الثلاثاء ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

خصائص القصة القصيرة جدا

عند الكاتب المغربي جمال بوطيب

من المعروف أن هناك بعض القصاصين المغاربة الذين كتبوا نصوصا قصصية يمكن أن تدرج ضمن القصة القصيرة جدا كما كان يكتبها إبراهيم بوعلو أو محمد الصباغ أو أحمد بوزفور... بيد أن هذه القصص المفردة، أو المشتتة في الصحف، والمتناثرة في الكتب، أو المتفرقة بين ثنايا المجموعات القصصية، لم تجمع تحت اسم القصة القصيرة جدا في مجموعة إبداعية جامعة ،بل كثفت تحت يافطة " قصص" بصفة عامة، أو " قصص قصيرة" بصفة خاصة.

فتعيين الجنس الأدبي مهم جدا في تأسيس النظرية الأدبية وإرساء مقومات جنس أدبي جديد كما هو شأن عمل المبدع المغربي جمال بوطيب تحت عنوان "زخة...ويبتدئ الشتاء!!" الذي اتخذ هوية أجناسية تتمثل في العبارة التالية:" قصص قصيرة جدا".
وبهذا نكون مع عمل تجنيسي جديد يتميز عن فن القصة القصيرة بعدة سمات معنوية وفنية عما هو معهود في أدبنا العربي القديم والحديث.
ومادامت طبعة الكتاب الأولى هي 2001م، فهذا يعني أن جمال بوطيب من القصاصين السباقين إلى كتابة القصة القصيرة جدا في المغرب إلى جانب جماعة من المبدعين المتميزين كعبد الله المتقي وسعيد منتسب، وفاطمة بوزيان ، وحسن برطال، ومصطفى لغتيري، وسعيد بوكرامي... ، أضف إلى ذلك أن جمال بوطيب هو المؤسس الفعلي للقصة القصيرة في المنطقة الشرقية من المغرب الأقصى، وهو القصاص الساخر بامتياز الذي يتقن لعبة النقد والتعريض .

أ‌- المستـــــوى الـــــدلالي:

تتسم المجموعة القصصية لجمال بوطيب بشعرية التهكم والسخرية والرمزية الموحية، إذ تتحول قصصه إلى خطابات فانطاستيكية رمزية تدين الواقع وتشخص عيوب الموضوع المعاش بريشة تهكمية كاريكاتورية قادحة تتقطر منها لسعات نقدية هجومية لادغة في مجابهة الذات والمجتمع الموبوء والعالم المنحط المقهور.

1- الزمن المشلـــول:

يبلغ التهكم مداه عند الكاتب في " قصة أسبوع" التي يتحول فيها الأسبوع الإنساني إلى زمن السخرية والمفارقات المتناقضة. وبالتالي، لاينم هذا الزمن الأسبوعي إلا عن العجز والفشل في تحقيق ما يصبو إليه الإنسان. ومن هنا، تتعطل الأفعال والأزمنة مع مسار التاريخ العربي الذي تتكلس فيه العقول، وتتحجر القلوب، وتتجمد القرائح، وتعجز عن التنفيذ وإنجاز الأفعال. وتؤشر هذه القصة اللازمنية على الخيبة والفشل:" أثبت النص مرفقا بأسئلته على السبورة السوداء المثقوبة في أكثر من مكان. الحصة حصة تركيب. كان مطلوبا إلى التلاميذ أن يشطبوا على كل عبارة زائدة. فوجئ بأكسل تلميذ في الفصل يتقدم نحو السبورة السوداء المثقوبة في أكثر من مكان. حمل الممسحة البنية الصغيرة. تراجع خطوتين إلى الوراء. تقدم نحو السبورة ثانية. أشار بسباته إلى السؤال:

" شطب على كل عبارة زائدة"

ودون أن ينبس بحرف، مسح التاريخ.
ألقى الممسحة البنية الصغيرة وغادر الفصل، بينما تعالت التصفيقات."(ص:15).
يحيل النص على التسبب والعبثية واللاجدوى الوجودي واللامبالاة، وعدم أهمية الزمن والتاريخ عند الإنسان العربي بصفة عامة، والمغربي بصفة خاصة مادام هذا الزمن لا يقترن جدليا بالعمل والتنفيذ.

2- الحــب الزائف:

يتناول الكاتب " في درس الحب " قيمة الحب الإنساني الذي أصبح مأسورا بالاستلاب والتشييء المادي والنزوات العارمة. ولم يعد الحب يقترن بالطفولة والبراءة والرومانسية الحالمة و الفروسية الوردية، بل تسيس كالجاه والسياسة ، وراح يبحث عن السلطة والمال كما لدى أصحاب النفوذ المالي والساسة و ذوي التطلعات الحزبية الموهومة.
كما يفضح الكاتب الحب الزائف في قصة "ذبول" التي انطفأت فيها شعلة الحب مباشرة بعد الارتواء من جسد المعشوقة الجميلة فذبلت الوردة بذبول الحب الزائف.

3- الحكاية تفكر في ذاتها:

استطاع الكاتب أن يستكنه في مجموعته القصصية الجديدة فعل الحكاية وروائية السرد القصصي، وأن يجعل الحكاية القصصية تفكر في نفسها في إطار مايسمى في علم السرد بـــــميتاروائية أو ميتاحكائية. لكن الحكاية لا تلقن للقارئ الضمني أو المتلقي المفترض سوى الخارق الموهوم، ولا تقدم له سوى الخيال البعيد عن الواقع. فهذا هو الذي جعل ياسين - شخصية الحكاية - يتيه في الوادي بحثا عن حقيقة الحكاية التي رواها الشيخ لأحفاده في قصة" ياسين والوادي"(ص:16). ومن ثم، فقد ضيعت الحكاية ياسين الصغير، كما ضيعت قصص شهرزاد الملك شهريار الكبير.

4- الواقع السياسي المنخور:

يدين الكاتب في قصصه السياسية الرمزية مصادرة حقوق الإنسان والقمع السياسي وإرهاب الدولة و السلطة. وينتقد واقع الحرية والديمقراطية في المجتمعات العربية التي يغتال فيها الإنسان ويتعرض للتصفية الجسدية بعد مجموعة من التحقيقات البوليسية والمخابراتية من أجل استنطاق المتهم الذي تلفق له مجموعة من التهم قصد التنكيل به استعدادا لإخفائه في زنزانة المقاصل والتعذيب والموت الأخير ، ويظهر هذا واضحا في قصة" المكافأة". ويدل العنوان الذي يحمل طابعا سخريا على مفارقة الواقع وتناقض القيم والسلوكيات البشرية، وتؤشر أيضا على جدلية الصراع بين المثقف والسلطة.
ويتجلى انتقاد الواقع السياسي كذلك في قصة" مخالفة"(ص:22) التي يذل فيها شرطي المرور إذلالا كبيرا بسبب الضغوطات التي تمارس عليه من قبل أسياده الكبار من أجل استحصال المخالفات وجمع النقود والرشاوى ليريح نفسه ويريح مرؤوسيه. وعندما يعود بلا مخالفات تذكر، ينهر ويطرد ويعامل بقسوة حتى في داخل منزله، فتسجل عليه المخالفات التي لم يسجلها في الواقع.
وعليه، فالكاتب ينتقد السلطة ويسخر من رجال الأمن الذين تحولوا إلى جباة لجمع الضرائب والغنائم، وتصفية جيوب الفقراء والمعوزين لإرضاء أصحاب القرار والسلطات العليا.

ويرفض الكاتب أن يصير الإنسان شرطيا في مجتمعات القهر والتعسف والاستبداد ومصادرة حريات الإنسان ولو كان ذلك حلما طفوليا بريئا. وهذا يبين لنا صر اع الإنسان مع قوى السلطة الظالمة وانعدام العدالة الحقيقية والديمقراطية الفعالة في المجتمع العربي:" قالت أمي: لابد أن تصير شرطيا.
قال لأبي: صر ما شئت إلا شرطيا.
قالت جدتي: طاعة الوالدين من طاعة الله.
قلت أنا:" بين الغلطة والزحام جابوا القاضي" يتختن").

قال الشرطي، وهو يضع الأصفاد في يدي:" أنت شخص تمس الأمن العام". مادخل القاضي؟ ومن هم الذين جابوا؟؟ ومن قال: إن البلاد فيها خلطة وزحام؟؟"(ص:33).

ويقف الشرطي في قصة " قرار" في وجه الطفولة والبراءة، وهذا يوحي بالشطط في استعمال السلطة والتنكيل بالأحلام الوردية ومحاصرة الأحلام الطفولية، والقضاء على البراءة والحرية المنشودة في اللعب الصبياني:" امتطى الطفل حصانه القصبي يجوب شوارع المدينة الخالية. كانت يده تمتد حينا إلى رأس القصبة تطعم الحصان، وحينا آخر خلف ظهره تحثه على الإسراع. أوقفه الشرطي.استل من بين فخذيه حصانه القصبي، وانهال عليه ضربا وسبا وشتما. ولم يهرب الطفل وإنما لملم أشلاء حصانه المترامية. خطا واثقا، وقد قرر في داخله:

  أبدا لن أعزف عن ركوب الخيل."(ص:38).

وتحيل قصص: "رصاص" و" شعور" و" أنا لها" على طغيان التسلطن وانتشار الظلم في المجتمع المغربي بصفة خاصة والمجتمع العربي بصفة عامة. ولا يرد رجل الشرطة في ثنايا قصص الكاتب سوى للدلالة على انتهاك حقوق الإنسان وممارسة البطش والقمع والجبروت.
هذا، ويدين الكاتب الغطرسة السياسية والاستبداد في قصة"طوفان"؛ لأن العسف واستعمال القوة وممارسة الظلم، كل هذا يولد الطوفان وتذمر البراءة وهيجان الحرية الجامحة كما وقع للطفل العاري الذي انتفض على مدينة ابن الوالي ليسكت جشعه الكبير وطمعه العارم لامتلاك الطفولة واغتصاب البراءة.

5- انهيـــار الإنسان:

يرصد الكاتب في قصة " مرارة" مرارة الإنسان وكثرة مآسيه التي يتجرعها؛ مما يدفعه الواقع المستلب الممسوخ إلى تجرع السواد والأحزان الدامية في ظل الظروف التراجيدية المستمرة، وأن يغرق بنفسه في فنجان القهوة السوداء قبل أن يغرقه صفاء الحليب. ويلاحظ أن الكاتب لايكتفي بانتقاد السياسية الممسوخة الزائفة، بل يتجاوز ذلك لانتقاد المجتمع بكامله بكل تناقضاته وسلبياته المفارقة.
وتبلغ المأساة بالإنسان عندما تنتزع منه أطرافه، وتكيس آدميته البشرية، وتقتل فيه إنسانيته ، وتغتال فيه كرامته:" بجدية فرك الرجل أطرافه في الحمام. لم يتوقف الدرن، فقرر أن يستعين ب" الكياس"، و قال له"
 " كيسني مزيان"
صار الكياس يفركه، وصارت أطرفه تتساقط الواحد تلو الآخر. إلى بيته عاد رجلا بلا أطراف. وفي نهاية الأسبوع، عندما حمله أبناؤه في قفة إلى الحمام وجد مكتوبا على الباب:
  صاحب الحمام غير مسؤول عن الأطراف التي لايودعها أصحابها عنده قبل ولوج الحمام".(ص:27).
ويصور الكاتب معاناة الإنسان المغربي مع فواتير الماء والكهرباء والهاتف كما في قصة هاتف:" خرس هاتفه منذ غيابها، ولم يعد يسمع ذلك الرنين الذي كاد يصير جزءا من أشيائه الصغيرة المرتبة بلا ذوق ولا اكتراث. المرة الوحيدة التي رن فيها الهاتف. نط إليه. صعقه صوت موظفة البريد:
 يؤسفنا أن أبلغكم عزم وكالتنا على وقف اشتراككم حتى تسووا وضعيتكم الحسابية."(ص:78).
وعلى أي حال، يشخص الكاتب صراع الإنسان الضعيف والمقهور مع قوى الجاه والاستغلال والنفوذ التي تحول هذا الإنسان المنهوك إلى كائن سيزيفي بلا هدف ولا جدوى.

6- الأنثى بين الميوعة والإخلاص:

يجسد الكاتب في قصتي" إفحام" و"وقاحة" مجتمع الأنثى الذي أوشك على الإفلاس والانحطاط بسبب تفسخ القيم وتردي المرأة في مهاوي الهلاك والفساد ، إذ صارت كائنا أخطبوطيا وقحا مصطنعا ومختلقا في هذا المجتمع المعاصر الذي تفسخت فيه كل المثل العليا وتهاوت على مائدة اللذات والأموال والشهوات والنزوات المغرضة، و أصبحت أيضا كائنا مشوها وزائفا لايهمه سوى اصطياد الآخرين والتلاعب بعواطفهم بدون مراعاة معايير الآداب والأخلاق الفاضلة.
ولكن، في المقابل ، هناك الأنثى النقية المتشبثة بجمالها ووقارها وعرضها وعفتها على الرغم من شدة الفقر والحاجة كما في قصة"عري".

7- القيـــم المتردية:

يستوحي الكاتب في قصصه الخارقة عالم ابن المقفع كما في كتابه "كليلة ودمنة" ليفلسف مجموعة من القضايا الإنسانية والطفولية بطريقة رمزية فانطاستيكية تثير الضحك وتدغدغ الاذهان وتحرك ابتسامة الأفواه المنقبضة كإثارة مجموعة من المواضيع الحساسة والمهمة في عالمنا اليوم كحقوق الحيوان والجنس والطلاق والغواية والنفاق والحفاظ على البيئة والإحسان و الدين والتنافس والحب والسلام ونبذ التمييز العنصري والانتهازية والتسلطن والاستبداد ورفض الإرهاب العاطفي والفكري، والوقوف بجدية وتركيز عند موضوع الثورة والانتفاضة في وجه الظلم والزيف السياسي.
كما يستوحي الكاتب الواقع المتردي لينتقد مجموعة من القيم الإنسانية المنحطة كالنميمة والازدواجية في المعاملة كما في قصة"إذاعات" التي يرحب فيها بالعمال المهاجرين العائدين من الضفة الأخرى بكل مودة ومحبة؛ لأنهم عادوا بالحمولة النقدية، بينما عمالنا في الداخل لاقيمة لهم ؛ لأنهم لا يعرفون سوى لغة الإضرابات والمطالبة بالزيادة في الأجور والتعويضات.
ويدين الكاتب الفكر الخرافي الأسطوري كما في قصة "عقم" حيث تلتجئ المرأة العقيمة إلى الولي الصالح أو وارثه ليستولدها، فتختلط السذاجة بالفاحشة والدين بالخرافة، كما يسخر الكاتب من رجال الدين خاصة أصحاب لغو الكلام كما هو في قصة "لغو".

8- المثقف والسلطة:

يثيــر الكاتب في قصته" إعجاب" علاقة الشاعر بالحب والمراهقة والنقد، والصراع المحتدم بين الشاعر والناقد حول أحقيتهما في امتلاك الحب والمراهقة على السواء.
ويحاول الكاتب من جهة أخرى في قصته" شاعر حداثي" أن يبين وضعية الحداثة في المجتمعات المستبدة العسكرية التي يتعشعش فيها الجهل والأمية والتنكر لفعل الثقافة والإبداع، فيجد المبدع المثقف أن حقوقه تصادر من قبل شرطة الأمن الذين يستهدفون المحافظة على الأوضاع السلبية كما هي لإرضاء الحكام وأولياء الأمور، ناهيك عن كون هؤلاء المتسلطين لايعرفون سوى شعراء الجاهلية ، وهذا يبين الصراع الجدلي في المجتمعات المستبدة بين المحافظة والتجديد والمقابلة بين الحداثة والماضي، و التناقض بين الثابت و المتحول:
"غضب الشاعر حين أوقفه المكلف بالأمن عند عتبة باب الملهى الليلي، وطلب إليه أن يؤدي ثمن تذكرة الولوج. التفت الشاعر يمينا وشمالا إلى صديقيه. لم يجد منهما مؤازرة، كان يعرفان أنه على ضلال.
رفع صوته زاعقا ومهددا رجل الأمن:
  ألا تعرف من تكلم؟؟
  لا..
  أنت تكلم أكبر شعراء الحداثة في الوطن.
  ظل المكلف بالأمن ضابطا نفسه ثم فور الدم في جسد الشاعر مجيبا:
  للأسف، نحن لا نعرف إلا شعراء الجاهلية!!"(ص:42).
ويشير الكاتب في قصة " إبداع" إلى ما يعانيه الشعراء أثناء استيلاد قصائدهم الشعرية، وما يقاسونه من آلام أثناء الحبل والولادة الإبداعية. بيد أن النقاد بجرة قلم يلطخون هذه الولادة بمقاييسهم الوصفية القاسية، ومناهجهم النقدية القديمة المتآكلة، دون الانفتاح على جوهر القصيدة والتسلح بتصورات أكثر حداثة وتجديدا.

9- ضياع الوطن والأمة:

يثور الكاتب في قصة " بورتريه" على الذين يفضون بكارة الوطن ويحولونه إلى مومس يبيعون عرضها من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية ومآربهم الذاتية على حساب الشعب المنهوك الذي تنخره آهات الفقر والجوع .
وعندما يرسم التلميذ خريطة الوطن في قصة" خريطة" يتلقى من أستاذه ضربة على رأسه؛ لأنه نسي أن يرسم كل الوديان والأنهار التي توجد في الوطن السعيد. لكن التلميذ اكتفى بنهر واحد ليعبر عن دموع المدينة الحزينة.
ويلاحظ أن الكاتب يتجاوز ماهو وطني إلى ماهو قومي ليسخر من النخوة العربية ، ويستهزئ من الإنسان العربي المشلول الذي لم يعرف سوى النكسات والنكبات المتكررة كما في قصة "خردة".

10- تخييـــل التراث:

يلتجئ الكاتب إلى التخييل وتأصيل المحكي السردي وملء ثغرات التاريخ المنسي عن طريق الخيال والافتراض من خلال استحضار الشخصيات التراثية لخلق المفارقات الرمزية كما هو حال طرفة بن العبد في قصة" تلفزيون"، وحال بعض الشخصيات التاريخية والأدبية الجاهلية كما في قصة" بطون" ، وقصة شعراء الغزل العذري كما في قصة" كتابة".

11- الطفولة المغتصبة والرجولة المنتهكة:

ينتقد الكاتب الطفولة المغتصبة في قصة"حضانة" عندما يحرم الكبير الطفل من لعبة العريس والعروسة، و ينطبق هذا على قصة" حلم" عندما يضطر زكرياء لبيع السجائر ليؤمن حياة أسرته الفقيرة ، وهو محروم من متعة الحياة ولذة الأبوة ومتعة الدراسة ، ليقع في الأخير في شرك المخدرات وشرنقة الصعلكة التائهة ، ويفكر في الهجرة إلى الضفة الأخرى كما في قصة" هجرة". و ليست هذه المعاناة محصورة على الصغار فقط، بل تمتد حتى إلى الكبار كما في قصة "أضاحي"، عندما يفشل المهاجر السري في أن يؤمن حياة أسرته في بلاده ، ويعجز عن شراء أضحية العيد ؛ لذلك لا يجد سوى أن يدفع بناته لبيع عرضهن في سوق الدعارة الأجنبية.

ب‌- التقــويـــم الدلالـــــي:

إذا كان عبد الله المتقي في كتابته القصصية كاتبا ماجنا، ومصطفى لغتيري كاتبا مثقفا ذهنيا ، و الماعزي كاتبا طفوليا، وحسن برطال كاتبا شعبيا، فإن جمال بوطيب يعتبر كاتبا ساخرا بامتياز، يرسم صورا كاريكاتورية تتقطر بالفكاهة والمحاكاة الساخرة والباروديا والتهجين اللغوي . زد على ذلك، أنه يحسن الهجاء الموحي المعقلن، و النقد الشاعري، وتصويب السهام الطاعنة ،ويعرف كيف يتحكم في خطاب التلميح والتعريض وتشويه الواقع وعرضه على سرير بروكست لتشريحه وتشخيص عيوبه بمسبار الفحص والتخييل والسرد الحكائي الذي يتحول إلى شظايا حارقة ولسعات لادغة تكوي الوجوه والقلوب والضمائر الحية والميتة.

ومن ثم، يكون الكاتب بهذه المجموعة قد أسس جنس القصة القصيرة جدا في المغرب عن وعي ومسؤولية علمية وأكاديمية وأجناسية. واستطاع أن يرسي قواعدها من خلال نصوصه القصصية والحكائية المبثوثة بين دفتي الكتاب.
ولقد انطلق الكاتب من ذاته ليبحر في وطنه عبر دهاليز المدن والأشياء والأمكنة والبشر، لينتقل بعد ذلك إلى أمته متأرجحا بين الماضي والحاضر مستشرفا المستقبل في آهات الأطفال والمبدعين والمحرومين. وبالتالي، تتسم قصصه القصيرة جدا بالثورية والتراجيديا والسخرية الفظيعة والانتقاد الواقعي والاجتماعي والسياسي والأدبي.

وقد استعمل الكاتب في قصصه التخييل السردي و الخارق الفانطاستيكي والرمزية في نقده الشامل للواقع الإنساني العربي أثناء تناوله للطفولة والبراءة ومشاكل الأنثى وقضايا الكبار، وما يعانيه المبدعون والعمال المهاجرون، وما يمارس من شطط وقمع من قبل رجال السلطة والمخزن في مواجهة الشعب والتنكيل به.
وتؤشر قصص الكاتب على انعدام الحريات الخاصة والعامة ومصادرة حقوق الإنسان واغتصاب الطفولة والبراءة، وانتشار الطغيان والاستبداد و هيمنة التسلط، و انبثاق الصراع بين الحداثة والمحافظة ، وتردي القيم المجتمعية ، وانحطاط الإنسان العربي بصفة عامة والمغربي بصفة خاصة.

جــــ: الخصائص الفنية والجمالية:

تستند المجموعة القصصية لجمال بوطيب إلى عدة مميزات وخصائص جمالية تساهم في تفريد القصة القصيرة جدا بمجموعة من الخاصيات التجنسيية التكوينية التي تميزها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى.

1- المزاوجة بين القصر والطول:

إذا كانت مجموعة الدار البيضاء ( حسن برطال، ومصطفى لغتيري، وسعيد بوكرامي...) تتكئ على الجم القصير في معظم نصوصها القصصية، فإن جمال بوطيب يزاوج بين النصوص القصيرة والنصوص الطويلة. أي تضم مجموعته القصصية نصوصا في صفحة واحدة، ونصوصا تستغرق صفحتين فأكثر. وبهذا، فهذا الجنس القصصي الجديد يغلب القصر على تطويل النصوص. وبالتالي، يتخذ خطاب القصة في المجموعة خاصية الفقرة تارة، وخاصية النص تارة أخرى.

2- التأسيس والتجنيـــس:

نحن لانشك أن يكون فن القصة القصيرة جدا ، هذا الجنس الأدبي الجديد ، هو نتاج أدب أمريكا اللاتينية، أو أن تكون هناك محاولات عربية أو مغربية منثورة هنا وهناك، ولكن التأسيس الفعلي في المغرب كان مع الأستاذ جمال بوطيب الذي يحسب على المنطقة الشرقية من البلاد، و كان التأسيس كذلك مع رواد جماعة الدار البيضاء بعد ذلك.

ومن هنا، نقول بأن بداية الألفية الثالثة كانت هي المقدمة الأولى لانطلاق مشروع القصة القصيرة في المغرب، على الرغم من أن التسعينيات كانت هي البدايات الفعلية لظهور القصة القصيرة في الشام وبالضبط في سوريا، وإن كان هناك من يقول بأن كتاب المهجر اللبنانيين قد سبقوا إلى ذلك ، وبعدهم يحظى العراقيون مباشرة بشرف التأسيس والتجنيس والتأصيل.

3- الرمـــزية والإيحائية:

يتكئ الكاتب في مجموعته القصصية على شعرية الترميز وإيحائية الأقنعة في توصيل رسالاته متأثرا في ذلك بابن المقفع وأقاصيص لافونتين وأحمد شوقي أثناء استعمال الحيوانات والكائنات الخارقة التي توحي برسائل ومقاصد غير مباشرة.
وتتحول قصص الكاتب إلى خطابات سيميولوجية ودوال رمزية تتخطى البعد الظاهري إلى ما تحت السطور لاستكناه الباطن و القشرة الرمزية بحثا عن الدوال الإيديولوجية البعيدة . ومن هنا، يغلب البعد المرجعي على قصص الكاتب، لذلك لابد للقارئ من التسلح بالقراءة التأويلية لتفكيك النصوص وتشريحها.

4- البعـــد الفانطاستيكي:

يشغل الكاتب في قصصه السردية والحكائية العجيب والغريب أو ما يسمى بالفانطاستيك؛ لإدانة الواقع الممسوخ والمشوه في بشريته وآدميته. ويتحول الفانطاستيك إلى خطاب رمزي للتعبير عن الصراع بين القوى الغيبية والقوى الواقعية. ويعتبر القناع الرمزي إلى جانب المجاز البلاغي من أهم الآليات الفانطاستيكية لتغريب الواقع المدنس. و يعد هذا الفانطاستيك من سمات شعرية السخرية مادام يعتمد على المفارقة وتشغيل التناقضات والتهكم الاجتماعي الملغز.

5- اللغـــة المهجــنة:

تتسم لغة الكاتب بالمزاوجة بين الدارجة المغربية والفصحى، وذلك رغبة في التهجين والأسلبة لخلق المحاكاة الساخرة والباروديا ضمن شعرية موحية تتلاعب بألفاظ اللغة وكلمات الدارجة المغربية (كيسني مزيان، الكياس، قفة، يتختن...)، والتي تصير لغة للتعيير والتعريض والتشويه والنقد والقدح. بيد أن الكاتب يتحاشى اللغة البورنوغرافية التي نجدها بكل وضوح في قصص عبد الله المتقي أو اللغة الشعبية البسيطة التي يستعملها حسن برطال ولا اللغة الذهنية المعقدة التي يوظفها مصطفى لغتيري. إن لغة جمال بوطيب تشبه في كثير من الخصائص التعبيرية والدلالية لغة محمد الماعزي التي توحي بالطفولة والبراءة.

6- الانزياح النحوي:

يستعمل الكاتب أحيانا جملا مركبة تركيبا مألوفا يحترم الرتبة النحوية، بيد أنه تارة أخرى يخلخل الرتبة ويوظفها بطريقة شاعرية انزياحية يتقدم فيها الحال عن الفعل، أو الاسم عن الفعل، أو شبه جملة عن الفعل قصد تحقيق الوظيفة الشعرية السردية واستحصال التخصيص الدلالي و خلق التبئير الموضوعي:
  مخمورا دخل الطفل إلى الفصل؛
  وفي أذن الطفل همست حنان؛
  يقينا أنني كنت أحلم.
ويزاوج الكاتب أيضا بين الجمل البسيطة القصيرة والجمل المركبة الطويلة المسهبة والممتدة على طول السطر والنص بواسطة التكرار والترادف والتوصيف النعتي والحالي والترابط الإحالي والعطفي والموصولي.

7- التنــــاص والمتناص:

يلتجئ الكاتب إلى تقنية التناص في عملية التخييل التي يمارسها في مجموعته القصصية من خلال استحضار المعرفة الخلفية وفعل المشابهة و استنساخ الموروث الأدبي الجاهلي و تمثل حكايات ابن المقفع و العبارات المسكوكة في السرد العربي القديم والحديث ، والتأثر داخليا بما كتب في مجال القصة القصيرة جدا في المغرب والمشرق على حد سواء. دون أن ننسى أن المرجع الواقعي كان أيضا متناصا لهذه المجموعة القصصية الثرية الرائعة.

6- بلاغة السخرية والتهكم:

استعمل الكاتب في مجموعته صورا قصصية موحية قوامها شعرية السخرية والتهكم عن طريق توظيف المجاز المقنع والصور الرمزية الأسطورية واللغوية والأدبية والطبيعية والتاريخية من أجل خلق الوظيفة الشعرية القائمة على الانزياح الاستعاري والمماثلة السردية والاختفاء وراء أقنعة التخيييل الفانطاستيكي والكنايات الإحالية المباشرة وغير المباشرة.

7- الحبـــكة القصصية:

استطاع الكاتب أن يوفر لنصوصه القصيرة جدا الخاصية السردية والخاصية القصصية، وذلك باختيار مقدمات مناسبة مشوقة تتلاءم مع خواتمها مرورا بالحبكة السردية وتوظيف الشخصيات والفضاءات والوصف والمنظور السردي واستعمال بنية الزمن وأنماط الأسلوب.
وإذا كانت جماعة الدار البيضاء غالبا ماتنهي قصصها بدون خاتمة معوضة إياها بالإضمار والتلغيز والحذف الموحي، فإن جمال بوطيب ينتقي الخاتمة المناسبة لكل مقدمة سردية فضلا عن المزاوجة بين القصة التراثية والقصة الغربية الحديثة.

خاتمــــة:

وبناء على ماسبق، يمكن القول : إن جمال بوطيب في قصصه القصيرة جدا يضع لبنات هذا الجنس الأدبي الجديد في المغرب بموازاة مع مجموعة الدار البيضاء انطلاقا من بداية هذه الألفية الجديدة، ويتفرد عن باقي القصاصين الآخرين بكونه كاتبا ساخرا بامتياز، يشهر سلاح الرمزية والباروديا والمفارقة والإكثار من الأقنعة الإحالية للتعبير عن الواقع المنحط وتصوير الوطن الذي فقد كل مثله الإنسانية ومعانيه الأخلاقية. ومن ثم ، فقد صار فضاء مهجورا و مكانا منخورا و عالما فارغا تتآكله الخيبة والآهات الحزينة، كما يصور الكاتب العالم العربي الذي تكلس وتأكسد، وأصبح قرين الخيبة والعجز والفشل الذريع .
وتتسم كتابة جمال بوطيب في مجموعته القصصية بالإيحائية والجمالية المشوقة والرمزية الواضحة والفانطاستيكية الخارقة وتعدد مدلولات الدوال وخلخلة التركيب السردي، بله عن شاعرية السخرية القاسية والتعريض الكاريكاتوري الامتساخي القائم على القدح والفضح ولغة العري والتشويه.

عند الكاتب المغربي جمال بوطيب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى