الخميس ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

رجل من ضباب

انقلبت حياتها الخصبة، المبهجة رأسا على عقب، لم تعد تنعم براحة البال مثلما كانت تنعم بها في الأيام الخوالي، صارت ميالة إلى التخمين، والانفعال، وكثرة الشرود وكأن بها تحمل أوزارا ثقيلة كالجبال فوق عاتقها، شعور طاغ يطفح بالمرارة، والانكسار، والعذاب أفقدها حلاوة الحياة، ونرجسية المرح، ونكهة الحلم المزركش الجميل.

زميلاتها في المهنة المقربات إلى قلبها لاحظن انقلابها العسير، الشرس الذي أربكهن بشدة، وزج بهن في قعر هاوية مريعة تكتنفها أشواك مدببة من الحيرة الرعناء، والتساؤل المعتم: ماذا جرى للحسناء الناعمة، المدججة بعيون الانبهار والتألق؟ هل أصابتها عين متهورة، حاسدة ضربتها بكل قوة في الصميم؟ وهل عن دون وعي التهمت سحرا أشد فتكا من يد شريرة، نجسة لا تدرك بعمق معاني الرأفة الحقيقية، والانسانية الصافية الخالصة؟

تضاربت أمواج التساؤلات العاتية في أدمغتهن، طوحت بهن بعيدا في مهاوي العتمة، والذهول، وظلت أسئلتهن تتذبذب، وتتأرجح كأسطوانات مخدوعة، مشروخة الصوت.
الرجل الغامض يحتل عنوة أوسع مكان من عقلها، يبلبل بنات أفكارها الجامحات، ويشتتها باشتهاء وهوس كما تتشتت من غير قصد أحلا م العانس بعد طول انتظار.

لم تكن لديها الجرأة الكافية للبوح بسرها الدفين الذي تصطلي بنيرانه اللاهبة، هل ارتكبت خطأ فادحا حين فكرت به لأول وهلة من حياتها؟ وكيف تلغيه إلغاء لا رجعة فيه من مخيلتها؟

لقد أعلنت بينها وبين نفسها عن عجزها العقيم، وصارت بين ليلة وضحاها فاشلة بامتياز في مواجهة هذه القصة العصيبة، المبتورة أحداثها، بطلها شخصية توغل في الغموض واللاجدوى، وتومئ في الحين بالخيبة، والهذر، واللانجاح.

ابتسامته الحانية التي تصبغ شفتيه، وتطوقها كل ساعة من ساعات عمرها، وصمته الآسر ذاك يشكلان معا تركيبة مبهمة، خيوطها اللامرئية من ضباب.
الشهور تزحف تباعا، تتثاءب ببطء، تتكاسل، لا جديد يذكر بتاتا.

لمحته عن كثب محاطا برجال الشرطة، تسمرت في مكانها كالوتد الصلب ورياح خيبة قاهرة تعصف بها من كل جانب.
بعد حديث عابر لم تتبينه ساقوه أمامهم بحذر كما تساق النعجة للذبح، وما هي إلا دقائق معدودات حتى انطلقت سيارتهم تطوي الأرض طيا، وتوارت عن الأنظار كما يتوارى الحلم الشارد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى