الوظائف شحيحة علينا في زمن الاحتلال" ص 10.

عمل قيس سائق سيّارة أجرة، بعد أن طلّق زوجته نفيسه وفق رغبتها، تعرّف على المعلمة ليلى حين كان يأخذها بسيارة الأجرة إلى مدرستها: "لولا معرفتها بأنني أكتب رواية، وهي المحبة للروايات لما انتبهت اليّ. الرواية هي التي كانت سبب حبّنا، ولم أكمل كتابتها حنى الآن" ص13.

ارتبط قيس وليلى بعلاقة حبّ متينة، ورغبت أن يكون لها طفل ، احترم قيس رغبتها وتبنيا طفلة أطلقا عليها اسم قدس، ولعلّ المفارقة هنا، أن ليلى حاولت إرضاع قدس لكنّ ثدييها لم يدرّا حليبًا، فأرضعتها نفيسة طليقة قيس التي ولدت من زوجها رشيد طفلا وأسمته قيس على اسم طليقها.

المفارقة الثانية والدهشة تحدث بين محمد الأصغر وزوجنه سناء التي كانت عاقرًا ومع ذلك لم تفكّر في تبني طفل، وكذلك زوجها محمد لم يسألها يوما لماذا لا تريد أن تتبنّى طفلا. ومع ذلك عاشا معا بسعادة.

من خلال قصص عائلة العبداللات يتطرّق الكاتب الى عدّة أمور اجتماعية، سياسية عاطفية وطنيّة وما إلى ذلك. مثل قضيّة تعدد الزوجات، انكماش العدالة، الأسرى، عدم الشعور مع الذين ينامون في العراء، استشهاد الشباب وطلاب المدارس:" في صباح المطر بعد الحرب الأخيرة، أحصت المدارس تلاميذها لتعرف من هم الذين غابوا إلى الأبد" ص 57. :" نمنا أنا وليلى على سيرة الشهداء واستيقظنا على أصوات النواح وفناجين قهوتنا كانت باردة في هذا الصباح" ص 58. وتشغل القدس فكر الكاتب وتسيطر على مشاعره، كيف لا وهي بلدته التي يعشقها، فيتفطّر قلبه حزنا عليها بعد سقوطها بأيدي الاحتلال فيقول على لسان قيس:" القدس هي أمنا وهي اختنا وعمتنا والخالة والخال ص 135. :" وهي هناف الرجال الغاضبين والنساء الغاضبات من أجل الانعتاق" ص 137. :" القدس هي كلام الذين لا كلام لهم، وهي أنين امرأة ثكلى في الظلام، وهي نزيف قلب عذّبه الحب والسهاد والغرام" ص 155.

اللغة والتقنيّات السرديّة في قصص حليب الضحى:

تشكّل اللّغة في القصّة و الرواية الجانب الأساسيّ في رسالة الإبلاغ، وتتفاوت مستويات اللّغة في السرد بتنوُّع الشخصيّات فيه، وبهذا يكون على الكاتب الروائيّ استخدام جملة من المستويات اللغويّة التي تناسب أوضاع الشخصيّة الثقافيّة والاجتماعيّة والفكريّة، فقد تتضمّن الرواية العالم والطبيب والسياسيّ والعامل والسائق ورجل الأعمال الخ...، وعلى الكاتب استخدام اللغة التي تليق بكلّ من هذه الشخصيّات. وقد اجتهد بعضٌ من الروائيّين في تطويع اللغة لجعلها لغة الحياة العامّة والحياة اليوميّة في أبسط مستوياتها وأدناها، وفي استخدام بعضٍ من الألفاظ من الحياة اليوميّة.(مرتاض 1998، ص 104).

استخدم الكاتب محمود شقير في مجموعته القصصيّة هذه، لغةً شاعريّةً تصويريّةً زاخرةً بالتعابير المجازيّة والسجع والتأنيس والطباق والتشابيه البليغة كما نرى في الأمثلة التالية:" نوافذ البيوت يتلوّن مزاجها بحسب الفصول. في الصيف والربيع تروقها ظلال الأشياء، في الخريف والشتاء تميل إلى الانطواء. هذا الصباح، انغلقت النوافذ قبل هبوب الرياح". ص 44. في هذا الوصف الجميل نجد تعبيرا مجازيًّا وتأنيسا في جملة: نوافذ البيوت يتلوّن مزاجها بحسب الفصول، كذلك في جملة: تميل الى الانطواء. كما نجد سجعا : الرياح والصباح.

:" حبال الغسيل: تصغي لهمس الفساتين وهي تتذمّر من الضجر، والرياح تلوب في المكان بهدوء وحذر" ص 45.

في هذا الوصف نجد تشبيهًا بليغًا وتأنيسًا: حبال الغسيل تصغي.. تتذمّر، تلوب بهدوء وحذر. كما نجد سجعا: تتذمّر من الضجر، تلوب بحذر.

أمّا من حيث الحوار، فيظهر في هذه المجموعة القصصيّة نوعان من الحوار: الحوار الخارجيّ (الديالوج) والحوار الداخليّ (المونولوج). وقد تجلّت قدرة الكاتب في الكشف عما يجيش في نفوس أبطال قصصه، من خلال المونولوج. فها هو عليوان يعبّر عن سبب انشقاقه عن عائلة عبد الله فيقول:" اسمي عليوان. انفصلت عن عائلة العبد اللات من دون أسف؛ تريدني العائلة رقما تحت إمرة كبيرها.. لم أوافق على أن أكون رقما في العائلة" ص 159.

أما سناء زوجة محمد الأصغر، فهي تعبّر عن عتبها على زوجها من خلال المونولوج التالي:" ولي عتب على محمد الذي لم يسألني ولو مرّة واحدة لماذا لا نتبنّى طفلة أو طفلا يا سناء؟" ص74.

محمد الأصغر يعبّر أيضًا عن استغرابه وعتبه المبطّن على زوجته سناء من خلال المونولوج والاسترجاع التالي:" والأن أتساءل: لماذا لم تفكّر سناء بتبنّي طفل أو طفلة؛ مثلما فعل قيس وليلى؟" ص 64.

والاسترجاع كما تراه يمنى العيد (2010):" يمدّ القارئ ببعضٍ من المعلومات عن الشخصيّات، كما أنّه يُسهم في طيّ المسافات وردم الفجوات أو الثغرات التي يخلّفها السرد، وبثّ الحيويّة في النصّ السرديّ وجعله أكثر حيويّة.( عيد، 2010، ص113)

أمّا عبد السلام فيعرّف الاسترجاع بما يلي:" الاسترجاع"، في جوهره المبسَّط، هو "إعادة إخراج مخزون الذاكرة، ولكنّ ذلك الخزين لا يخرج صافيًا وحده. إذ غالبًا ما يتفاعل مع صوت النفس وجنون المخيّلة في تكوين الحالة الحواريّة الّتي يشتغل بها الذهن داخليًّا" (عبد السلام، 1999، ص. 139).

في هذا المونولوج الممتزج بالاسترجاع يسترجع محمد مغادرته لأهله وبيته حين كان في السادسة عشرة من عمره وحنينه إلى بيته فيقول في حواره مع نفسه:" لم أعد إلى البريّة منذ غادرتها وأنا فتى في السادسة عشرة. كرهتها وكرهت الناس الذين سكنوها؛ أقصد أهلي وأبناء عائلتي وعشيرتي. فكّرت بزيارة البريّة لإحياء الذكريات؛ ولتأمل طفولتي التي كانت هناك. لكنّ يد المحتلين كانت أقرب إليّ من أيّ شيء آخر، اعتقلوني ثم أبعدوني من الوطن. وحين عدت بعد سنوات؛ لم يكن لديّ وقت لكي أزورها، قيل لي إنّ مستوطنة للغرباء، بنيت على أرضها، وهي تتمدّد فيها وعليها مثل خلايا السرطان" ص 37.

يمتزج المونولوج والاسترجاع في لوحة فنيّة تغلب عليها الانفعالات والمشاعر حين يصوّر محمد الكبير علاقته بزوجته خلال فترة سجنه، وخاصّة عندما خيّرها وأعطاها الحق في الانفصال عنه، لكنّ مريم رفضت ذلك:" كما يبدو في المشهد الاسترجاعي التالي:" هل تستطيعين الانتظار كل هذه السنوات؟ سألتني: ماذا تقصد يا محمد؟ قلت: أعطيك الحق في الانفصال. بانت تقطيبة على جبينها وادلهمّت عيناها وقالت: محمد؛ أرجوك؛ لا تكرّر هذا الكلام. قبضت على يدها بحنان؛ ثم انهمرت من عينيّ وعينيها دموع". ص 38.

والأمثلة كثيرة في هذا الكتاب على اتباع الكاتب لتقنية المونولوج والاسترجاع، وفي هذا إشارة إلى اهتمام الكاتب محمود شقير بالحالة النفسيّة التي تعتري نفوس شخصيّاته، والتي تمتزج بالعاطفة والمشاعر والندم والتساؤل والحيرة وما إلى ذلك، كل ذلك يساهم في جذب القارئ إلى النص وانسجامه مع الشخصيات، مما يزيد ذلك من متعة القارئ.

إجمال:

من خلال هذا الاستعراض الموجز لبعض ما جاء في قصص محمود شقير، أميل للاعتقاد بأنّ هذه المجموعة القصصيّة هي رواية لم تكتمل بعد، تصوّر حياة عائلة مقدسيّة والتي من خلالها نطلّع على فرح وألم وأمل ومعاناة جميع أهل القدس في ظل الاحتلال. ويبقى الأمل سيّد الموقف، والحريّة هي حلم الشيوخ والأطفال والنساء والرجال:" نريد صباحًا هادئًا، خاليًا من الطائرات التي تزرع الموت والدمار، خاليًا من الجنود ومن المستوطنين والمستوطنات، يتجلّى في فضائه حريّة بكر لا تعرف الانكسار. قلنا قولنا هذا ونمنا على أمل واستيقظنا على آمال". ص 193

فهل الآمال معقودة على المرأة أيضًا بعد خروجها عن صمتها؟ .

:" وماذا بعد؟ لا شيء سوى تأمل المشهد وانتظار المرأة لعلّها تخرج عن صمتها" ص 196.

وهل سيكمل قيس وليلى رحلتهما لتكتمل الرواية؟:" قلت لها: هاتي يدك يا ليلى كي نواصل الرحلة من دون وجل. ناولتني قلبها وبعضًا من أمل" ص 214. أم أنّ الهوّة لا زالت كبيرة وتنتظر التقاء النقطة في نهاية السطر الأول مع السطر الأخير كما عبّر عن ذلك محمود شقير في القصّة الأخيرة من هذا الكتاب؟:" وقفت النقطة عند آخر السطر، تأمّلت الهوّة التي تفصلها عن السطر الأخير وقالت: كم هو فسيحٌ هذا العالم! ص 215.

المراجع:

عبد السلام، 1999عبد السلام، فاتح (1999)، الحوار القصصيّ، تقنيّاته وعلاقاته السرديّة، بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر.

عيد، 2010عيد، يمنى (1990)، تقنيّات السرد الروائيّ في ضوء المنهج البنيويّ، بيروت: دار الفارابيّ، ط. 3.

مرتاض، 1998 مرتاض، عبد الملك (1998)، في نظريّة الرواية: بحث في تقنيّات السرد، عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، الكويت: المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب.

ومن شيكاغو كتبت هناء عبيد:

ليس غريبًا أن يكون إهداء الأديب محمود شقير للقدس وهي الحاضرة دومًا في وجدانه، وربّما كان ذلك من أفضل ما يمكن أن يشمله أي عمل أدبي، فالقدس الشّامخة لا بدّ أن تتربّع في كلّ عمل أدبيّ لتظلّ حاضرة في الأذهان حاضرًا ومستقبلًا، ولن يبرع في الحديث عن القدس أكثر من ابنها البارّ الّذي يعرف كلّ شبر من زقاقها وحاراتها وشوارعها، ولن يكون هناك من يرسم هذه المدينة ببراعةٍ مثل قلمه الصّادق المتمرّس على وصف جمال وبهاء هذه المدينة المقدّسة المميّزة.

الإهداء امتدّ ليشمل حفيدة الأديب الخامسة عشرة ريتا وهي أحد أحفاده الّذين هم امتداد لتاريخه، وكأنّه يريد القول أننا باقون هنا منغرزون مهما مرّ الزّمن ومهما تكالبت الظّروف علينا، فأحفادنا سيظلّون شوكة تغصّ حلق مخططات العدوّ والاحتلال البغيض مهما طال الزّمن.

ابتدأ الأديب قصصه بإشارة تمّ اقتباسها من روايته ظلال العائلة، وكأنّ فيها تمهيدًا إلى أنّ القصص قد تكون امتدادًا للرواية، أو أنّها تشمل أبطال تلك الرواية، والإشارة وحدها تشير إلى مدى ذكاء الكاتب في اختزال أحداث أليمة في كلمات أو جمل محدودة، حيث يقول:”نظرت إليّ بعينها الباقية، ابتسمت وقالت نتبنّى طفلة

مدخل يتّسم بالذّكاء، من خلاله نتخيّل أحداث كبيرة قد مرت بليلى لتجعلها بعين واحدة باقية، حتى وإن لم نقرأ الرّواية المشار إليها.

القصّة الأولى في المجموعة عنوانها قيس، من خلالها نتعرّف على أحد أبطال هذه المجموعة القصصيّة، وهو ابن منّان أحد أبطال رواية فرس العائلة. يتزوّج قيس من نفيسة، لكنّها لا تستمرّ معه فيطلّقها حسب رغبتها ليتزوّج من ليلى الّتي أحبها؛ وهي معلّمة تعمل داخل أسوار القدس في مدرسة أهليّة.

الأماكن في حليب الضّحى

لا شكّ أنّ للأماكن مكانتها الكبيرة في أدب محمود شقير، و تحتل القدس الحيز الأكبر في هذه المجموعة القصصيّة، وحتّى تكون حاضرة على مدى صفحات السّرد، تم تسمية ابنة ليلى وقيس المتبنّاة بقدس، فالقدس في أدب شقير هي أمّنا وهي أختنا وعمّتنا والخالة والخال، القدس هي النّساء العاشقات، هي الأسيرات هي أم الشّهداء، هي حكايات الصّباح والمساء، هي التّاريخ الصّادق الّذي لا يكذب، هي حديث قيس وليلى اليوميّ، هي الشّوارع والأسواق والحارات والأزقّة والّشبابيك المغلقة على الأسرار.

ونتنقل من خلال المجموعة من مكان إلى آخر لنجدنا في راس النّبع وباب العامود لنصل إلى يافا وبحرها وشواطئها ورملها وسمكها ثمّ ما نلبث أن نجوب أريحا لنتعرّف على بحرها ومطرها وهوائها ونجومها وديرها النّائم في حضن الجبل.

الأماكن هي عبق الذاكرة الّتي تطوف بها أرواحنا باشتياق وحنين، فكيف لا تكون حاضرة في وجدان ابن الأرض الّذي ارتبطت روحه بجذورها!

معاناة أهل فلسطين

القصص كانت تصويرًا دقيقًا للمعاناة الّتي يعيشها الفلسطينيون تحت ظلّ الاحتلال الغاشم، وكأنّها يوميّات فلسطينيّة، ترسم لنا تفاصيل حياة الفلسطينيّين بما فيها من عذاب وقهر وظلم، حيث تصوّر وحشيّة الجنود في معاملتهم وقسوتهم

لم تترك القصص معاناة فلسطينيّة إلّا وتناولتها، فالمستوطنات الّتي بنيت على الأراضي الفلسطينيّة لتفصلنا عن جذورنا نعيشها في قصّة طريق مريم حيث يقول:

“قيل لي أنّ مستوطنة للغرباء بنيت على أرضها، وهي تتمدد فيها وعليها مثل خلايا السّرطان”ص37. الأسر والسّجن الّذي يتعرّض له الفلسطينيّون بحجّة أفكارهم الهدّامة، جاء في قصّة السّجن، الّتي يسردها لنا محمد الكبير الّذي تحدّث لمريم عن مدة السّجن الّتي سيقضيها فيه، والّتي تصل إلى 19 عاما ص38.

وتبقى قضيّة جثامين الشهداء المحتجزين بالثّلاجات معلّقة، لا يعرف عمق حزنها غير ذوي الشّهداء، أراد شقير أن يطلعنا على تلك القضيّة المسكوت عنها في قصّته نداء حيث يقول: "والجثامين المحتجزة في ثلاجات الأعداء؛ جثامين الشهداء تصغي بانتباه إلى النداء، نداء المطر.ص 60. وتستحقّ أمّ الشّهيد كلّ مساحات الأدب فنجدها متربّعة بحزنها في قصّة استثناء ص61.

وفي قصّة مرايا المساء، تنعكس عن المرايا البيوت الّتي تهدمها جرّافات العدوّ لتخلّف عائلات بلا مأوى تلتحف السّماء وتفترش الأرض، تلك المعضلة الّتي لن تتوقّف يومًا ص66.

أمّا في قصّة “نقصان” فيذكّرنا شقير أنّ الأسر الفلسطينيّة لن يثبت عددها يومًا، فالنّقصان مآل أفرادها الّذين يتناقصون بفعل رصاص الجنود الغرباء المحتلّين،

أطفال الحجارة الّذين يرهبون العدوّ، لا بدّ من أن يذكرهم التّاريخ من خلال الأدب، فكان لهم ذلك من خلال قلم تعوّد على رصد الأمجاد.

وكما يعاني الفلسطينيّ تعاني معه مدنه، فكم هي صعبة الحياة في القدس حيث الغلاء وصعوبة الحصول على رخص البناء

والشقوق الّتي تتزايد في البيوت يومًا بعد يوم بسبب الحفر الّذي يمارسه المحتلّ تحت القدس

أفراح أهل فلسطين

ورغم الحزن الّذي يعيشه أهل فلسطين، إلّا أنّ الأديب لم يتوان عن ذكر الأيام السّعيدة الّتي يخلقها الفلسطينيّ من بين أنياب الألم، فهناك قصص الأمل والحياة والفرح وربّما كانت قصّته هديل بلغتها الشّاعرية واختلاط الأمل والألم فيها خير دليل على ذلك حيث يقول:

“قلت: لك ولي رونق الصباح ورائحة البن وغبطة النوافذ المشرعة، وهديل البنات الذاهبات إلى المدرسة

قالت: لك ولي هذا الهدوء الّذي قد تعصف به الطائرات ولنا هذا النسيم العليل ودفق الحياة”

ثم يفرد قصّة للعرس الفلسطينيّ عنونها بعرس، حيث أفراح النّسوة والأغاني الشّهية ص64.

المرأة في قصص محمود شقير

قضايا المرأة واضطراباتها النفسية، تحتلّ مكانتها في قصص الأديب شقير، حيث يتوغّل في عمقها بكل أريحيّة ودون عناء، ففي قصّة “ندم” نجدنا نستشعر صراعات ليلى النفسيّة حين تحسّ بالنّدم لزواجها من قيس الّذي شاءت الأقدار أن تحرمه من امتدادٍ عائلي، فالإنجاب هو حلم كل سيدة، وتستمر معاناتها وأحلامها بالعائلة الكبيرة في قصّة “أولاد وبنات”

لم تخل القصص من التعرض إلى العادات والتقاليد الّتي تخضع لها المرأة، منها مثلًا أن يكون العريس المتقدّم للزّواج منها من ذوي الحسب والنّسب، وهذا مالمسناه في غضب والد ليلى الّتي رفضت أصحاب النّسب لتتزوّج من قيس سائق سيّارة أجرة.

تعدديّة الأصوات

تتعدد الأصوات في مجموعة حليب الضّحى، فتارة يتحدّث إلينا قيس الّذي نتعرف من خلاله على حبيبته ليلى وطليقته نفيسة لتعقبه ليلى في السّرد، لنتعرف على وجهات النّظر المختلفة من خلال تلك التعددية السردية، ثم نتفاجأ بمحمد الكبير وهو ابن منّان الّذي تعرفت عليه من خلال رواية فرس العائله لنجده يحدّثنا من خلال القصّة المعنونة “اعتراف” عن ظلم أهل العشيرة له، فهو لم يعمل في الماخور في يافا كما كانوا يظنون، إنها القصص الّتي تصل الفروع بالأصول وتعبئ الذاكرة بالأرض والحنين إلى الماضي الّذي لن تنساه ذاكرة أيّ فلسطيني رضع من هذه الأرض، الانتماء يجري في الدّماء ويسقي الأرض حين الشّهادة، فلا مجال أن تنقطع هذه الأنفاس الثّائرة عن الذّود عن الأرض.

ثم يأتي محمّد الأصغر ليحدّثنا عن زوجته سناء العقيم وقصّة حبّهما وهكذا تستمرّ الأصوات بالحديث عن نفسها حتّى النّهاية.

الدّيانات في قصص شقير

تتلاقى الأديان في سرديّة محمود شقير، نراها متجلّية في قصّة مريم المسيحيّة الّتي يعشقها محمّد الكبير، ويطلق عليها معبودته الأولى والأخيرة، ففلسطين تتعانق فيها المساجد والكنائس وتتوحّد فيها الصّفوف على حبّ الأرض وعشق هوائها ومائها وسمائها.

أسلوب السّرد ولغة وشاعريّة النّص

القصص جاءت بأسلوب متميّز، فهي سلسلة من اليوميّات، ويمكن أن تتشّكل منها رواية، رغم أنّ كلّ قصّة تنفرد بفكرة معيّنة، وهو أسلوب لم أصادفه في أيّة مجموعة قصصيّة من قبل، كأنّها حلقات تبدو منفصلة ظاهرًا، لكنّها مربوطة بإحكام لتشكّل سلسلة متينة متشابكة من أحداث تصلح لأن تكون مخطوطة وثائقيّة تاريخيّة تشهد على معاناة الشّعب الفلسطينيّ؛ أي أنّها مجموعة متشابكة من الألوان الأدبيّة لكنّها جاءت بصورة قصص قصيرة جدًّا، وهذا ما جعل منها عملًا أدبيًّا متميّزًا.

تميّزت تقنية السّرد بالقدرة الفائقة على الاختزال، فمثلًا يحدّثنا الأديب شقير عن سيرة كاملة لعائلة من خلال قصّته المعنونة ب “ليلى” إذ استطاعت بضع جمل أن توضح لنا معاناة ليلى الّتي هُجِّر أجدادها من يافا قسرًا حينما لاحقتهم رصاصات العدو ليستقر الأمر بهم في القدس، ثمّ زواجها من سائق التاكسي قيس؛ يا له من ذكاء سرديّ ذاك الّذي يختزل تاريخ عائلات من خلال بضع عبارات رصينة متينة شاعرية!

لغة الأديب محمود شقير قويّة متينة، تتبع السّهل الممتنع، تميّزت بشاعريّة وانسيابيّة، بحيث جعلت من القراءة متعة رغم الألم الّذي يغلّف محتواها ومضمونها ففي قصّته المعنونة مناجاة تنساب الشّاعرية بوضوح

حيث يقول:

“ماذا أحضرت لي معك؟

قلت: أحضرت لك قلبي وعبق المدينة وقبضة من ذكريات”

عبارات شاعريّة تختزل الكثير

وتتجلّى الرّمزية والشّاعريّة في قصّة مشية لصّ حيث يقول:

“في المقبرة، بدا الموت محرجًا أمامنا لأنّه جعلنا ننقص واحدًا، ثمّ غادر المكان، وهو كما يبدو، أكثر تصميما على مزيد من أفعال النقصان” ص59.

وللفصول مساحتها الّتي تجلّت فيها الشّاعريّة لتتدفّق بغزارة وانسيابيّة حيث الحواريّات الّتي جرت بين ليلى وقيس، لتأخذنا معها كنسمة رقيقة في مساء ربيعي، حتّى وإن كنّا تحت وطأة قسوة البرد والعراء.

فبالرّغم من الدّموع والحزن والبرد والظّلم نجدنا نقرأ بنعومة نصوصًا كهدير النّّهر وعطر الياسمين، إنها اللغة الآسرة الّتي تستطيع التنقّل بين الفصول لتبهجنا بسحر الألوان ومياه الأمطار ولسعة البرد وصقيع الثّلج ودفء الصيف.

حليب الضّحى مجموعة قصصيّة قيّمة، تضيف ثراءً إلى رفوف المكتبات العربيّة عامّة والفلسطينيّة خاصّة.

وكتبت جمان نمر:

يعتبر الكتاب نوعا ما طويلا فهو مكون من 238 صفحة (215 بدون الفهرس والاصدارات)، لكن القارىء لا يشعر بهذا القدر من الصفحات عند قراءته للكتاب، فهو مكون من قصص قصيرة جدا، وهذا ما يجعل القارىء يريد ان ينهي ما قرأ تشويقا للأحداث، الكتاب مقسم الى أربعة اقسام، كل قسم منه يحمل رقما ومقولة "ككتب التنمية البشرية التي أحب قراءتها"، وكل مقولة مرتبطة ترابطا تاما في جزء من القصة التي يطرحها في الفصل أو القسم، ( توحي بشيء ما)، ففي القسم الأول كتب (1) لا تخف من الكمال فإنك لا تدركه ( سلفادور دالي)، فهنا مثلا يسرد فيه البطل قيس حكايته عن طلاق نفيسة له بعد أن عرفت أنه عقيم، فليس أحد كاملا سوى الله.

في القسم الثاني مكتوب (2) بغير هذا الحب لا تكن ( جلال الدين اارومي)، وهنا صوّر الكاتب حبّ ليلى له رغم معرفتها بأنه عقيم .....إلخ. نصوص سلسلة سهلة وبسيطة لكنها عميقة. اعتمد الكاتب في بعضها على الرموز والبعض الآخر صيغة "الأن"، قصص مترابطة، رغم اختلاف المكان إلا أنها تدور حول أحداث واحدة. الكتاب درامي يدور حول ذكريات وهزائم وانتهاكات وشهداء ونضالات، ويصور حياة الإنسان الفلسطيني عامة والمقدسي خاصة.

أعجبني غلاف الكتاب... سماء زرقاء صافية كالماء الصافي والهواء النقي، والوردة المتفتحة، توحي ألوانه بالأمل والتفاؤل، يطرح قضايا سياسية حول عنصرية اسرائيل، هذه القضايا التي كبرنا وترعرعنا بها وحولها، القضايا عشناها وما زلنا نعيشها، القضايا التي تؤرق الأمّة عامة والشعب الفلسطيني خاصة كالاعتقالات... هدم بيوت... جثامين الشهداء وغيرها. شخصيات القصة متنوعة ومن طبقات مختلفة . هناك جرأة في النص، يظهر ذلك في حب قيس وليلى المقدسيين، فرغم الدموع والبكاء والألم والأنين بيّن لنا الكاتب عمق هذا الحب، ومقدار التضحية التي تقدمها الفتاة عندما تحب شخصا ما، تخلص له وتتحدى أهلها من أجل هذا الحب. صوّر أماكن مختلفة في القدس (راس النبع)، يافا، أريحا. شعرت أحيانا أن هناك بعض ما كُتب رغم سرد شخصيات أخرى، إلا أنه ليقنع نفسه بشيء ما ربما . اعتمد في نصوصه على الفلسفة ( لم أحب ذلك لا لشيء إلا لأني لا أحب هذا النوع من النصوص رغم أن حياتنا كلها فلسفة) ... أدب ، رحلات في ذاكرة كل مكان، فيها تاريخ عريق عميق لجرائم الاحتلال الصهيوني. أحببت أن كل شخصية داخل كل قسم كانت تعرّف عن نفسها( كأنها لعبة تعارف)، مثل أنا أسمي قيس من حي راس النبع، أنا إسمي ليلى وُلدت في القدس، أنا محمد الكبير والدي منان شيخ عشيرة العبد وأمي فاطمة وغيرها... صفحة 188 وصف لعمل المحتل بقوله جاءتني رصاصة في الخاصرة، ورصاصتان في الصدر قريبا من القلب، تجندلت فوق أرض بلادي، ثم في لحظة خاطفة شاهدت دمي وهو يتدفق نحوهم، وقبل أن يغرقوا بدمي أغمضتُ عيني، أخبرنا أيضا عن محمد الكبير وكيفية تعرّفه على الفتيات اليهوديات والعربيات، عندما قال ان محمد قد تمرد على قيود القبيلة ورحل الى يافا وهو في السادسة عشر من عمره للعمل هناك. رأيت أحيانا أن هناك عدة ساردين في هذه القصص، لكني اكتشفتُ بعدها أن تعددهم واحد، وأظنه الكاتب نفسه( ربما أكون مخطئة ولكن هذا ما رأيته من خلال قراءتي)، لانه لم يكن هناك تعدد في البيئات، وإنما التعدد كان في المكان ( التنقل بين المدن التي ذكرها القدس، يافا، اريحا). واضح أن الكاتب متعلق جدا بهذة الأمكنة ليس فقط كونه مقدسي وإنما كثقافة فلسطينية وتثبيت هويتها.

وكتبت هدى عثمان أبو غوش:

الحليب بلونه الأبيض،هو اللذّة الأولى والاحتياج الأساسي لكل مولود، وهو رمز لاستمرارية الحياة والحب والحنان، ومن هنا يمكن اعتباره رمزا للبقاء والسعادة، والأم هي التي تمنحنا ذلك، ومن هنا تكمن الرمزية أيضا في أن الأمّ هي الوطن الذي يدرّ الحليب، والضحى بداية اقتراب النهار، وعليه فإن الأديب حسب وجهة نظري في مجموعته القصصية يصف حالة الوطن الذي يفتقد حليبه الشهي،وقد تعكر صفوه وبياضه من ذباب العدو بعد أن سرق حليبه الذي صار يتباهى به وبعسله، ومن ناحية أُخرى فهو يصف حالة العقم عند المرأة وحرمانها من الحليب، فهنا نجد السعادة المفقودة في غياب الحليب على الصعيد الوطني والاجتماعي. وقد ذكر الأديب حليب الضحى في إحدى نصوص قصصه. يقسم الأديب مجموعته القصصية إلى أربعة أقسام، ويعنون بداية كلّ قسم بمقولة للأدباء، وينتقل في قصصه المختلفة التي تكمن مضامينها في صور من الهمّ الوطني والاجتماعي وصور الحب، إلى المدن حيث يافا وأريحا والقدس التي يصف أوجاعها وآلامها بصورة خاصة، كما يتنقل بين الأماكن ككنيسة القيامة وباب العمود والمدرسة والبحر، ويجد القارىء للقصص أنه أمام وجوه متعددة من المجتمع يحملون حزنهم، والطبيعة والفصول والأحوال الجوية تشاركهم في الحزن وبعض الحب، ويصور لنا القلق وصور الحرب والفقد، والصمود والأمل. يصف الأديب في قصصه القصيرة صور الطفولة والمراهقة والعائلة والمفارقة بين الصور المختلفة في قضية العقم والإنجاب، التي تتمثل في ليلى التي لا تنجب ونفيسة التي تنجب، وتبدو بعض القصص المختلفة متسلسلة ومترابطة، يكثر فيها عنصر الحوار. تأتي القصص بأسلوب سلس، وتعدّد الرواة وبلغة شعرية، وإيقاع الكلمات كموسيقى هادئة تناسب شخصية الأديب في حديثه الهادىء، استخدم الأديب في بعض القصص الجمع المذكر والمؤنث، وكذلك المفرد بنوعيه، وهكذا يمنح للنص صورة بصرية عن المجتمع مثل"الآباء والأمهات،النساء والرجال،الأولاد والبنات،التلاميذ والتلميذات، الجدّ والجدّة، طفل وطفلة. كما واستخدم بعض الطباق مثل يقظتي/غفوتي، فرادى/جماعات، السّراء/الضراء، تذهب/تعود، نهار/ليل.كما واستخدم بعض التكرار من المفردات في بعض النصوص مثل الحليب، الثدي، فستان، وتكرار بعض الأفعال بصورة لفظية للتأكيد على القلق" أخشى على قدس، وأخشى عليك"، كما كرر استخدام مفردات الصمت في بعض النصوص للإشارة إلى أن هناك الكثير من الوجع والبوح ما وراء الصمت. كما يلاحظ استخدام الأديب المثنى في قصصه، (ضحكت وأنا ضحكتُ،كدنا نسقط أنا والدراجة، نمنا أنا وليلى، أنا وقيس،كنا خير أمّ وخير أب). غلبت العاطفة الحزينة على معظم القصص حيث الدموع، البكاء ،الحسرة، الخوف، وقد كان الزمان (الصباح والمساء )شاهدا على ذلك،"المساء الحزين، الفجر الحزين" فقد كان الأديب يصور الوطن و

ديمة جمعة السمان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى