الأحد ٦ شباط (فبراير) ٢٠٢٢
بقلم محمد سمير عبد السلام

رواية سيرة وحيدة لقرية صغيرة لبيتر ماهر الصغيران

نحو تأويل ثقافي إبداعي لحياة القرية وشخصياتها الفنية في رواية سيرة وحيدة لقرية صغيرة لبيتر ماهر الصغيران

سيرة وحيدة لقرية صغيرة رواية للكاتب المصري المبدع بيتر ماهر الصغيران؛ صدرت عن دار بتانة للنشر بالقاهرة 2022؛ ويمتزج السرد التاريخي الواقعي فيها بالتجريب؛ فالسارد لا يؤسس فقط لسيرة القرية وشخصياتها الفريدة منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين تقريبا؛ ولكنه يكشف عن دينامية التحولات الثقافية، والتقنية في بنية المكان؛ إذ يومئ السارد إلى أخيلة اليقظة، وانبعاث بعض نماذج اللاوعي الجمعي، وشخصيات الحكايات القديمة والأساطير، والتجليات الرمزية – الشخصية للموت، والزمن وقوة الإبداع الحكائي الشفاهي، وتمثيلاتها في شخصيتي طوبار، وحليم مثلا، ودور فعل الحكواتي المضاف للشخصية الفنية في التأسيس للمسرح بمفهومه الحديث أو لتطور فعل قراءة الروايات، ثم صناعة الفيلم الوثائقي؛ ومن ثم فالسرد يحتفي بالتعددية الجمالية – الثقافية في بنية المشهد التاريخي الذي ينطوي على نوستالجيا التناغم الإبداعي للمكان، وشخصياته، وأدبه الشفاهي الفاعل في الوعي، واللاوعي في الماضي، ثم الانتقال إلى الحداثة التي تتصل بذلك الماضي عبر تداخل أفعال القراءة، والمشاهدة، والكتابة مع النماذج، والحكايات القديمة الأصيلة المستعادة في سياق ثقافي اجتماعي متحول، ومتجدد؛ وقد مزج سارد بيتر ماهر بين سرد الراوي الذي يعلم تاريخ القرية وشخصياتها، واستبطان العوالم الداخلية أحيانا لبعض الشخصيات عبر التبئير الداخلي وفق تعبير جينيت؛ لهذا فالرواية تتقاطع مع تاريخ تناول شخصية الفنان / ستيفن عند جويس في صورة الفنان في شبابه مثلا، أو التحول الدينامي الإبداعي للفضاء بصورة تجريبية ذكرتني ببعض أعمال البساطي؛ وهو ما يؤكد تضمن الخطاب لثيمة اتصال الإبداع بتحولات التاريخ والثقافة.

اختار سارد بيتر ماهر – إذا – أن يروي سيرة القرية من خلال طرائق اكتشاف الشخصيات للعالم في سياق محدد تاريخيا؛ ولكنه دينامي أيضا، ويوحي – في تضمينات الخطاب – بالحضور المتكرر لأصالة الجمالي، والخيالي في مسيرة التاريخ، والتحول باتجاه الحداثة، وما بعدها؛ ومن ثم فالإحالة إلى علاقات القوى، وأنظمة تفسير الذات في الفترة الزمنية المتضمنة في الرواية، تتصل أيضا بزمن الحكي، وموقف التواصل بين الراوي، والمروي عليه؛ فاستعادة الماضي تومئ إلى ذلك التجدد في العلاقة بين الوسائط الجمالية، وأطياف المكان، والتحولات الفنية، والثقافية المعاصرة التي تعيد إنتاج أصالة الماضي عبر سياقات أخرى، ووسائط مختلفة، ووقائع، وأنظمة مغايرة في تأويل بنية الحضور.

ويمكننا قراءة رواية سيرة وحيدة لقرية صغيرة لبيتر ماهر من داخل بعض الآليات التداولية في تحليل الخطاب؛ مثل دلالات سياق التواصل، وأفعال الكلام، وتنوع الوسائط، والحجاج، والتضمينات؛ للكشف عن أصالة أصداء الأصوات القديمة، ونماذج الحكايات، وشخصيات الأدب، والواقع في بنيتي الحدث التاريخي، ولحظة الحضور التي يهتم فيها الراوي بتوثيق سيرة القرية تاريخيا، وثقافيا، وروحيا عبر تجدد الوسائط التكنولوجية، والخيال الإبداعي الذي يعزز من الصيرورة السردية للشخصيات، والحكايات في السياقات الاجتماعية، والزمنية المتعددة.

ينسج السارد خطابه، ويتواصل مع المروي عليه في سياق ثقافي تتجدد فيه بالفعل استعادة الشخصيات الفنية القديمة، وتتعدد تأويلاتها بتعدد طرائق الإدراك، ومواقف التواصل، أو لحظات الحكي عبر وساط سردية، ورقمية افتراضية متنوعة؛ ومن ثم فاستعادة أصالة الإبداع في الرموز، والأخيلة، والنقوش، والحكايات، وتقدمها نحو التسجيلات، والفيلم، والكتاب، يوحي بالتوافقية بين الراوي، والمروي عليه في التأكيد على أهمية الخيال الإبداعي في تفسير الشخصيات، والمراحل الحضارية، واستمرارية توسع أصداء الماضي جماليا عبر وسائط أخرى، أو من داخل أطياف شخصيات روائية أخرى أيضا؛ ومن ثم لا ينفصل السياق الثقافي الاجتماعي لعائلة حليم في قرية (ه. ي) عن سياق التواصل بين الراوي، والمروي عليه رغم الاختلاف الزمني، واختلاف الرؤى الفكرية، وعلاقات القوة؛ فثمة نوع من التداخل يكمن في فعل التمثيل، أو إعادة الإنتاج لنماذج الفن، وشخصياته سرديا، وتصويريا؛ وكأن الذات تعيد تشكيل البهجة الإبداعية الأولى في الطفولة بصور تفسيرية – تمثيلية رغم تكرار المآسي التاريخية، وأحداث الموت، والجرائم الغامضة، وسوء الفهم بين الذات، والآخر أحيانا؛ فحلم الطيران، ونغماته داخل حليم قد انتقل من حكايات طوبار إلى فعل التحويل الجمالي للحكاية على المسرح المصغر، وأسهم في تحوير المنظور الإدراكي للذات، والآخر؛ فحليم يرى نفسه – في لحظة إبداعية كشهريار في تناقضاته بين الهيمنة، وفعل التلذذ بالحكاية، بينما يبدو الجد مثل طيف جمالي لأبي زيد الهلالي، أما رزيقة فتعيد تكوين طيف شهرزاد، بينما يبدو مارك مثل سانتا كلوز آخر، أو يريد أن يحقق نوعا من التكرار التمثيلي لنموذ سانتا كلوز في سياق ثقافي وإدراكي مختلف؛ وهو ما يؤسس لحجة استدلالية سردية يقدمها السارد للمروي عليه تتضمن احتمالية إقامة هذه الارتباطات التأويلية – الجمالية في بنية الحضور الراهنة في لحظة الحكي، أو في لحظة استقبال الحكاية؛ ومن ثم يقوم كل من السارد، والمروي عليه بالتعديل المستمر للخبرات الإدراكية، والتمثيلية بصورة دينامية تؤكد ما ذهب إليه كل من دان سبيربر، وويلسون في نظرية الصلة، والقدرة على إنتاجية السياق وفق أنظمة التفسير، والخبرات السابقة، والتي ستكون أكثر ثراء حين تضاف إليها هذه الارتباطات الجمالية بين شخصيات في سياق النص الواقعي التاريخي، ونماذج، وشخصيات مثل أوزوريس، وأفروديت، وسانتا كلوز، وأبي زيد الهلالي، وشهرزاد، وغيرها.

الحجة الاستدلالية الرئيسية في السرد – إذا – تقوم على إثبات فرضية لذة الاستماع لفعل الحكي، أو الأداء التمثيلي رغم التحولات التاريخية الصاخبة أحيانا، وينتج عنها التوسع في فعلي التحويل السيميائي، أو التوثيق لعلامات، ورموز الحكايات؛ ثم ينشئ المروي عليه حجة توسيع مثل هذه التحولات عبر علاقات تأويلية جديدة بين شخصيات الأدب، والفن، وإدراك الذات، والآخر في الموقف اليومي / النسبي، وعبر وسائط تكنولوجية مختلفة، وتالية للفيلم، والكتاب، واسطوانات التسجيل قد تكون في الكمبيوتر، والعوالم الافتراضية.

وإذا تأملنا بعض أفعال الكلام في خطاب سارد بيتر ماهر، أو حين ينتقل من الرؤية الأوسع إلى التبئير الداخلي، والكشف عن عالم حليم الداخلي، سنعاين ارتفاع درجة التمثيلات حين يخبر السارد عن قدرة حليم على أداء الأدوار المتعددة، ورغبته في دور شهريار بما يحمله من تناقض بين السلطة، ولذة الاستماع للحكاية، بينما نعاين فئة التوجيهات حين يتساءل - وفق صوت حليم – حول من يصلح غير مرزقة لأداء دور شهرزاد؛ وهو ما يؤكد تجدد طيف شهرزاد، وصوتها الحكائي في تكوين مرزقة، وحضورها الجمالي الآخر المضاعف في صيرورة السرد، بينما نلاحظ فئة التعبيريات الذاتية في انحياز حليم لصورة شهريار في زمن آخر، وأخيلة مغايرة، وانحيازه، أو حبه للجد كبطل، ولمرزقة كشهرزاد أخرى قادرة على التجدد في بنية القرية، ومسرحها الصغير، ويبدو حب حليم لهذا المسرح محفزا لدلالاته كمرجع مكاني دينامي يعيد قراءة بنية القرية نفسها، ويصلح لقراءة المسرح الواقعي، أو المتخيل في لحظة تلقي الحكاية.

ويوحي السارد أيضا في - بنية الخطاب – بدلالة المضمر الذي يتصل بتفكيك التعارض بين الذات، والآخر عبر استمرارية الأصالة الإبداعية، وإنتاجية العلامات، والشخصيات بين الحضارات المختلفة، أو في الاتجاه إلى الوسائط الحديثة، كما تنفك تعارضات الذات، والآخر عبر قدرة البطل على قراءة صديقه أنيس بصورة إبداعية تمثيلية حتى بعد أن انتمى لأهل الجبل؛ ونعاين – في هذا السياق – جماليات أحلام أنيس قبيل وفاته، حين تجلت أمامه رؤوس تحمل عينا واحدة في الفضاء؛ ومن ثم فهي تبدو مثل إعادة تحويل سيميائي لشخصية السيكلوب في الأوديسا في سياق جمالي مختلف، ويؤكد نزوع شخصية أنيس إلى العودة إلى عالم الحكايات في وعي، ولا وعي حليم، واستمرارية حالة التداخل بين اليومي، والجمالي المتضمنة في الخطاب السردي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى