الاثنين ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
بقلم رندة زريق صباغ

رندة الكاميليا

إلى أمي في عيدها الثاني بعد السبعين

كنت أبحث عن كتاب أطالعه بين مئات في مكتبة أبي، وقعت عيني، يدي واختياري يومها على رواية (غادة الكاميليا) ترجمة الأديب والشاعر المصري مصطفى لطفي المنفلوطي والتي نشرها ضمن كتابه العبرات الذي صدر عام

كفتاة في الصف الثامن لفتني الاسم لأنه أحب الأسماء إلى قلبي (كميليا) إسم أحب البشر إلى قلبي (أمي)... تمنيت حينها لو أنهم أطلقوا على الرواية اسم

(رندة الكاميليا) فيتم الدمج بين اسمي وردتين أحدهما شرقي والثاني غربي، ويتم الدمج بين مسميين هما الأم والابنة اللتان تعبق كل منهن بعطر المحبة والدلال.

منذ تلك اللحظة اكتملت لدي الفكرة فأنا لست فقط رندة ابنة كاميليا وإنما أنا (رندة الكاميليا) بفخر الدنيا وكبريائها.

هكذا بدأ وعيي الأمومي يتبلور وهكذا بدأت أتعرف على أمي وسر رقة ورقي عظمتها فأنبهر بهذه الإنسانة كل يوم من جديد كإنبهاري بها كأم مذهلة كل لحظة من جديد.

ولدت أمي في العشرين من كانون الثاني 1950 -المعروفة بسنة الثلجة نظرًا لتساقط الثلوج بكميات كبيرة - بالمستشفى الإنجليزي بالناصرة، وقد اضطرت جدتي فايزة أن تحملها وتمشي حتى البيت في يافة الناصرة رغم البرد القارص، ليكون ذلك سببًا بإصابة الوالدة حديثا بالمجرينا التي رافقتها طيلة حياتها.

بين اسم جيهان أو كميليا وقع الاختيار على الاسم الثاني لاطلاقة على الطفلة الجميلة وهي المولودة الخامسة لجدي خليل وجدتي فايزة( ليلى، شوقي، نوال، سليم، كميليا) ثم(فرج، وجيه، ماهر، صائب وصخر).
كميليا كانت من أجمل الأطفال وأهدأ البنات وأكثر الفتيات رزانة وكبرياء، اهتمت جدتي بتعليمها ترتيب البيت، كي الملابس الذي يحتاج صبرًا وتركيزًا حظيت به كميليا كما حظيت بمهمة ترتيب وتنسيق تحف البوفيهات في الصالون وخزائن الملابس في الغرف، ومن هنا بدأ ولع كميليا بالفن يظهر كما ظهر حبها للتصميم وخياطة الملابس لتتحول هذه الموهبة لمهنة فتتربع كميليا زريق على العرش في الثمانينات والتسعينات فتكون أول مصممة أزياء عربية في البلاد للعرائس وفساتين السهرات الراقية.

كغيرها من أبناء وبنات جيلها قطعت كميليا مسافة طويلة من البيت إلى المدرسة ذهابًا وإيابًا على الأقدام وحدث أن رأت بأم عينيها حادثة دهس فظيعة جدًا لعجوز تقطع الشارع وكان ذلك من أقسى ما رأت في حياتها.
أنهت الصف الثامن بمعدل أهلّها لدخول الثانوية

ولم يوافق جدي على سفرها يوميًا للثانوية في الناصرة، وهكذا وبادراك جدتي الواعي لموهبة ابنتها، ادخلتها كلية فيتسو للفن والخياطة بدورة ستة أشهر مع المعلمة فتحية ورور التي شهدت ولادة خياطة مبدعة ومتميزة بعمر 14 عامًا.

تمت خطبة فضل وكميليا عام 1966 ليتزوجا في آب 1976 بعد شهرين من حرب الأيام الستة واعلان النكسة، لأولد أنا في 15 أيار 1968 فأكون تعويض والديَّ فضل وكميليا في ذكرى النكبة العشرين بالتمام والكمال وأضيف بقدومي للحياة مذاقًا حلوًا ساهم بتلوين حياة أب تيتّم طفلًا باستشهاد والده في مجزرة عيلبون، وأم لاقت أسرتها عناء التهجير من عيلبون مرتين اضافة لدفع ثمن غالٍ جراء انتمائهم للحزب الشيوعي ونشر مبادئه في المنطقة، وكانت جريمة احراق عمها سهيل في مخدعه في تشرين ثاني عام 1952 هو الذروة التي لم ولن تنساها عائلة زريق على مر الأجيال وكانت على ما يبدو ثمن السماح لعودة أهل عيلبون إليها بعد أشهر من التهجير.

انتقلت كميليا من المدينة عائدة إلى مسقط رأسها عيلبون، تلك القرية التي لا زالت تلعق جراح المجزرة والهجرة، جراح أعجوبة العودة إلى الديار المفرغة من كل ما حوته قبل الهجيج، كان أهل عيلبون في طور بناء أنفسهم بعد لملمة أشلاء أرواحهم المثقلة بالتعب والخوف.

تفاجأت كميليا بقرية لا شوارع معبدة فيها، لا ماء ولا كهرباء، الغسيل على الحطب، كي الملابس على مكوى الفحم ثقيل الوزن نسبة ليديها الصغيرتين، أصابها الذعر كلما اضطرت لنشل الماء من البئر ولم تجرؤ على الشكوى، من الصعب عليها خاصة وهي حامل نزول الطريق لاحضار الماء من عين عيلبون، لكن ما باليد حيلة، كما أنها غير معتادة وهي البنت المدللة على حمل الدلو أو شوال الزيتون كما تلك العصاة الطويلة نزولاً في الوعر لتصل أرض العائلة في (دير المغر) أو ( الكَرْم القبلي) بعد الانتهاء من طهي ما تيسّر كطبخة الزوادة لمن سبقوها لقطف الزيتون تحمل على رأسها شبكة الزوادة إضافة للشوادر وغيرها من أدوات وأغراض لم تتعامل معها في بيت أهلها.

بدأت تحمل صينية العجين بعد تحضيره مع جدتي سروة فتذهب بها لمخبز أبي عصام تنتظر مع نسوة من جيل والدتها حتى يأتي دورها في الخبيز، تعود أدراجها بحملها الثقيل محاولة أن لا تسقط بين الحجارة واتربة الطريق.

سكنت وأبي في بيت العائلة مع جدتي وكانت نعم الكنّة الطيبة الهادئة (لها تم يوكل مالها تم يحكي)، اعتبرت أعمامي كأخوتها تمامًا بكل ما تعنيه الكلمة من مسئوليات وواجبات وتعاملت مع حماتها كأمها بالضبط بل أكثر،
زوجها فضل النعيم (والدي العظيم) كان من أجمل شباب القرية وأكثرهم وسامة، عينان خضراوان أنارتا محياه البسّام، ثقافة عالية ملأت فكره المتّقد ذكاء وفطنة، مرتب وأنيق، أستاذ مدرسة مميز بحضوره وكمّ معلوماته وأسلوبه المميّز في الشرح والأهم مقدرته على قراءة شخصيّة تلاميذه من اللحظة الأولى، يمزج بين الجد والعلم من جهة وبين المزاح والروح المرحة من جهة، أستاذ التاريخ، الجغرافية واللغة العربية الفذ. لقّب بالموسوعة لاتساع مداركه، غزارة معلوماته وكثرة المامه بشتى المجالات، قصده الكثيرون للاستماع والتعلم منه، أضف الى أنه تذكر تفاصيل التفاصيل لكل ما جرى في رحلة عذاب التهجير والعودة رغم أنه كان طفلاً في الثامنة من عمره.

كانت كميليا فخورة بزوجها الذي غبطتها وربما حسدتها عليه الكثيرات لما تمتع به من صفات حميدة تضاف لوسامته اللافتة، كما حسد الكثيرون فضل على زوجته الجميلة، المهذبة، المعدّلة، الفنانة الذكية...
فضل وكميليا ثنائي مذهل أنجبا بنتين وولدين ورثوا منهما وعنهما أجمل الصفات وأرقاها.

فضل الأوسط بين خمسة أخوة كتبت لهم الحياة، فقد ثكلت جدتي سروة وجدي نعيم أربعة أبناء وأربع بنات.
تعاون الأخوة لمساعدة بعضهم بعضاً لعبور الحياة بكرامة وهم أبناء الشهيد نعيم، كان ضيق الحال واليد القصيرة مسيطرًا على وضع الاسرة وكانت عين كميليا بصيرة وقلبها نابض بالمحبة وفكرها متقد بالفن والابداع، طبعًا هي صاحبة يدين من ذهب استخدمتهما لمساندة زوجها الذي يساعد أخويه الأصغرين كما ساعده أخواه الأكبران الياس ونمر- ليكملا تعليمهما ولا حيلة له سوى راتبه الذي يستخدمه لهذه الغاية بين نديم في البلاد ورياض في الغربة يدرس الطب في براغ بمنحة من الحزب الشيوعي.

وهكذا أبدعت كميليا بخياطة كل ثيابها وثياب أولادها بماكنة خياطة هدية من أمها، نجحت بتحويل كل قمصان زوجها وسراويله إلى ملابس أبهرت كل من رآها- لبدلات أعياد لولديها سراج وفراس، أما ملابسها فقد تحولت لفساتين لابنتيها رندة ووشاح، أما ملابس اختها ليلى التي تكبرها بتسع سنوات وتسكن في الناصرة فقد تحولّت لأطقم وفساتين غاية في الاناقة والجمال لكميليا التي أضافت جمالًا على القطعة لما تمتعت به م نعمة الجمال والرقي.

هكذا اعتدت أنا رندة بمراحل عمري كلها على ارتداء اجمل الملابس وعلى الموضة نالت اعجاب صديقاتي وأمهاتهن. وقد كان فستان حفلة خطوبتي ومن ثم فساتين عرسي انطلاقة لأمي كميليا للعالم الواسع في تصميم الأزياء محلياً ودولياً حيث فازت تصميماتها لاحقًا بالمراتب الاولى.

زواجي المبكر نسبياً وخروجي من عيلبون لم يقطع حبل سرتي المعنوي مع أمي وبقيت رندة الكميليا ولا أزال، فإن ظروفًا مادية صعبة ألمت بزوجي وبي لينعكس ذلك طبعاًً على أهلي وتحديداً أمي التي باتت عرّابتي اضافة لكونها أمي وصديقتي، وبقيت رندة تتدفأ في ظلال الكميليا التي فتحت ذراعيها وحضنها لحفيداتها كما فعل الفضل ففتح قلبه، بيته وكل ما يملك.

رزقت كميليا بثلاث حفيدات من ابنتها رندة وأضحت لهن الجدة الأم العظيمة لتتفيّأن بظل الكميليا ويتزيّنّ بزهورها البيضاء حيناً والحمراء حيناً آخر ولتستمر الجدة بتصميم ابداعاتها لحفيداتها كما لبناتها وطبعا لزبائنها من العرائس فتدخل التاريخ من أجمل أبوابه كأول مصممة أزياء في البلاد وكفنانة مبدعة حولت بيتها وبيت الفضل الى معرض مذهل يحوي أكثر من 300 تحفة فنية من تصميمها وتنفيذها استخدمت في معظمها بقايا أقمشة الهوت كوتور التي صممت وخاطت منها أرقى الثياب على مدى أربعين عاماً من الفن والإبداع،
كميليا اليوم في الثانية والسبعين ربيعاً من العمر وهي بكامل ابداعها، أناقتها ورقيّها ولا زال ابداعها مستمراً... ولا زالت رندة مستمرة في توثيق، تصوير وتشجيع أمها كما دوماً.

وهكذا تستمر علاقة كميليا برندة لتتَّحِدا دوماً على شكل وردتين مزهرتين بالاسم وبصورة وئام، ولاء ورجاء ليبقى سراج البيت حافظاً العهد والفضل ولتبقى حكاية "رندة الكاميليا" من أجمل الحكايا.

أمي وأنا… قصة حب لا تنتهي
أمي وأنا… صداقة لا مثيل لها
أمي وأنا… روح واحدة في جسدين
أمي وأنا… السمن والعسل، الجسد والظل
أمي وأنا…. ومَن كأمي أنا؟
كل عام وأنت الخير يا أمي يا أغلى من روحي

دمت لؤلؤة التاج وسنديانة الدار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى