الخميس ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٠
بقلم رامز محيي الدين علي

رجولةُ امرأةٍ

عمّالٌ منهمكون في العمل وقتَ الظّهيرةِ يحفرون مجاريَ الصّرف الصّحّيّ في القرية، وإلى جانبَيّ المجرى المحفورِ تتناثرُ أدواتُ ومستلزماتُ عمّال البلديّة، ودرّاجةٌ ناريّةٌ صغيرةٌ سوداءُ اللّون تسمَّى في اللّغة المحلّيّة (السّنفور) تركنُ إلى جانبِ طريقِ المارّة..

تمرُّ مجموعةٌ من النّسوة ويتأمّلنَ أعمالَ الحفر، ويُشفِقن على هؤلاء العمّالِ، ومعاولُهم في جلبةٍ، والأتربةُ تتقاذفُ نحو الأعلى في حركةٍ لا تعرف الرّاحةَ، وتتناثرُ على جانبيّ المجرى، لكنّ امرأةً واحدة من هؤلاء النّسوةِ راحت تحدّقُ في (السّنفور) وقد تواثبتْ إلى ذهنِها أسئلةٌ كثيرة: أليس هذا السّنفورُ هو ذلك السّنفورَ الذي جاء صاحبُه ليقتُلني قبل بضعةِ أيّامٍ، وقد ولّى هارباً بعد أن لقّنتُه درساً في الصّمودِ والتّصدّي؟!
وتتأمّل المرأةُ عمّالَ البلديّة، وتقعُ عيناها على عاملٍ يشبهُ بملامحِه ذلك المجرمَ الذي جاء ليغتالَها كي يسرقَ المجوهراتِ من يديها.. وبعد أن استقرّ في يقينِها بأنّه هو ذلك المجرمُ بكلِّ تفاصيلِه الدّقيقة، همستْ إلى زميلاتِها همساتٍ عديدةً.. فمشت النّسوةُ، وثمّة سرٌّ يكتنفُ حركاتِ مشيتِهنَّ..

وما هي إلا لحظاتٌ حتّى حضرتْ دوريّةُ الشّرطة ومعها المرأةُ وبعضُ أقربائِها.. وانتشر رجالُ الشّرطةِ حول العمّال، وألقَوا القبضَ على ذلك المشتبهِ به.. وتعالتِ الأصواتُ واجتمع النّاسُ..

محقّقُ الشّرطة: هاتِ هويّتَك وبدونِ أيِّ سؤالٍ.

المجرمُ:لماذا يا سيّدي؟ أنا لم أفعلْ شيئاً.. أنا عاملٌ بسيط!

المحقّقُ للمرأة:انظري إليه جيّداً أيّتُها الحرّةُ الكريمة.. أهذا هو المجرمُ الذي قدَّمتِ بلاغاً عنه قبل أيّامٍ؟

المرأةُ:نعم يا سيّدي.. هو ذاتُه بكلِّ مواصفاتِه.

المحقّق للمجرم: تعالَ أيُّها المجرمُ (وقد كُبّلتْ يداه) لتمثّلَ لنا كيف استطعتَ الدّخولَ إلى منزل هذه المرأةِ الوحيدة..

المجرمُ (بعد أن نال نصيبَه من الجَلْد والضّغطِ النّفسيّ): راقبتُ هذا المنزلَ أيّاماً عديدةً، وأدركتُ أنّ المرأةَ وحيدةٌ، وعلمتُ أنّ زوجَها في الخليج، وتحيَّنتُ غيابَ أولادِها بذهابِهم إلى المدرسة.. وقد رأيتُ أساورَ الذّهب على ساعديْها.. فدفعني الشّيطانُ إلى المغامرةِ بالدّخول إلى منزلِها؛ كي أحقّقَ بعض أحلامي في امتلاكِ المال!

المحقّق:وكيف استطعتَ الدّخولَ والأبوابُ موصدةٌ، والجدرانُ عاليةٌ، وليس من ثغرةٍ تستطيع التّسلُّلَ منها؟

المجرمُ:أحضرتُ معي سلّماً ورحتُ أتفحّصُ مصابيحَ الكهرباءِ على أسوارِ البيتِ حتّى أُوهمَ المارّينَ بأنّني عاملُ كهرباءَ أقومُ بالصّيانة.. وعندما أيقنتُ بخلوِّ المكان من النّاس، تسلَّلتُ إلى المنزل عبر الدّرج، وحينما سمعتُ صوتَ حركةٍ في الدّاخل أيقنتُ أنّ المرأة لم تكن في قيلولةٍ!

المحقّق: ولماذا هاجمتَ المرأةَ بهذه العصا الحديديّةِ وانهلتَ بها على رأسِها؟

المجرمُ: خفتُ يا سيّدي من مقاومتِها أو صراخِها، فقلتُ في نفسي: ضربةٌ واحدةٌ أخمدُ بها حركاتِها وصوتَها، وأستلُّ جميع ما تتحلّى به من مجوهراتٍ!

المحقّقُ للمرأة:تفضّلي اروي لنا كيف استطعتِ الدّفاعَ عن نفسِك أيّتُها البطلةُ وأمامَك مجرمٌ خطيرٌ؟!

المرأةُ: حينما فوجئتُ بهذا المجرمِ أدركتُ فوراً أنّه سيقتلُني، وكنتُ أحملُ بيديّ هذا الوعاءَ الحديديَّ (القادوسَ).. انهالَ عليَّ المجرمُ بهذه القطعةِ الحديديّة التي في يدِه الآن، وكادتْ تُصيبُ رأسي، إلا أنّني ملتُ عن الضّربة بحركةٍ خاطفةٍ كالبرق.. وتقاذفتْ يدايَ كالبركانِ بالقادوسِ على رأسِه، فطارت العصا الحديديّةُ من يده، وصار رأسُه وكتفاهُ داخلَ القادوس، فشلَلْتُ حركتَه وأعميتُ بصرَه، وخرجتُ مسرعةً إلى خارج المنزلِ لأجمعَ النّاسَ عليه.. إلا أنّه خرج من خلفِ البيت، وامتطى درّاجتَه وولّى هارباً، لكنّني عرفتُ بعضَ ملامحِه وملامحِ درّاجته!وأيقنتُ أنّه غريبٌ من خارج القريةِ.

وها هي لحظةُ القدرِ ساقتْه إلى تمثيلِ جريمتِه بعد أن ألقيتُم القبضَ عليه.. وشكراً لكم يا سيّدي على سرعةِ استجابتِكم وحضوركم للقبضِ على هذا المجرمِ!
المحقق: هذا واجبُنا يا أختي.. (وملتفاً إلى المجرم): تبّاً لك أيُّها القذرُ.. هل ترضى أن يفعلَ أحدٌ ما فعلتَه بأمِّكَ أو أختِك من أجل حفنةٍ من الجواهرِ التّافهة؟

المجرمُ:لم يكنْ هدفي قتلَها، وإنّما قصدتُ إغماءَها حتّى أستطيعَ خلعَ مجوهراتِها!

المحقّق:وما الذي دفعكَ إلى هذه الجريمةِ النّكراء أيّها المجرمُ؟

المجرم: الحاجةُ يا سيّدي.. واللهِ أنا فقيرٌ!

المحقّق: وهل تدفعُك الحاجةُ إلى قتلِ النّاس لسرقتِهم بهذه الطّريقةِ البشِعة؟ وها أنتَ تشتغلُ مع عمّالِ البلديّة! ألا تكفيكَ أجرةُ عملِك، لتكفَّ عن البحثِ عن المالِ بالسّرقةِ والإجرامِ؟!

المجرم: نعم تكفيني يا سيّدي! لكنّ البيئةَ التي نشأتُ فيها علّمتْني أنّ سرقةَ الآخرين..

المحقّق: ماذا؟ تكلّمْ..

المجرم: لا أستطيعُ الإفصاحَ أكثرَ من ذلك يا سيّدي!

المحقّق: فهمتُك.. ها ها.. أنت من جماعةِ (بو علّوش).. الغايةُ تبرّرُ الوسيلةَ! ولكنّي سأدع هذا السّوطَ يبرّرُ جِلْدَك للجَلْدِ؛ حتّى تكون عِبرةً للمجرمينَ أمثالِك! وغداً ستكون في يدِ العدالةِ!

وتنتهي القصّةُ ويُختَتم المشهدُ.. ويُقاد المجرمُ إلى نهايتِه في السّجن.. لكنّ مشهدَ بطولةِ المرأةِ لم ينتهِ من ذاكرةِ النّاس، حتّى أصبحتْ مضربَ المثلِ في الشّجاعة ومقاومةِ المجرمينَ بالتّصدّي لهم بكلِّ بطولةٍ دون الاحتفاظِ بحقِّ الرّدّ.. فجاء الرّدُّ مباشرةً بالقادوسِ.. وملاحقةِ المجرمِ حتّى نال جزاءَه!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى