الخميس ٢٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم عايدة نصرالله

ربطة عنق وصحن "كوشري"

في مطعم السمك "قدورة" يصبح للسمك نجوى ورائحة تشبه المسك وأنت على موعد مع رجل ذ وجه حزين هارب من رؤية نفسه في المرآة.
"لن يأت. ربما يخاف التطبيع"
قالت صديقتي جادة

لم أشأ الدخول لمصطلح التطبيع الذي بات لقمة في فم جمل.

قال لي:
ما الذي يغسل العنق القادم من اللهيب بلهث القوافي غيركِ"؟
وأنتَ...
_إياكَ أن تهربَ . سأشكلك وردة وأنفحك بعطري، وأغمس ترابك بزيت الياسمين.
وسنلقي بتعبنا معا، ستفك أنت ربطة عنقك التي زاملتك و الملفات في مكتب محشور في أزقة العتمة ، ستلعب ألعابا لم تسكنك. لأن الطفولة تأبى أن تتعرف عليك. مجبرا كنت على أن تكبر قبل أوانك.

  أنت رجل يا محمد. أنا أتكل عليك في كل شيء.
 حاضر بابا
 أنت مسؤول عن العائلة
 حاضر بابا
يسحبه أبوه من يده نافخا كرشه ونافشا عباءته كطاووس إلى بيوت العزاء، إلى الأعراس، إلى أصدقاءه.
 ما شاء الله محمد، صار طولك
 هو ما خرجت به من الدنيا. إن شاء الله سيكون دكتور.
يسمع محمد صياح حمزة وصلاح في الشارع القريب:
 جووول ، فاتت الطابة، جووووووووووووول.

ينظر أبو محمد لمحمد غامزا.
يتبادل محمد النظرات مع أبيه. يبتسم قسرا. يشعر الكرة التي ضربت في الشارع تلامس قدميه، صراخ الأطفال ينسرب لقلبه. عيناه تحلقان.. شيء ما في أوردته ينتفخ بكاءَ.

" محمد سنلهو كثيرا. أنا وأنت، ما رأيك بلعبة السبعة حجار؟"

يضحك محمد
"لا أعرفها"
"طيب ما رأيك بلعبة "الغميضة"؟
يتحمس
"نعم. ساعديني لأمارس طفولتي معك، فكي أغلال روحي"
"وأنا سأفك أغلال روحي معك"
يسافر محمد إلى سنه العاشرة، ملتصقا لكرسي الكتابة، صوت الطابات في الشارع يخترق أوراقه. يتململ.. يتردد..يشحن جرأته ويتجه لأبيه:

 أبي هل اخرج لألعب معهم؟
 تلعب؟ أنت رجل.
محمد الرجل، قميصه أبيض ناصع مكوي جيدا، الربطة كحلية والجاكيت كحلي أيضا، حذاءه لامع ، لا يحيد عن الخط المستقيم في طريقه إلى مكتبه. وصوت كرة القدم يغزو مخيلته دائما.
"أنت رجل يا محمد"
يصمت.
يلهث وحده ليلا.
كثير اللهاث ليلا. يشعر بسائل يبلل وحدته. وما إن يستكين حتى يسري دبيب نمل في عضوه. في الصباح يقوم ذابل العينين. ثم لا يجرؤ النظر في عيني الفتيات.
فهو مهذب جدا. وربما خوفا من تسرب ماء ليله إلى عيونهن فتظنن به الظنون.
مل نهارا ته المزينة برتابة الوقت، ساعة ذهابه مرتبة، ساعة قدومه، أكله، حتى مرضه أصبح رتيبا. يأخذ الدواء في ميعاده. لكنه من شدة حقده للرتابة تمرد على الدواء، واكتفى به شهيدا على أول تمرد له.

"هل أخجل عزيزتي لأني لا...".

"لم الخجل، أنت هكذا يا طفلي".

"أنا لا أكتفي، أتوتر"

يصمتان.

"هل قلت شيئا صعبا؟" يسألها
"لا أبدا، قل كل ما عندك، وعدتك أن تنفس عما في داخلك"
"معكً فقط سأستطيع فك المشانق اللولبية عن عنقي"
"بشرط أن تفك ربطة عنقك"
"فقط معك"
"كيف تتصوري لحظة لقائنا"؟
"لندع اللقاء يكون تلقائيا، لكي لا نفقد لحظات الإدهاش"
"وهل ستدلليني."؟
"نعم. سأدللك بطريقتي"
"كيف"؟
"قلت لك دعها للقاء..لا أريد فقد الدهشة".
"حسنا سأنتظرك"

ركزت عيني في صحن السمك وبدأت كمن جاعت كل السنين آكل بنهم. لاحظت صديقتي طريقة أكلي.
"غير معقول وكأنك تنتقمين من السمك"
نعم أنتقم من عدم جرأته على القدوم والتهام سمكة أخرى كانت على وشك الرحيل من جوف البحر لتحال إلى فينوس لليلة واحدة بشرط أن يفك ربطة عنقه
"محمد"
كان اسمه عندما ولدته أمه
وبقي اسمه هكذا محملا بعبق "الحواري" المصرية، مع إضافة بسيطة، محمد المحامي.
"يا كوشري"
صيحة أنت من قلب الزقاق.

قمت فجأة من صحن السمك
أردت كوشري . محمد ذكرني بالكوشري. ربما لأن وجهه شاحب إلى حد فتك الحرف وتشكيل الزهور في داخلي إلى رمال.
"كوشري"

صحون الكوشري موزعة على الطاولات، رائحة التوابل تنفث في الوجوه، حرارة المكان تجعلك تتفصد عرقا، نساء بالجلابيب، سمر وصفر ، والأوان قمحية، الماء يقدم بوعاء ألمونيوم. صديقتي تتقزز من الألمونيوم، أرى رجلا يشرب من وراء صاحبة، وصحته مثل "البم". لا شيء يحيل هؤلاء الناس إلى مدللين. صاحبتي تطلب كأسا بلاستيكية وأنا أذوب خجلا من طلبها عند رؤية الرجل يحمر من جرح كرامة مضطر لبلعها.

نهرتها "من أين آتيت ، من كوكب آخر؟"

هذا هو المكان..لا أعرف لماذا تشدني هذه الأمكنة التي جاءت من الوجع المخمر بسمرة أبناء النيل. رغم حرارة المكان لكني شعرت بسلام نفسي غريب.
أمي كانت دائما تقول "أنت لست ابنة نعمة، تحبين الفقر"
ربما. لكن هؤلاء السمر الذين يطرزون بؤسهم بالنكتة وخفة الدم برائحة متجذرة في أوصالي منذ آلاف السنين، هم من يسحبون عنقي للتحليق.

وأراني بينهم، يأكلون بطريقة تفتح شهيتك لأكل الكوشري، صحن عميق يشبه صحون جدتي، ويتيح لك تكملة النهار بشبع غريب. وكأن لمسة من يد سحرية تجعل الكوشري على فجأة يستدعي اللحظات الطفولية التي كنا فيها نتمتع بصحن "الفتوش" والمنكوشة الساخنة.

كوشري يا صنع النيل. ولم يغب ابن النيل عن خاطري.

"هلا يا محمد أتيتني على الأقل لتشاركني صحن كوشري، فربما تحل ربطة عنقك"؟ّ!!!.

لم ينجح الكوشري في أن يجلب محمد.وبقيت الربطة تزين عنقه.

القاهرة - تموز - يوليو 2005


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى