الاثنين ٣٠ آب (أغسطس) ٢٠٢١
قراءة تحليلية في رواية

«خيرة أولاد الله» للكاتب مورتن بابي

مصلح كناعنة

«خيرة أولاد الله» للكاتب مورتن بابي وترجمة الكاتبة سوسن كردوش قسيس

ما أحوجنا في هذه الأيام الموبوء مجتمعنا فيها بالعنف والجريمة، إلى قراءة رواية من الطرف الآخر للعالم تحاول أن تتقصَّى الأسباب التي تدفع شباب هذا الجيل إلى الاستهتار المخيف بالحياة والموت، وإلى الإقدام على القتل كـ"شُربة مي" كما قيل في هذه الرواية. وأرجو أن يكون هذا من بين الاعتبارات التي دفعت الأستاذة سوسن إلى اختيار هذه الرواية بالذات لنقلها إلى العربية.

دعونا نبدأ بالحديث قليلاً عن الرواية ومؤلفها، ثم نعود في النهاية إلى الحديث عن الترجمة والمترجمة.

بين أيدينا رواية جميلة لمؤلف دنماركي شاب وواعد، أبدع في الحبكة والسرد والوصف ورسم الشخصيات، وأتحفنا برواية جميلة عن واقع بشع، رواية شائقة جذابة عن واقع مقرف مثير للغثيان موبوء بالعنف والجريمة والمخدرات والمتاجرة بالبضاعة المسروقة، وبالجنس القذر المجرد من المشاعر، وبالعنصرية والكراهية والمقت. هذا ما أسميه "جمال البشاعة"، ولجمال البشاعة تأثير يخطف الأنفاس. أذكر أنني حين كنت أدرس التصوير الفوتوغرافي كمنهج إثنوغرافي في الأنثروبولوجيا في جامعة بيرغن في النرويج، كان أستاذنا كثيراً ما يردد على مسامعنا: "أن قمة الإتقان في فن التصوير هو أن تلتقط صورة في غاية الجمال لمنظر في غاية البشاعة؛ جثث، أنقاض، دمار، قمامة متعفنة، أطفال مشردين... ألخ، فتجعل الناظر إليها يبحلق فيها طويلا وبدنه يقشعر. هذا في رأيي هو ما يميّز هذه الرواية.

من أين جاءت فكرة الرواية؟

في صيف عام 2008 قُتل موزع الصحف الشاب الكردي من أصل تركي، دنيز أوزون، البالغ من العمر 16 عامًا، بضربة عصاً من شاب دنماركي يبلغ من العمر 15 عاماً، حين كان الشاب التركي يجلس على الدرج ويتناول البيتزا مع صديق من أصل عراقي. ولم يكن القاتل والمقتول يعرفان بعضهما من قبل. وبحسب الشرطة الدنماركية، كان هذا القتل غير مبرر على الإطلاق، إلا أن شهود العيان لم يشكوا أبداً في أنها جريمة مدفوعة بالكراهية العنصرية.

هذه كانت البؤرة التي انطلقت منها رواية "خيرة أولاد الله". ومع أن شخصياتها وأحداثها وحبكتها من صنع خيال المؤلف، إلا أنها تخلق عالماً موازياً ومماثلاً تماماً للواقع المُعاش. ومع أن الرواية خيالية، بمعنى أنها ليست تقريراً صحافياً أو عملاً إثنوغرافياً وصفياً، إلا أنها بمثابة مرآة للواقع تعكسه بكل تفاصيله وبدقة متناهية. وواقعية الرواية مستمدة من معرفة المؤلف بهذا الواقع، ليس معرفة الباحث أو المراقب أو العامل الاجتماعي، وإنما معرف إنسان عاشه وكان جزءاً منه، ولد فيه ونما وتربى في أحضانه وكان مشتبكاً بتفاصيله عالقاً في قاذوراته كعضو منه.

نقاط هامة في الرواية:

أول ما يلفت النظر في الرواية هو التماثل الذي يعقده المؤلف بين زوجين من الشباب، زوج في كل طرف:

في الطرف الأول (طرف الشباب من أصل أجنبي)، نجد زكي القتيل الذي كان منغمساً في حياة العصابات، يقابله في الطرف الآخر ميكي المجرم المملوء بالكراهية العنصرية، وهو شخصية مقرفة وبغيضة يفعل المؤلف كل ما في وسعه كي يجعلنا نكرهه ونشفق عليه في نفس الوقت.

وفي الطرف الأول هناك جميل (صديق زكي، من أصل عراقي)، يقابله في الطرف الثاني سيمون (صديق ميكي، من أصل دنماركي):

جميل الشاب المهذب الخجول اللطيف، المسالم الذي يهتم بكتبه ودراسته وعائلته، يقابله سيمون وهو شخصية بغيضة كصديقه ميكي ولكنه يحاول الخروج من حوامة العنف وتأسيس نفسه بعيداً عن بؤرة الفساد.

جميل تنبذه شلته وجماعته ويتعرض للاعتداء العنيف أكثر من مرة، لأنه ترك صديقه يموت مقتولاً دون أن يفعل شيئا لإنقاذه، وسيمون تنبذه شلته وجماعته، لأنه باع صديقه القاتل ميكي واعترف عليه كي ينفِد بجلده.

جميل يؤنبه ضميره لأنه لم ينقذ صديقه من الموت، وسيمون نستشف من سلوكه أن ضميره يؤنبه لأنه لم يستطع الخلاص من حوامة الإجرام، ولأنه تسبب بإيذاء شخص بريء لا ينتمي إلى هذه البيئة وهو جميل. وفي الوقت الذي يخرج فيه جميل للبحث عن سيمون لينتقم منه، يخرج فيه سيمون للبحث عن جميل (للاعتذار له).

هم المؤلف الأول هو أن يساعد القارئ على فهم أسباب هذه البيئة المحطمة، ومن أين تأتي هذه الكراهية القاتلة. وهو يفعل ذلك من خلال الرسم التفصيلي الدقيق للشخصيات الأربعة من خلال العودة إلى ماضي كل شخص.

هو لا يشخص بنفسه، بل يفعل ما في وسعه كي يجعلنا نستنتج ما يريدنا هو أن نستنتجه.
في رسم شخصية زكي وجميل وسيمون، يستخدم المؤلف السرد بضمير الغائب. ولكنه في رسم شخصية ميكي يتحول إلى السرد بضمير المتكلم. كأنه يعطي الميكروفون لميكي ويقول له تكلم عن نفسك. وهكذا ندخل في مونولوج طويل لميكي يسرد فيه تفاصيل قصته، وأفكاره ومشاعره، نتعرف عليه عن قرب، من الداخل، ندخل عبر مسامات جلده إلى بؤرة ذاته.

وميكي الذي يتحدث عن نفسه يبوح لنا بمكنونات نفسه فيكشف لنا عن حقيقته. صبي فاشل، محطم، شاذ، معطوب الشخصية، يرى الرعاية خنوع، والحب جنس غريزي، والجنس عنف وقذارة، والولاء ولاء المجرمين لبعض، والصداقة صداقة الكراهية... وهو مفعم بالكراهية تجاه كل العالم وكل البشر.

أفضل تجسيد لهذه الصورة للنفس المشوهة هو تقمص ميكي للبيسون إلى درجة الحلول (ص 320).

هذا الانتقال المفاجئ من السرد بضمير الغائب إلى السرد بضمير المتكلم، هي حيلة روائية يستخدمها الكاتب كي يقنعنا بما يريد أن يقنعنا به، وكي يترك في نفوسنا أبلغ الأثر لما يريد أن يقوله لنا. فالراوي الذي يلعب دور الإله، الموجود في كل مكان، الذي يعرف كل شيء ويعلم ما في الصدور ولا تخفى عليه خافية... هذا الراوي ينسحب من العلاقة بين الشخصية والقارئ ويتركنا في حضرة الشخص يخاطبنا مباشرة ويدعُنا نستمع إلى ما يقوله لنفسه وما يعتمل في ذهنه من أفكار وكأننا داخل عقله.

والمؤلف يعود إلى صيغة المتكلم مرة أخرى في الصفحات الأخيرة من الرواية، حين يجعل نور أخت جميل تحكي لنا عن تقصيرها في العناية بأخيها جميل ومنعه من الانهيار التام... وكأن نورا هنا هي ضميرنا الجمعي الذي يصحو أخيراً من سُباته!

إنكار المسؤولين لكون هذا العنف الإجرامي مرتبط بالكراهية العنصرية. هو إنكار لوجود العنصرية وكره الأجانب في المجتمع الدنماركي.

نحن ننزع إلى الاعتقاد بأن هذا هو أساس المشكلة، العنصرية الغربية المتخفية التي تنخر المجتمع الدنماركي وتتغلغل في شرايينه حتى أعلى الرأس، حتى رئيس الوزراء والمسؤولين في أعلى المستويات. ولكن المؤلف لا يقول لنا ذلك، ولا روايته توصل إلى هذا اليقين. فهذا الإنكار المتعمد هو مجرد سياسة خاطئة للتعامل مع المشكلة. وهذه السياسة الخاطئة تؤدي إلى تفاقم العنصرية وزيادة التحطم والانهيار في قاع المجتمع، ولكنها ليست هي منبع المشكلة، وإلا لما احتاج المؤلف إلى كتابة كل هذه الرواية.

يوضح لنا المؤلف أن العنصرية وكره الأجانب، خصوصا من العالم الثالث، منتشرة ومتجذرة في المجتمع الدنماركي كله. أصول هذه العنصرية تعود إلى عدة أمور: التاريخ الاستعماري للدنمارك، وتجارة العبيد من إفريقيا إلى الأمريكتين، والعقيدة اليهو-مسيحية التي شوهتها عصور الظلام، والتي ترسخت في النفوس على شكل أفكار نمطية مسبقة عن المسلمين بالذات (مثال صارخ على ذلك موجود في صفحة 245).

ولكن المؤلف لا يعتبر أن هذه العنصرية المتجذرة هي أساس المشكلة، بل هي عامل قوي يغذي النزعة إلى العنف التي تنجم عن الانهيار الاجتماعي الاقتصادي لهذه الفئات، والتي تنجم عن أمور كثيرة، منها السياسات الخاطئة في التعامل مع مشكلة العنف والإجرام.

ما هي النتيجة التي يريدنا الكاتب أن نصل إليها؟ إنها النتيجة التي صاغتها الكاتبة الدنماركية Ulrikke Routhe-Mogensen في تعليقها على رواية "خيرة أولاد الله، فهي ترى أن هذه الرواية تتلخص في جملة واحدة: "الكراهية لا تزدهر إلا في النفوس المحطمة". فالعنصرية هي مجرد وسيلة لرفع الغطاء عن طنجرة الضغط التي تكاد تتفجر، ولو لم يكن هناك أجانب لخرجت هذه الكراهية الشاذة بطريقة أخرى.

علينا أن ننتبه هنا إلى أن فئات هذا القاع الاجتماعي لا تتكون من الأجانب فقط، وإنما من دنماركيين انهاروا وتحطموا لأسباب مختلفة. والعنف الذي يتمركز بمعظمه على خطوط الأصل (أجنبي/دنماركي)، لا ينحصر هناك وإنما يحدث أيضاً في داخل كل فئة. والكراهية العنصرية متبادلة، من الطرفين، وحتى منتشرة بين الأجانب أنفسهم (عرب وأفارقة، أتراك وأكراد، هنود وباكستانيين، مسلمين وهندوس).

نحن لا نتحدث هنا عن شباب أجانب وشباب دنماركيين، بل عن شباب دنماركيين قسم منهم من أصول أجنبية خارجية، وقسم من أصول دنماركية داخلية. زكي وجميل وأمثالهما من العرب والأكراد والآسيويين والأفارقة، هم دنماركيون من حيث المواطنة والثقافة والتربية والقيم. ولدوا في الدنمارك وترعرعوا في حضاناتها وتعلموا في مدارسها وعاشوا في فضاء حريتها وديمقراطيتها وانفتاحها في القيم والسلوك والأخلاق.

الصراع ليس فقط بين الانتماءات العرقية، بل هو أيضاً – وربما في الأساس – صراع بين الأجيال. هذه هي الأزمة النفسية الوجودية الحقيقية للشباب من أصول خارجية، أزمة التمزق الداخلي في الانتماء والوجود ومعنى الحياة، أزمة التناقض والتوتر بينهم وبين جيل آبائهم في حضيض المجتمع الدنماركي.

جيل الآباء، من هم؟ لم يكونوا مطالبين بالاندماج، انعزلوا وتقوقعوا على ذاتهم.

جيل الأبناء؛ دنماركيين لكل شيء، ومطالبين بالاندماج الكلي، ومشبعين بثقافة الأصل في نفس الوقت. الصدام مع الآباء الذين يصبحون أكثر تزمتاً ومطالبة بالالتزام بأخلاق الأصل.

التصادم القيمي الأخلاقي العنيف بين الآباء والأبناء هو الذي يحطم أسر الأجانب ويشوه نفسية الشباب من أمثال زكي وجميل.

يتجسد ذلك في النقاش الذي يدور بين جميل وأخته نور حول هجر والدهم لهم وعودته إلى العراق (ص 401-402).

هذه الصدامات الرهيبة تحدث أيضاً في عائلات الطرف الآخر؛ جيل الآباء الذي بنى المجتمع الدنماركي الحديث وحقق الإنجازات، وجيل الأبناء المستهتر المنحرف الذي يخرب المجتمع.
هذه الرواية ومثيلاتها ليست عن المجتمع الدنماركي، وإنما عن قاع المجتمع الدنماركي، عن "حثالة المجتمع" كما يسميها كارل ماركس. والغريب أن الكثير من الدنماركيين لا يعرفون شيئاً عن هذا القاع وليست لديهم أدنى فكرة عما يجري هناك. الناقدة الأدبية الدنماركية ميت أوستجارد هنريكسن تقول أن لغة الرواية بذيئة جداً ثم تضيف: "هذا يتطابق مع الأحداث العنيفة التي تتكشف في قاع المجتمع، الذي هو أكثر انحطاطاً مما تعرفه الغالبية أو حتى لديها الخيال لتتخيله." وفي موقع "الكتاب الدنماركيين" تقول إحدى الكاتبات عن بيئة الرواية: "هي بيئة يشعر بها عدد قليل من القراء، ولكنها تحدث على بعد محطات قليلة من باب منزلك أينما كنت تعيش في هذا البلد."

نأتي الآن إلى الترجمة:

والترجمة هي دائماً مشي على الحبل المشدود بين المؤلف الأجنبي والقارئ المحلي... هي مشي متوازن على الحبل المشدود بين مطلب الأمانة للنص في اللغة الأصلية، ومطلب توصيل المضمون والرسالة والنكهة الأدبية إلى القارئ باللغة المترجم إليها. وأعتقد صدقاً أن سوسن في ترجمة هذا الكتاب مشت على الحبل وتخطته (لا بل كادت ترقص عليه أحياناً) وهبطت في الطرف الآخر بسلام. فاللغة متينة وبليغة وجميلة وسليمة، وتوصل المضمون بالنكهة الأدبية الأصلية للكتاب الدنماركي. الأهم من ذلك هو أن المترجمة تستطيع أن تحافظ على جمالية البشاعة؛ جمالية السرد والوصف، وبشاعة الواقع الموصوف.

المأزق الذي كانت تواجهه سوسن طوال عملها على نقل هذا الكتاب إلى العربية، هو بذاءة الرواية بنصها الدنماركي، فالرواية بذيئة جدا إلى حد القرف. هذه البذاءة لها نوعان:

بذاءة الحدث الموصوف نفسه، وهو في العادة حدث قذر يشيع في البيئة الموصوفة، والكاتب، كي يجعلنا ندرك ونعايش هذه القذارة في الواقع، يتعمد أن يصف الحدث بلغة بذيئة قذرة مماثلة لما يعتمل في نفوس الأشخاص المشتبكين في الحدث. مثال، وصف المعاشرة الجنسية بين سيمون وصديقته (ص 123). في هذا النوع من البذاءة، أعتقد أن المترجمة تفلح في الحفاظ على بذاءة الحدث في الأصل دون أن تقع في البذاءة اللفظية، وهي تفعل ذلك من خلال الحذر الشديد في انتقاء الكلمات من العربية الفصحى.

النوع الثاني هو بذاءة الألفاظ السوقية المستعملة في الحوارات بين أشخاص البيئة الموصوفة، ألفاظ لو استبدلت بما يقابلها في اللغة العربية لكانت في غاية الرخص والبذاءة. والمترجمة لا تريد أن تستعمل هذه الألفاظ العربية السوقية النابية فيظن قراؤها العرب بها الظنون. هنا، أعتقد أن المترجمة تنجح إيما نجاح في الالتفاف على المأزق وتفادي الوقوع فيه، من خلال استراتيجيتين: الأولى استبدال الألفاظ السوقية البذيئة (خصوص الـ F-word) بثلاث نقاط بين هلالين: مثال في صفحة 21: هادي يصيح: "دنماركيون قذرون! انتظروا وسوف ترون ما الذي سنفعله بهم! سوف (...هم)!" ولا أعتقد أن هناك قارئ عربي لا يستطيع أن يخمن هذه الكلمة.

الاستراتيجية الثانية، وأنا أعتقد أنها عبقرية في إبداعها وأصالتها، وتنم عن روح الفكاهة اللطيفة لدى سوسن، هي التعبير عن البذاءة والأجواء المقرفة في الواقع الموصوف من خلال استبدال العبارات الدنماركية بعبارات من العامية الفلسطينية المحكية. ففي زخم النص المكتوب بالعربية الفصحى تقذف المترجمة فجأة بتعبير عامي سوقي مضحك بأُلفته وشيوعه على ألسنة الناس في فلسطين والعالم العربي. أمثلة:

"من أين لطشتها؟" (40)
"يجب أن يتعلم كيف يسد بوزَه" (51)
"انظر إليَّ هنا، العمى في قلبك!" (115)
"سوف نجد حلاً. سوف تجد خرا عليك!" (175)
"اسمع يا أبو شريك!" (256)

هذه الشعبظة اللغوية اللطيفة المحببة، كانت تدغدغني حد الضحك حين كنت أقرأها.
في النهاية أريد أن أطرح سؤالاً، ليس فقط للحصول على جواب سوسن عليه، وإنما كدافع لي ولسوسن ولكم جميعاً، وللمثقف العربي بشكل عام، للتفكير ومراجعة الذات في قضية أرى أنها في غاية الأهمية:

سوسن قامت بترجمة أربعة أعمال من روائع الأدب الإسكندنافي إلى العربية:

رواية "زيارة طبيب صاحب الجلالة" للكاتب السويدي بيير أولوف إينكويست،
رواية "مجرد أنثى" للكاتبة الدنماركية ليزا نورغورد التي تبلغ الآن من العمر 104 سنوات،
رواية "العربية السعيدة" للكاتب الدنماركي ثوركل هانسن،
وهذه الرواية للكاتب الدنماركي الشاب مورتن بابي.

الآن، إذا أخذنا الروايات الثلاث الأولى، نجد أنها كلها تتناول نقاط تحوُّل مفصلية في التاريخ الاجتماعي الثقافي للمجتمع الدنماركي، ومفصلية في نشوء المجتمع الدنماركي الحديث. رواية "زيارة طبيب صاحب الجلالة" ترصد مرحلة الانتقال في الدنمارك إلى المجتمع الدستوري العلماني المبني على الحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان، وعلى الفكر التنويري القادم من فرنسا. رواية "العربية السعيدة" ترصد مرحلة صعود العلوم الوضعية التجريبية وبدء موجة الاختراعات التقنية الحديثة (الثورة الصناعية). ورواية "مجرد أنثى" ترصد مرحلة تحرر المرأة الدنماركية من تحيزات المجتمع الظلامي الرجعي الغارق في الذكورية، وانطلاق المرأة الدنماركية على الطريق التي أوصلتها إلى ما هي عليه الآن.

كان بإمكاننا أن نستنتج من ذلك، أن سوسن تختار للترجمة إلى العربية أعمالاً من روائع الأدب الدنماركي تركز على التغييرات الإيجابية الجريئة التي أدت إلى انعتاق المجتمع من سلبيات العصور الوسطى وانطلاقه في طريق التغيير نحو مجتمع الديمقراطية والحرية والرفاه الذي نراه الآن. وكأن سوسن تريد أن تضرب للإنسان العربي أمثلة على الانعتاق والتحرر والانطلاق نحو المساواة والحرية والرفاه الإنساني.

كان بودي أن أستنتج ذلك، إلا أن الكتاب الأخير، "خيرة أولاد الله"، يتناقض مع هذا الخط من الاستنتاج ويعطله. فهذه الرواية الأخيرة لا تتناول التغيير نحو الأحسن، وإنما تتناول الصراع والتآكل الداخلي والانهيار التدريجي للمجتمع الدنماركي ومشروع حداثته، وكأن المجتمع الدنماركي يدفع ثمن ما ارتكبه في الماضي من ظلم وبشاعة بحق العالم الثالث، ويدفع ثمن استعلائه العنصري الذي يظهر مرة ويختفي مرات. ويتجسد ذلك في الرواية على المستوى المجازي في حقيقة أن كل أبطال الرواية الذين كان من الممكن أن ينقذوا أنفسهم والمجتمع من الانهيار الكلي وينطلقوا نحو بناء مجتمع سليم، كلهم انهاروا واختفوا عن مسرح الحياة؛ زكي قتل، وجميل انتحر، وسيمون انهار وضاع في عالم الجريمة والمخدرات، وحتى نور أخت جميل التي كان من الممكن أن تنطلق نحو حياة إيجابية فعالة، انهار العالم فوق رأسها وخرجت من الرواية في نهايتها واختفت في عالم المجهول. الوحيد الذي بقي حياً، حراً طليقاً يصول ويجول وينشر الرعب والعنف والكراهية والفساد، هو ميكي الصبي الكريه المقيت، المجرم الملغوم بالعنصرية الكريهة.

لماذا إذاً وقع اختيار سوسن على هذه الكتب الأربعة بالذات من بين الروائع الأدبية الكثيرة في الدنمارك واسكندينافيا، لنقلها إلى القارئ العربي؟

دعوني أقول في البداية أنني لا أشك مطلقاً في أن سوسن، باختياراتها هذه، أرادت أن تغني المكتبة العربية بروائع الأدب الإسكندينافي، وأن تقدم للمثقف العربي أعمالاً إبداعية رائعة تستحق القراءة والتقدير، وأن تُعرِّف الجمهور العربي على المجتمع الدنماركي الذي يكاد لا يعرف عنه شيئاً؛ جذوره وتاريخه ونسيجه الاجتماعي وثراؤه الأدبي ورحلة وصوله إلى ما هو عليه الآن. وأنا أتفق مع الدكتور محمد هيبي في "أنّ السيّدة سوسن في ترجماتها الروائية لا تختار بشكل عشوائي الأعمال الروائيّة الدنماركية التي تنوي ترجمتها، بل تختار أعمالا تهتمّ بالشرق بشكل ما، ومن شأنها أن تُثير اهتمام القارئ العربي وتقاسمه بعض همومه."

أنا لا أشك في ذلك مطلقاً، ولكني أريد أن أحفر عميقاً فيما يُسكَت عنه، أو فيما تحت الوعي، لعلي أعثر على سبب كامن لهذا الخيار غير العشوائي.

حين أعود إلى الكتب الأربعة، أعثر على خيط العقد الذي يجمعها معاً. فما هي أكثر وأبرز صفة مميزة تتشارك فيها كل هذه الكتب الأربعة؟ لنأخذ الروايات واحدة بواحدة:

رواية "زيارة طبيب صاحب الجلالة" تتحدث بإسهاب عن الملك المجنون وحفلات العهر والمجون التي كان يُشبع فيها نزواته بمنتهى الرخص والصفاقة، وعن الملكة الشابة، الفتاة الإنجليزية الجميلة، العاشقة المتهورة التي كانت تخون زوجها الملك مع طبيبه، وعن الطبيب الشاب الذي كان يخون مليكه وولي نعمته، وعن الخلاعة والعهر والمجون في بلاط المملكة، والمؤامرات، والفساد، والعنف، والانتهازية من وراء الكواليس، وعن الملك الذي أمر بإعدام طبيبه الذي تفانى في إدخال التنوير إلى المملكة وأصدر 2069 قانونا إصلاحياً في الدنمارك، وعن الشعب الذي ضحى الطبيب الشاب بحياته من أجل خدمته وإصلاح أمره وإنقاذه من ظلام العصور الوسطى فقابله بأن خرج في "بيكنيك" للاستمتاع بمشاهدة إعدامه...

رواية "العربية السعيدة" التي تدور أحداثها في نفس الفترة، في حقبة ذلك الملك المجنون، تحدثنا عن البعثة الملكية الدنماركية لاكتشاف العرب المسلمين والكشف عن أسرار اليمن السعيد، البقعة الوحيدة التي لم تستطع أوروبا أن تستعمرها، ولم يتمكن حتى الاسكندر المقدوني من فتحها والسيطرة عليها. هذه البعثة كانت في معظمها ممولة من قبل اليهود، ولكن ليس هذا فحسب، بل كان الدافع الرئيسي الأول لها هو العقيدة اليهو-مسيحية المتجذرة في نفوس وأذهان الدنماركيين، وكان من أهم المهمات المطلوبة من هذه البعثة هو الكشف عن المكان الذي عبر منه موسى وبنو إسرائيل البحر الأحمر إلى أرض الميعاد، والكشف عن الوثائق التوراتية الأصلية المخبأة في دير سانتا كاترينا في قلب صحراء سيناء. هذه العقيدة التي كانت مشبعة بالرفض للإسلام واحتقار "المحمدانيين"، تمخضت عنها بعثة ملكية دنماركية مشحونة بالبغضاء والوصولية والكولسة والمؤامرات الشخصية، بين أعضاء يتعالون على العرب ويتأنفون منهم ويكرهون معاشرتهم... إلا واحد، نيلس نيبور، الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من البعثة، وحين عاد إلى موطنه بعد رحلة من الأعاجيب تم تهميشه ونبذه وإهماله، فقضى نحبه في مزرعة منعزلة نائية في نهاية العالم.

في رواية "مجرد أنثى" تسرد علينا الكاتبة ذكريات طفولتها في مجتمع دنماركي رجعي، منغلق، متعصب، شوفيني في ذكوريته يضطهد المرأة ويحط من قدرها ويميز ضدها ويحرمها من أبسط حقوقها، حتى أنه لما ولدت الكاتبة دفنت أمها رأسها تحت اللحاف ورفضت النهوض أو مقابلة أحد بسبب شعورها الشديد بالعار لأنها "خلف بنت". هذه الذكورية العدائية المتصلبة كانت متغلغلة في المجتمع الدنماركي، من الأب إلى القسيس إلى المعلمة إلى السوق والشارع، إلى دور الصحافة وعالم الثقافة والفكر والأدب.

رواية "خيرة أولاد الله" تتمركز في كلّيتها حول أسوأ بيئة في المجتمع الدنماركي، حول أكثر فئة محطمة في قاع المجتمع؛ عنف، وقتل، وإجرام، ومخدرات، ولصوصية، وجنس مقرف، وانحطاط أخلاقي، وتفكك أسري، مع الإيحاء بتغلغل العنصرية وانتشار كره الأجانب في كل مستويات المجتمع الدنماركي.

وكأن المترجمة تأخذ أهم الأمور التي يعاني منها مجتمعنا العربي، الشرقي، الإسلامي، الفلسطيني (أو سمه ما شئت)... أهم الأمور التي يعاني منها هذا المجتمع في وقتنا الراهن: عنف، انحلال، فساد، كراهية، تزمت، تعصب، ذكورية ، وتعثر على ما يماثله في المجتمع الدنماركي قديماً أو حديثاً أو راهناً، وتنقله إلى القارئ العربي وكأنها تقول له: "صحيح أن مجتمعنا يعاني من العنف والفساد والتزمت والذكورية والانحلال المجتمعي والأخلاقي، ولكن كل هذه السلبيات موجودة حتى في المجتمع الدنماركي. والمجتمع الدنماركي (اللي هالقد شايف حاله علينا) ليس بأفضل من مجتمعنا ولا أحسن حالاً منا. حتى حين كان المجتمع الغربي يريد أن يستعمرنا بحجة تحضيرنا وتخليصنا من التخلف والهمجية، لم يكن هذا المجتمع أقل همجية ورجعية وتخلفاً منا.

سؤالي هو: هل اختيار المترجمة سوسن لهذه الأعمال الأدبية الأربعة أو الخمسة لنقلها إلى القارئ العربي، مدفوعٌ بالرغبة في إشباع حاجة نفسية ناجمة عن شعور امرأة شرقية عربية فلسطينية بالاغتراب في المجتمع الدنماركي الذي يضمها إليه بيد ويصدها عنه باليد الأخرى... المجتمع الدنماركي الذي يجذبها إليه بمغرياته ويقصيها عنه بنعراته؟ هل هو مدفوع بالحاجة (الواعية أو اللاواعية) إلى تبرئة الذات ومحاسبة المجتمع الدنماركي (والمجتمع الغربي عامةً) على ما اقترفه من عنف وغبن بحق الشرق والعرب والإسلام وفلسطين؟!

إذا كان الجواب بنعم، فيترتب على ذلك السؤال التالي: نحن الذين شاءت لهم الظروف أن يعيشوا في مجتمعين وينتموا إلى عالمين، وأخذوا على عاتقهم مسؤولية تعريف مجتمعهم الأول بمجتمعهم الثاني؛ هل يحق لنا أن نستغل موضعنا السلطوي هذا كي نصوغ معرفة المجتمع الأول بالمجتمع الثاني بما يتيح لنا إشباع احتياجاتنا النفسية النابعة من أزمة اغترابنا الشخصي وتمزقنا بين الهويات؟! هل نراعي، في نقلنا للمعرفة بين الشعوب، احتياجاتنا النفسية أكثر مما نراعي الحقيقة والموضوعية واحتياج الشعوب إلى نزع فتيل الكراهية وصدام الحضارات؟!

في هذا السياق أريد أن أنهي بهذه النادرة: إدوارد سعيد، قبل رحيله بوقت قصير، وفي مقابلة تلفزيونية، اتُّهِم بأن الأصوليين في العالم الإسلامي يستغلون أطروحته حول الاستشراق لتعزيز النعرة الإسلامية المتطرفة وتأجيج العداء والكراهية للغرب، وأن الأصوليين يستشهدون بكتابه حول الاستشراق لتدعيم ادعائهم بأن الغرب هو الذي شوه صورة الإسلام عن قصد، وأن الإسلام هو في الحقيقة الدين الحق الذي لا غبار عليه. حين جُوبه إدوارد سعيد بهذه التهمة، صمت، واستغرق في التفكير طويلاً، ثم قال بوجه متجهم مهموم: "لقد ألفتُ كتاباً فلت من يديّ".

فهل من حقنا نحن المفكرين والمثقفين، أن نؤلف أو نترجم كتباً من شأنها أن تفلت من أيدينا بهذا الشكل؟! هذا هو التساؤل الذي كثيراً ما واجهت نفسي به، والذي يحتاج إلى جرأة في التفكير وفي مواجهة الذات.

أعود وأكرر: هذا لا ينتقص، بأي شكل من الأشكال، من روعة الروائع الأدبية التي ترجمتها سوسن وجعلتها في متناول يد القارئ العربي، وفي مقدمتها رواية "خيرة أولاد الله".

(ألقيت المداخلة في أمسية الإشهار بتاريخ 19.08.2021 في نادي حيفا الثقافي)

مصلح كناعنة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى