السبت ١٣ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم طارق البكري

ذكريات إجازة صيفية

صباح "برد" جديد، جمع ناس يسير ببطء على طرق مغسولة بماء "مطر"، يتحادثون، يتضاحكون، يتهامسون.. دون أن يهتم أحد ببرد واهم يجمد دماء العروق.

صوت نار في مدفأة جدارية قديمة يؤجج برد الشتاء، وماء منزلق على حوائط متدلية خلف أبواب جسورٌ معلقة بين سماء وأرض.

على غصن شجرة تحت مرأى البصر عصفور نشر جناحيه يغسل ريشه الرطب بأشعة شمس تتسلل بحياء من نوافذ غيمات، ولون انكسار الضوء يفرش الأفق بلوحات لونية مدهشة.

أتذكر أيام صيف مدينة خليجية ملتهبة، تمتد لأكثر من نصف العام، وأفظع الأوقات تلك التي يتعطل فيها مكيف هواء السيارة، فيدفعنا لشعور يماثل من دفعته الأقدار ليسير دون ساتر بين رأسه والشمس، وحتى شعر الرأس ينحسر فيكشف سترا تحت نخاع.

مدينتي المبللة بماء المطر عطشى لحب، لشيء يبدد صمت الليالي وأرجوحة القمر، ويعيد المدى للبحر لجبل، لعروس فاتها عريسها يوم الفرح، فنكست رأسها حتى توارت في حجاب، وغابت عن وجنتيها صباحات الصور.

صباح جديد، ومدينتي لا تغسل عينيها، تجمدت حبات اللؤلؤ في محاجرها، فقدت أنوثتها، أودعت أطراف ضفائرها في سجن الليل، ذلك الليل السجين، المتمرد، المسكون بالعتمة الأبدية.

أتذكر صوت الربيع يوم كان الربيع يغني، أتذكر الساعة الكبيرة المزروعة فوق العشب، لا أذكر لون العشب، لا أزعم أنه كان أخضر، ربما، فكل عشب لا بد وأن يكون أخضر، ومع ذلك فليس في رأسي أي صورة تذكرني بلون عشب الساعة، فقد امحت الألوان عندي كما امحى لون شعري.

البرد يشتد، السحب تتراكم كصفحات باهتة حالكة، تعدو سريعة لاهثة، والشمس تغفو خلفها، تنتظر موعد إشراق جديد..

صوت مذيع أعرفه، كنا نعمل سوياً في ريعان الشباب، يحذر من عاصفة ثلجية تغزو مناطق جبلية، يتحدث عن سيارات بين ثلوج يحاول رجال الانقاذ تحريرها من أسرها، ينقل عنهم أن الأمور تحت السيطرة ولا داعي للقلق " الطرقات على العموم سالكة للسيارات المجهزة بسلاسل حديدية".

كم أكره السلاسل الحديدية، طالما عرفتها في مرحلة من العمر، أي عمر هذا يعيش بين السلاسل والقيود؟ كانت الطفولة أسر، والشباب أسر، والرجولة أسر...

بياض مدينتي لم يكن غير غشاوة وضباب، أول نسمة أطاحت بكل الأسرار، جعلت من حجار المدينة متاريس لكل الأبطال المزعومين، أشباه الرجال، الذين ضحكوا علينا مسيرة عمر، غسلوا التراب بمداد أحمر، زرعوا الأصفاد في كل مكان، وكان نصب الشهداء الشاهد الوحيد فخلوعه ليعود شاهدا صامتا بعد ترويضه..

وددت لو أعود الى تلك المدينة بعد هجران طويل فأجد التراب عاد لوهجه، والحجارة أمضت أثقالها، والنصب ألقى همومه، والحرية غادرت أصفادها... فما وجدت غير برد، والناس تضحك من برد يجمد دماء العروق.

عيون السحاب المكحلة ترصدني في كل مكان، في مدرستي المنتصبة بشموخ قرب ما كان يعرف بخطوط تماس، في ملاعب تظللها أشجار الصنوبر المنخلعة من أرضها بعيد رحيلنا عنها بقليل، لتزرع الأرض مكانها جبالا من الأسمنت المصقول، الملتصق بحبيبات ترابية دسناها بخفة وحب، عفرنا بها أقدامنا، غسلنا بها أكفنا ووجوهنا يوم عز الماء، وأبيح التيمم...

تذكرت ذلك كله بعدما اشتعل الرأس شيباً، وفقدنا كل تلك الأحلام التي عانقت الصنوبر.

حفرت وصديق لي كلمات للذكرى، كنت أعود إليها لأراها من سنة لأخرى..

أتذكر التراب المسكون بغربتنا.

بعدما حفرتُ الكلمات، قرأت في كتاب أن جذوع الشجر تتضرر إذا حُفرت التذكارات في جنباتها، حزنتُ كثيراً، قررتُ الامتناع عن الحفر في الشجر طوال العمر.

ما ظننتُ أن الاشجار كلها ستقتلع ليكتسح الأسمنت ملاعب الصبا ويدفن تحته ذاك التراب المتوّج بفرح...!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى