الأربعاء ٩ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم سلمان ناطور

ذاكرة حيفا على بحيرة متجمدة

يوم الجمعة المقبل 11 أيار يعقد في الميدان بحيفا يوم دراسي حول كتاب: "حيفا قبل وبعد ال 48 "، فيه حيفا تستعيد ذاكرتها. وكان اللقاء الأول للمجموعة التي ألفت الكتاب في مدينة سالسبورغ في النمسا. هنا شيء من ذاكرة هذا اللقاء

حيفا لا تعرف الثلج، ولا تعرف الموسيقى الهادئة.

يندر أن يملأ الثلج حيزاً من ذاكرتها، ولأن موسيقاها صاخبة، صخب الحياة، يندر أن يحضر فيها "موتسارت" سوى بحضور مطعم عربي جميل على شارع الخمر والعشق: شارع أبي نواس.

اختارت كاترين، مضيفتنا السنغالية الجميلة، من معهد العدالة التاريخية، أن نلتقي في قصر باروكي في مدينة سالزبورغ غربي النمسا، لنستعيد ذاكرة حيفا.

منتصف شباط.

هنا، في حيفا، كنا ننتظر عاصفة حذرتنا منها الأرصاد الجوية (نسميها عاصفة إذا أبرقت وأرعدت ونزل مطر فوق معدله السنوي).

نحن، هنا في حيفا، نحب العاصفة لأنها لا تؤذي، وهي ـ في الغالب ـ تحضر مطراً غزيراً، بعد خريف قاحل وجاف، فأهلاً وسهلاً بالعواصف غير العاصفة، واعذرينا، أيتها العاصفة القادمة، على غيابنا: لأننا سنذهب إلى مدينة الموسيقى الهادئة، والثلوج التي تتساقط بهدوء، وتتراقص على أنغام موتسارت المولود هناك، في بيت قديم في قلب المدينة. كل ما تراه العين أبيض، على الطريق من فيينا إلى سالزبورغ. الثلج يغطي السهول والقمم العالية ولا يصمد على فروع الأشجار العارية.

ألمدينة الصغيرة تبدو بلا أفق ولا سماء. خلفها سلسلة جبال عالية يكسوها الثلج، وسماؤها غائمة، والثلج لا يتوقف عن السقوط.

سائق التاكسي، التركي، لم يفهم من لغونا العربي سوى "السلام عليكم"، ولا يفهم الإنجليزية. اتصل بزميل له يجيد العربية، وصرنا نتبادل الحديث، عبره، مع جهاز خليوي مفتوح. لم تنبعث، من مسجله، موسيقى تركية، بل سمفونية لموتسارت، معروفة حتى لمتذوق أميّْ، مًثلي، يصغى إلى الموسيقى الكلاسيكية بوصفها خلفية لوقائع الحياة. يبدو أنهم، في بلد موتسارت، لا يصغون إلا إلى موسيقاه، هكذا في محطة القطار، وفي صالة الفندق، تماماً، كما أن الشوكولاته هي موتسارت، وعلى الملابس، وكل الهدايا التي تصنعها البلد، حتى الولاعة، أو القداحة، موتسارتية، وتباع في حانوت عند مدخل البيت الذي ولد فيه.

القصر الذي جمعنا، والقائم منذ القرن الثامن عشر، ليس مجرد مكان جميل ويشي بالعظمة. الرّخام، والخشب الخمري، واللوحات الكبيرة على الجدران، وسقوف الغرف الملونة، والصالات الكبيرة، تنقلك إلى تاريخ ليس لك، وإلى عالم لا تتوق إليه. إنه يستفز زائراً، مثلي، جاء من بلد التقشف والقتال ـ على الخبز ـ فيسأل السؤال الساذج، أو ربما سؤال المحرومين: لماذا لا يكتبون، على جدران القصر، كم من عامل اشتغل في بنائه، وكم منهم قتل، أو جرح، ومن أين المال لصاحبه الإقطاعي؟ مثل هذا السؤال يبدو ساذجاً، أو ـ ربما ـ خبيثاً، في قاعة المرمر، التي تناولنا فيها عشاءنا، وحضرت حيفا في حكايات "أبو العبد" العربجي، الذي كان يقطع شوارعها على حنطوره، من حارة الكنائس حتى وادي الجمال. القصر القائم منذ القرن الثامن عشر يقع على ضفة بحيرة تجمد سطحها، وتراكم عليها الثلج، فبدت ساحة كبيرة: لا الشجر العاري يخرق استواءها، ولا عمارات قديمة، أو حديثة. ذاكرة حيفا حضرت في القصر، وكانت حكايات جيل يبحث في الكتب المفقودة، وينبش في ما بقي من ذاكرات الناس الذين عاشوا في تلك الأيام، ومنهم من بقي في وادي النسناس، ومنهم من تفرق بين أيدي الحليصة، ووادي رشميا، وشارع الجبل.

أربعة أيام متواصلة لم تترك فسحة للتزلج على جليد الجبال، ولا زيارة القلعة المطلة على سالزبورغ، وتحفظ ذاكرتها كما يليق بمدينة عريقة ارتبطت بالموسيقى منذ أخذ موتسارت، الطفل ابن السنوات الثلاث، عبقرية والده الموسيقية. ليس غريباً على هذه الطبيعة أن تنجب العباقرة. للموهوبين في هذا الفضاء متسع للتأمل كي يصبحوا عباقرة. هذا هو كل ما بيننا وبينهم: متسع للتأمل، ويعني مساحة لا محدودة من الحرية. مساحة تمتد كامتداد سلسلة الجبال المتجهة إلى أفق بعيد، فيكتب من يكتب، بحرية، ويعزف من يعزف، بحرية، وبحرية يضع الفنان على طاولته كل أسئلة الخلق والخليقة. هكذا كانت حيفا على طاولتنا في الصالة الكبرى. صارت مكاناً قابلاً للتفكيك. صارت رزمة من الذكريات والحكايات، لكل منها معانيها واستعاراتها، وفي لحظة انقشاع خيل لي أنها تحولت إلى بحيرة متجمدة يذوب عنها الجليد، شيئاً فشيئاً، ليظهر ما في باطنها من حياة، أو لتعود إليها حياتها في فضاء بلا حدود، ولا قيود. في هذا المشهد الدرامي علت حكاية الفلسطيني الغائب عن حيفا: عباس شبلاق.

كان في الخامسة من عمره، عندما حملته سيارة سوداء من بيته، في وادي الصليب، مع والدته التي حملت معها ماكنة الخياطة، ووالده الذي حمل صندوقاً خشبياً فيه مفتاح البيت، وأوراق عائلية مهمة، ومنها إلى نابلس، واللبن الشرقية، وامتد الترحال إلى سوريا ولبنان وتونس والجزائر.. إلى كل مكان إلا إلى حيفا.

لندن صارت محطته الأخيرة، ومنها عاد، من بعد غياب دام أكثر من أربعين عاماً، ليتفقد البيت، فوجده قائماً، كما تركه، وفي الطابق الأرضي تسكن عجوز ما زالت تحتفظ بأثاث البيت. قالت له سارة، التي تذكرت عائلته: "هذا الأثاث لكم، أحتفظ به، إذا شئت، فيمكنك أن تأخذه." لم تقل له: "هذا البيت لك." فقط ما كان في البيت، من أثاث، وأغراض لم تقدر على حملها والدته عند الرحيل. على أحد الجدران علقت سارة صورة ابنها الجندي، وابنتها. "سأحكي لهما عن لقائنا"، قالت سارة وقدمت له القهوة العربية. بعد عام ماتت سارة. أعادني بيت عباس شبلاق، في شارع البرج، إلى بيت شاعرنا، عبد الكريم الكرمي (أبي سلمى)، في شارع البساتين، بحي الألمانية. طلب مني، عندما التقينا، في صوفيا، أن أزور البيت. ذهبتُ. كانت تسكنه امرأة من أصل روماني. قالت إن عائلة بولونية سكنته، من قبل، ولم يقل لها أحد إنه كان بيتاً لشاعر كبير هجرّ منه، مبحراً على قارب، وهو يحمل مفتاح البيت، ومجموعة قصائد، بخط اليد. سقطت المجموعة في البحر، وظل المفتاح. بعد عام مات أبو سلمى.

جلس عباس شبلاق بيننا، في الصالة الكبرى من القصر، يستعيد ما علق في ذاكرته، من حيفا، قبل أن يعرف المنافي طفلاً في الخامسة، وصرنا نحكي له ما حل بمدينته، بعد غيابه عنها. كانت الخواطر والحكايات تتوارد سمفونية السرد، هادئة، أحياناً، إلى حدود الصمت، ومتوترة، في أحيان أخرى، إلى درجة الصخب.

أعادتنا حكايات عباس شبلاق، عن بيته الواقع على الحد الفاصل بين وادي الصليب والهدار، إلى أيام حيفا الجميلة: إلى لياليها، وسهراتها الصيفية، وإلى صحفها، وكتابها، وشعرائها، والى نواديها، ومقاهيها، يوم كانت مدينة صيف وسهر، وقبل أن تتبدل أسماء شوارعها وأحيائها، ويصير شارع البرج "شارع التحرير"، أي تحريره من عباس شبلاق، ابن الخامسة، ومن أمه التي كانت تطرب، كثيراً، على لحن "مرمر زماني يا زماني مرمر". عباس صار اسما حيفاويا كلله حبيبنا القادم من لندن بحكايته، مثلما تكلل المدينة قبة عباس الذهبية على منحدر الكرمل، وشارع عباس الذي ما يزال يحتفظ باسمه. أحب هذا الاسم الحيفاوي الكرملي، ولا أعرف لماذا يأخذني إلى بغداد، وإلى ألف ليلة وليلة، في شطحات حنينية إلى أدب منفلت القيود والرقابة، والى موسيقى تنساب كانسياب دجلة وبردى. حدثت صديقنا، القادم من مدينة الصخب والضباب، عن الشيخ عباس الذي كان يحلم بإسقاط الطائرات البريطانية، وأكله الضبع لأنه فقد الذاكرة - كما قال أهل بلدنا - ضحكنا على خفة ظله، وحزنا على مصيره. حكاية تفتح جراحنا، ولكنها تعيد إلينا فلسطين، أو تعيدنا إليها، كما هي في الذاكرة: ذاكرة الفرد، وذاكرة الجماعة. عندما نتذكر، ونذكر تلك الأيام التي سبقت الرحيل، فاننا نرسم لأنفسنا وطناً عامراً بالحياة. يحلو للجيل الذي عاصر تلك الفترة أن يتحدث عن حياة المدينة، وعن ازدهارها الثقافي. قال لي شيخ مسن، وكانت يداه ترتعدان انفعالاً: "انا حضرت حفلة أم كلثوم في حيفا، أنا شفتها بعيني، وقربت منها، وسلمت عليها.. بايدي هاي.. والله العظيم سلمت عليها."

اعتقدت، في البداية، أن هذا الشيخ يهذي، أو يحكي "كمن ماتت أجياله"، فعدت إلى المصادر المكتوبة، وإذا بحيفا محطة هامة في سيرة أم كلثوم.

حيفا منحتها لقب: "كوكب الشرق." قال الكاتب المصري، إبراهيم عبد القادر المازني، الذي دعاه أبو سلمى إلى حيفا : لن يعترف بك الوسط الثقافي أديباً عربياً الا إذا منحت اللقب في فلسطين. كتب أبو سلمى: كانت فلسطين الثلاثينات والأربعينات، من القرن الماضي، قبلة رجال الأدب والفكر. من لبنان زارها، مراراً، أمين الريحاني، والأخطل الصغير، والشيخ مصطفى الغلاييني، وعمر فاخوري، وأمين نخلة، وتوفيق عواد، وعمر الزعني، ومن دمشق خير الدين الزركلي، وشفيق جبري، وعمر أبو ريشة، وبدوي الجبل، وخليل مردم، ومن العراق معروف الرصافي، والجواهري، ومن مصر إبراهيم المازني، وعباس محمود العقاد.

هكذا حضرت حيفا الأمس في القصر الباروكي، الذي زينت جدرانه لوحات تعكس، بسذاجة، لقاء الأرض بالسماء، ومداعبة الروح للجسد، ومحاولات بائسة للخلاص من الخطيئة. لم يتوقف تساقط الثلج، على مدينة سالزبورغ، عندما حملنا حقائبنا، وابتعدنا، عن البحيرة المتجمدة، لنركب الطائرة.

عبر شباك الطائرة الصغير تنظر إلى فوق فترى سماء زرقاء صافية، وشمساً مشعة، وتنظر إلى تحت فلا ترى إلا الغيوم البيضاء تحجب الأراضي الواسعة، التي يغطيها الثلج، كتلك البحيرة المتجمدة. عندما يذوب الثلج تعود الحياة، من جديد، إلى الأرض. يعود، إلى أشجارها، ورقها الأخضر. تعود، إليها، عصافيرها التي لا تحتمل البرد.

يخرج الفلاحون من بيوتهم ليحرثوا ويزرعوا. على أرصفة المدن يجلس العشاق، في المقاهي، في سالزبورغ، على أنغام موتسارت، وفي حيفا تصدح الفيروزيات من مقهى "فتوش"، على شارع الحب والخمر، شارع أبي نواس، لتبدأ، من هناك، رحلة جديدة في ذاكرة حيفا.

(نص مختصر نشر مترجماً في مجلة "ميديترينيان" الفرنسية، عدد 14، ربيع 2010)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى