الخميس ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم مصطفى عطية جمعة

دبشليم وبيديا في عصر الحاسوب

قصة للأطفال

ملحوظة:

تستند هذه القصة إلى الشخصيتين الرئيستين في كتاب كليلة ودمنة، وهما الملك دبشليم، والفيلسوف بيدبا، حيث كان الملك يسأل عن قضايا في الحياة، والفيلسوف يجيب من خلال قصة يرويها، أو مثال يبرهن به.

لم يصدق الملك "دبشليم" ما رآه بعينيه، بعدما طاف أرجاء الأرض في حياتنا المعاصرة، وعاين أحوال الناس، وتغيرات الحياة، فقرر من ساعته إحضار صديقه "بيدبا" الفيلسوف والحكيم، وهو يعلم أن بيدبا قد تجول في الأرض مثله، وسافر بين البلدان، وعايش الناس عن كثب، متعجبا مما رآه من تغيرات الحياة؛ فالأبنية شاهقة،و الشوارع واسعة، والمخترعات يحملها الإنسان معه أينما ذهب، فضلا عن امتلاء البيوت بالأجهزة، فغمغم دبشليم قائلا: "شتان بين حياتنا في الماضي، منذ أكثر من ستة عشر قرنا من الزمان". (شتان بين .. وبين ماذا؟)

وكان كل من دبشليم وبيدبا قد تعلّما لغة أهل العصر، وعاشا معهم، وإن افترق دبشليم عن بيدبا في أحايين كثيرة، فكل منهما يدب في الأرض كيفما شاء.

إلا أن دبشليم لا يزال يتعامل مع بيدبا على أنه ملك متوّج، وإن كان بلا عرش، حيث يرى دبشليم أن المُلك صفة تظل أبد الدهر معه، وعلى بيدبا الفيلسوف طاعته، وأن يحضر فور استدعاء الملك له، وهو ما حدث بالفعل.

ذات نهار، وقد فرغ الملك من إفطاره الصباحي عند الضحى، أمسك بهاتفه النقال، وحرّك أزراره، فجاءه صوت بيدبا الفيلسوف على الفور، بنفس الصوت الخفيض، الذي يحمل آثار السنين في نبراته، وهو يرد بأدب:

 أهلا بك، مولاي الملك، خادمك بيدبا رهن إشارتك.
 أين أنت الآن أيها الفيلسوف؟
 في بيتي، أمام جهاز الحاسوب، أقلب في مواقعه.
 حسنا يا بيدبا، هلمَّ إليّ، بجهاز حاسوبك.
 سمعا وطاعة يا مولاي.

كان الملك مضطجعا، عندما ولج الغرفة عليه بيدبا، وفي يده اليمنى حقيبة حاسوبه الشخصي، أما يسراه فممسكة بهاتفه النقّال، فيما كانت ملابسه مؤلفة من قميص أصفر اللون، وبنطال بنيّ. ابتسم الملك لهيئة فيلسوفه العصرية، بينما هو لا يزال متمسكا بملابسه الملكية، بألوانها الزاهية: اللون السماويّ في عباءته، وعليه وشاح أبيض، وثمة شيء يشبه التاج على رأسه.

هتف الملك مخاطبا بيدبا:

 أراك قد انغمست في عالم اليوم، ونسيت كتبك التي كنت تئنُّ من حملها قديما.

أجاب بيدبا بأدب عظيم، مشيرا إلى حاسوبه:

 إنني أحمل تراث البشرية كلها من كتب وعلوم في هذا الجهاز المعدني الصغير، ولو كنا في عصرنا لاحتجت إلى مدينة كبيرة، لأملأها بالكتب.

سكت هنيهة بيدبا، ثم أردف:

كم أغبط بني البشر الآن، فقد امتلكوا العلوم والفنون، وهم جالسون على الآرائك في بيوتهم، وما عليهم إلا أن يقرأوا، متى رغبوا، وفيما أرادوا، فكل شيء متوافر بين أيديهم في أجهزتهم.

أطرق دبشليم مفكرا، ثم تمتم:

ولكنني حاورت بعضهم، خاصة من فئة الشباب، وقد أسفتُ من أحوالهم.

وما سبب أسفكم يا مولاي؟

رأيتهم جاهلين بأشياء، كنا نعدها في عصرنا من المسلمات المعروفة.

سكت بيدبا، ولم يشأ الاستفسار، فقد شعر أن الملك في جعبته بعض الكلام، كيف لا، وبيدبا خبير بأحوال الملك النفسية. يدرك بيدبا جيدا متى يتكلم فينصت له الملك، ومتى يسأل الملك إذا أراد مزيدا من الإيضاح، ومتى يجيب عن سؤال طرحه الملك.

أردف دبشليم، وهو يخرج كلماته ببطء، وكأنه يزنها قبل أن تتحرك شفتاه بها:

 رأيتهم لا يعرفون عناصر الطبيعة عن قرب، يكتفون بما درسوا في مدارسهم ومعاهدهم من علوم وإن كانت قليلة، كما أنهم لا يميزون بين أحوال البشر، ولا عاداتهم، ولا يعرفون من علوم الأوائل السابقين، من أهل الحضارات القديمة إلا شذرات قليلة، فعجبت من حال البشر اليوم، يتقدمون في مخترعاتهم، ويتقهقرون في معارفهم.. ولا أعلم هل أنا محق فيما رأيت منهم؟ أما أنا متجنٍ عليهم؟

رفع بيدبا عينيه المطرقتين أرضا، بعد إنصاته لما تفوه به الملك، وقال له:

 مولاي ما رأيتَه هو صحيح، وهو يصدق على البعض منهم، وليس الكل، لقد حفظ بنو الإنسان اليوم العلوم في أجهزة صغيرة، وظنوا أنهم ما داموا قد امتلكوا الكتب، فإن المعرفة تكون طيعة بين أيديهم، متى أرادوها، بحثوا عنها، فلماذا يتعبون أنفسهم في القراءة والحفظ؟ ولكن منهم العلماء الذين دأبوا على طلب العلم.
ابتسم دبشليم، وهو يهتف:

 إذن، أخبرني يا بيدبا عن أسباب ما رصدته من أحوال القوم اليوم.

أجاب بيدبا، وهو يقول:

 لقد تذكرت قصة() من زماننا الماضي، حينما تحدّى الثعلب جموع الحيوانات في الغابة، وقال لهم إنني تعلّمت بعض علوم بني الإنسان، ومستعد أن أعلمها لكم بشرطين اثتين. فسألته الحيوانات: وما هذان الشرطان أيها الثعلب؟ أجاب الثعلب: إذا أعطيتموني سؤالكم اليوم، فسآتيكم بالإجابة غدا. فتعجب أهل الغابة، غير مدركين سبب مقولة الثعلب. ثم سألوه عن الشرط الثاني، فأجاب: تأتون لي بطعام كل يوم، من طيب اللحم، مما تصطادونه من خراف أو غزلان أو طيور.

ابتسم دبشليم، وسأل بيدبا بلهفة:

 وكيف تعلم الثعلب يا بيدبا؟

 مولاي، لقد تنكّر الثعلب في ثياب البشر، وتعلّم بعض لغاتهم، بل إنه كان يغدو إلى بعض معلمي الصبيان، في القرى القريبة من الغابة، فيقف عند نافذة الفصل، ينظر لما يخطه المعلم على السبورة، واستطاع تعلم القراءة والكتابة، ثم غدا إلى كبير حكماء القرية، فرأى عنده كتبا كثيرة، ورآه يجلس يقرأ منها، ويجيب عن أسئلة الناس، فقرر أن يحملها إلى بيته "الوجار"، وهو كهف كبير، في قمة أحد تلال الغابة. وبالفعل، خلع الثعلب ثياب البشر، وراح ينبح بشدة في أهل القرية، ففروا خوفا منه، ومعهم الحكيم، فدخل الثعلب بيت الحكيم، وراح ينقل الكتب منه، حتى أخذها كلها إلى "وجاره"، وعاونه في حملها بعض الثعالب، على وعد أن ينالوا طعاما كثيرا.

سكت بيدبا، وتطلع إلى دبشليم، الذي كان مطرقا، ناظرا إلى الأرض، يفكر في الرابط بين قصة الثعلب قديما، وبني البشر حديثا، ولكنه آثر أن يسمع الحكاية إلى نهايتها، لعل في آخرها ما يكشف عن سبب أوّلها.
أكمل يا بيدبا.

ونجحت حيلة الثعلب، وأقبلت عليه الحيوانات، تسأله فيأتي في الجواب في اليوم التالي، أو تنتظر أن يقصّ عليها مما قرأه في الكتب، حيث يجلس على قمة التل، والحيوانات أسفله، أما الطعام فيصعد إليه دون أدنى عناء منه، فيأكل هو أولا، ثم يطعم بقية الثعالب معه.

ما أشدَّ خبث الثعلب يا بيدبا!

نعم يا مولاي، ولكن الثعلب سرعان ما سقط، وانكشفت حيلته.

وكيف كان ذلك يا بيدبا؟

إنه القرد يا مولاي، لقد تسلل ذات مرة، وتسلق إلى حيث "وجار" الثعلب، وشاهد الكتب المخزنة، وكيف أن الثعلب يقلب فيها، حتى يحصل على الإجابة عن الأسئلة التي تلقيها عليه الحيوانات.

ضحك دبشليم عاليا، وقال:

 ما دام وقع الثعلب مع القرد، فحتمًا سيفوز القرد.
 صدقت يا مولاي، فإن القرد من أذكى الحيوانات.
 إذن، واصل حكايتك، لنعرف ما فعل القرد بكتب الثعلب.

وضع بيدبا حاسوبه على طاولة بجانبه، وقال:

 لقد رأى القرد كيف أن الحيوانات تأتي بأطيب اللحم إلى الثعلب، وتصطاد له الطيور والأرانب والغزلان من الغابة، ففكر، ثم حضر مجلس الثعلب في اليوم التالي، حيث كان الثعلب يجيب عن سؤال لملك الغابة وهو الأسد. يجيب وهو يأكل اللحم بتلذذ، والحيوانات في شوق لما يقول. انتظر القرد حتى فرغ الثعلب من طعامه، ومن جوابه، ثم قفز قائلا: أيها الحكيم الثعلب، عندي سؤال إن أجبت عليه، فستكون جائزتك عظيمة، مما تختاره من اللحم. قال الثعلب بثقة: وما هو السؤال أيها القرد؟ قال القرد: قبل أن أطرح السؤال أشترط عليك شرطا. سأل الثعلب: وما هو الشرط؟

أجاب القرد: إن أتيت بالإجابة فإن اللحم سيأتيك لمدة ثلاثة أيام متوالية، وإن لم تجب، فإن الحيوانات ستؤكلك أنت. فكّر الثعلب، ثم قال بمكر: حسنا، أسمع السؤال أولا، ثم أرد عليك. فقال القرد: السؤال هو: ما اللحوم المسمومة التي إن أكلها بنو الإنسان قتلتهم، وإن أكلتها حيوانات الغابة أحيتهم ؟ ضحك الثعلب، فحتما سيجد إجابة هذا السؤال في أحد الكتب التي عنده، عن أطعمة بني البشر. فقال من ساعته: أوافق على سؤالك. سأله القرد: وهل توافق على شرطي؟ قال الثعلب: نعم أوافق على شرطك. قال القرد: إذن موعدنا غدا أيها الثعلب.

توقف بيدبا عن الكلام، حتى يلتقط أنفاسه، فيما نظر إليه الملك دبشليم نظرة عتاب لأنه سكت في موضع من القصة يتطلب الإكمال، ففهم بيدبا غاية دبشليم، فأكمل:

ثم إن القرد يا مولاي، جمع أصدقاءه في الغابة، فنادى على الفأرة زعيمة الفئران، وعلى الببغاء زعيمة الببغاوات، وصعد بهما إلى أعلى شجرة في الغابة، وكان الوقت بعد العصر بساعة، أي قبيل المغرب، ثم همس لهم بما رأى، وبما عزم، ووضع خطة، كلّف فيها كل واحد بعمل.

علام اتفقوا يا بيدبا؟

مع دخول الليل، تسلل القرد إلى تل الثعلب، ووقف خلف "وجاره"، وما فيه من كتب كثيرة، ثم إن الببغاء طار ومعه ببغاوات كثيرة أعلى الثعالب، يقلدون نباح الثعالب، فضحكت الثعالب، وراحت تصدر أصواتا وتزيد من نباحها، والببغاوات تتنافس في تقليدها، والثعالب في حبور وسعادة، وقد شاركهم الثعلب القارئ، تاركا كتبه، فيما تسللت الفأرة، وتبعتها فئران كثيرة، وهجمت على الكتب تقرضها، وتمزق أوراقها، وما إن اشتدت ظلمة الليل، حتى كانت الفئران قد أكملت قرضها للكتب، وكانت الببغاوات تطير عائدة إلى أعشاشها.

صرخ الملك بأعلى صوته:

يا لها من خطة جهنمية، لاشك أنه في اليوم التالي، لم يجد الثعلب كتبا، وعرف أنه سيكون طعاما لحيوانات الغابة كلها.

بالفعل يا مولاي، بات الثعلب والثعالب معه ليلتهم، وقد ضاق الوقت بالثعلب القارئ أن يقرأ الإجابة عن سؤال القرد، فأجل بحثه في الكتب إلى اليوم التالي، وما إن استيقظ حتى وجد كتبه مقروضة، متناثرة، فأدرك ما حدث، وهو مكار، وعلم أن هناك خدعة انطلت عليه، مع جموع الثعالب. ففكر سريعا، وعزم على الفرار، وما إن نزل من التل، حتى وجد الحيوانات جميعها في انتظاره، فقد طاف عليهم القرد مع شروق الشمس، ومعه الببغاوات والفئران، وأخبروهم بما حدث، ودعوهم إلى وجبة لذيذة على لحوم الثعالب.

تنهّد دبشليم، وهو يقول:

 بالفعل، الخبيث المكّار حتما سينكشف.
ضحك بيدبا، وهو يقول:
 مولاي، يظل "العلم في الراس، وليس في الكراس".
 وما فائدة الكراس والكتاب إذن يا بيدبا؟
 ما الكتب إلا أوعية لحفظ العلوم.
 وماذا عن الحاسوب؟
 إنه وعاء أيضا لحفظ العلوم، أما العقول فعليها أن تقرأ وتعي، لا أن تخزّن الكتب، وتظن أن المعلومة يحملها الكتاب، ولا داعي لأن يتعب العقل في حملها.

= انتهت =

قصة للأطفال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى