الاثنين ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

رجل محبط

تسللت خيوط الشمس الذهبية إلى حيث ينام، داعبت وجهه المتعب في حنو زائد، وغمرته بهالة من دفئها السحري النفاذ، تمطى في سريره المتهرئ، مازال شاعرا بالإرهاق يهد جسده، إنه لمتعب حقا.
فتح عينيه بصعوبة بالغة، تطلع إلى ساعته، إنها تشير إلى التاسعة صباحا، إجازته على وشك الانتهاء، عاد إلى إغماض عينيه المرهقتين من جديد. ما ألذ النوم وما أطيبه!

تقاطرت في أذنيه طرقات متتالية على الباب، أفسدت عليه لذته ومتعته، تأفف بعنف شديد متسائلا في دخيلته: من الطارق يا ترى؟
اعتدل في سريره بعد أن نفض عن ذاته الغطاء، سار بخطوات بطيئة، متكاسلة نحو الباب، فتحه وهو ما يزال مرتديا منامته.
ـــ ألست بحاجة إلى خادمة؟
ـــ لا، أبدا.
وأغلق الباب برفق.

فرك بأصابعه عينيه المحمرتين كالجمر، فتح صنبور الماء، لم يجد ولو بقطرة، إنه شحيح للغاية، سكان هذه العمارة يعانون من أزمة مائية خطرة. تذكر حينها زجاجة إفري التي اشتراها البارحة، غسل وجهه، وأطرافه، ومضمض فمه، ثم وضعها على الطاولة، وأحكم إغلاقها، بدل ثيابه، وانتعل حذاءه، وخرج.
جارته سهام واقفة أمام عتبة الباب، ابتسمت له في ود مغر ينبض بألف معنى، وألف لغز، ونثرت حوله تحيتها الرقيقة الشبيهة بالندى، أهملها ولم يرد.
حدث نفسه نازلا درج العمارة: هي هكذا تنتهز فرصة غياب زوجها، وتستقبل الرجال في بيتها بكل حفاوة، هي على وشك تحويله إلى وكر للدعارة، ملعونة هذه السيدة إلى يوم الدين، مستهترة تجيش دواخلها بالخبث، والقذارة، والفساد، تسعى دوما لاصطيادي وإيقاعي في شباكها النجس لتسمم بدني بوبائها الفتاك، لا، لن تقوى على ذلك، أنا متفطن لمكائدها المحبوكة، لن أكون فريسة سهلة لهواها المزعوم. كم من مرة فتحت لي بابها على مصراعيه طالبة مني الدخول وارتشاف القهوة بمعيتها، أنا لا أثق في هذه الزيجة من النساء.

المقهى تقابله في الطرف الآخر، عبر الطريق، تهالك على الكرسي طالبا من النادل فنجان قهوة، وضعت أمامه بخفة عجيبة، شرع في احتسائها على مهل، وطفق يتلذذ طعمها، إنها بمثابة المسك الطيب، ستزيل عنه هذا الإرهاق الذي غزاه من رأسه إلى أخمص قدميه.
حين فرغ من ارتشافها دفع الثمن، وتابع سيره، البارحة تمتع بفيلم المومياء أخذ من وقته الكثير، لم يخلد إلى النوم إلا بعد منتصف الليل.

بلغ محطة الحافلات، انتظر لبضع دقائق، امتطى الباص، تنهد بارتياح عميق كأنه يبعد كابوسا مرعبا ربض فوق صدره، وناجى نفسه: بالأمس كان المواطن الجزائري لا يفوز بمقعد إلا بعد جهد جهيد، ومعاناة مريرة، أما اليوم فوسائل النقل متوفرة بكثرة، لقد تبخرت المعاناة والحمد لله.
انتحت فتاة مكانا بجانبه، كانت تتضرج مرحا زائدا، وجمالا آثما، وترتدي لباسا قصيرا فضح ركبتيها بوضوح، امتعض منها هامسا في سره بكل أسف: لم لا ترتدي الحجاب؟ الحجاب سترة.
أخرجت من حقيبتها اللماعة الهاتف النقال، تحدثت بصوت يكاد يكون مسموعا: لا تقلق يا نور عيني، سنلتقي في المكان المحدد المتفق عليه، أنا أتضور شوقا إليك.
ردد في نفسه وهو ينظر إليها من تحت عينه: أعوذ بالله، أعوذ بالله.
ـــ خبر، ليبرتي، خبر، ليبرتي.
ـــ الخبر من فضلك.
ونقده المبلغ
تصفح الجريدة، قرأ العناوين: تزايد مقلق في عدد الانهيارات سنويا، معالجة القروض في أجل لا يتعدى أسبوعا، انتحار شاب في العقد الثالث من عمره.

تحركت الحافلة الصغيرة محدثة زوبعة من الغبار، طفل يبكي في حجر أمه، وأخرى تقيء على مقربة منه، صرخ مواطن في وجهها بكل غيظ: لطخت سروالي الجديد، هل طار عقلك يا امرأة؟ ألا تلاحظين أنني صرت مهزلة مضحكة؟
هدأه شاب بألفاظ تهذيبية: الأمر ليس بيدها كما تعتقد، التقيؤ فوق إرادة المرء، كن متفهما.
الباص يطوي الأرض طيا، الشابة الجالسة بجانبه تمضغ علكة وتفرقعها بصوت مسموع، قال في نفسه متذمرا: والله عيب.
وصلت الحافلة الصغيرة، نزل وهو يطوي الجريدة ويضعها تحت إبطه، اعترضت سبيله امرأة عجوز في ثياب مهلهلة، وبسطت يدها داعية له بالخير والبركة، أدخل يده في جيبه، وضع في يدها خمسة دنانير، مشى بضع خطوات اعترضته أخرى بيد أنها لا تتعدى العاشرة من العمر، لم يعطها شيئا، لو بقي يوزع نقوده يمينا وشمالا فليقل على الدنيا السلام.

ارتفع زعيق سيارة عاليا، ارتطمت بطفل كان يجتاز الطريق آنذاك، سقط أمامها ومحفظته ملتصقة بظهره، وكان جمال قد انضم إلى الجمع الغفير، صاح أحد المواطنين بتأثر: أنظروا إنه ينزف.
تعالت أصوات أخرى تبطنها الدهشة والفزع: سيموت المسكين، سيموت.
ما هي إلا لحظات حتى نقل إلى المستشفى في سيارة الإسعاف.
أحس جمال بحزن عميق يتساقط فوق شغاف قلبه، وينفذ إلى أوردته، تساءل والحيرة تبتلعه ابتلاعا: لماذا صار بعض السائقين يجازفون بحياتهم وحياة الغير؟ لماذا يهرقون الدماء بسبب السرعة المفرطة؟ ألا يدركون بأن في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة؟
زماننا هذا صار مخيفا للغاية، زلازل، فيضانات، أعاصير، وحوادث مرور.

أخرج هاتفه النقال، هناك من يتصل به، أخته سميرة تشهق بألم وحرقة وتقول: زوجي يخونني مع أخرى، وأنا أرفض هذا الوضع غير اللائق.
ـــ لا تهتمي للأمر، سأعالجه عما قريب.
تساءل مشدوها: هل حقيقة أن سليم يخون أختي، ويهدر كرامتها عبثا؟ رباه أرجو ألا يكون كلامها صحيحا، ربما أختي تتوهم فقط ، ربما تشك، المرأة بطبيعتها لا تبكي إلا إذا أحست ببيتها على وشك الانهيار، المرأة لا تشك في زوجها إلا إذا هاجمت رائحة الخيانة أنفها، نعم هكذا هي بنت حواء.

سليم قادم باتجاهه، صافحه بحرارة شديدة قائلا: أختك غادرت البيت دون إذن مني.
ـــ والله كلامها محير، أنبأتني أنك تخونها مع أخرى. هل هذا صحيح؟
رد سليم بكل خبث: افتراء وهراء، هل من المنطقي أن أخونها ولي ثلاثة أولاد؟ يستحيل هذا، يستحيل.
كم من نساء فاضلات تألمن في الصميم حين فر أزواجهن من أعشاشهن، وكم من نساء رخيصات ابتهجن للإستيلاء على أزواج غيرهن.

لا يمر من شارع إلا وصادفه متسول أو متسولة، هذه المرة أثارت انتباهه امرأة تلتف في أثواب رثة متسخة، وتخفي أنفها وراء نقاب أسود طويل، ظن أنها ليست غريبة عنه، خيط رفيع جدا يربطه بها، من تكون يا ترى؟ هل هي قريبته؟ هل هي أخته؟
استدار خلفه ليتحقق من أمرها، رآها تركض بكل ما أوتيت من قوة إلى أن توارت عن ناظريه. داخله إحساس كبير في كونها أخته، لم يعثر عليها وكأن الأرض انشقت وابتلعتها، هل تعود ثانية إلى نفس المكان؟ وهل يراها مجددا ليرتاح من كابوسه المفزع هذا؟

راقبتهما وهما ينزلان من السيارة، ويدلفان إلى بيت أنيق، تسللت إلى الداخل وهوت عليهما بضربات قادوم فشجت رأسيهما، ولاذت بالفرار.
اندفع جمال هائما على وجهه، وفجأة شعر بالأرض تميد تحت رجليه، فقد التوازن تماما، سقط على الأرض، الدور والمباني تنهار أمام عينيه، غبار كثيف يتصاعد في أجواء الفضاء، صراخ مريب، ندب، وعويل يملأ أذنيه، أناس يتدافعون، يركضون في كل الاتجاهات، الهول أيبس شفتيه، إنه الزلزال.

الموت نسر جارح اجتاح المدينة في وضح النهار، أخذ ما أراد، واستغنى عن البقية لتتمم المشوار، ولكن فم الموت يبقى فاغرا فاهه إلى الأبد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى