الخميس ١٥ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم إياد الرجوب

ستون نكبة

يخطئ من يظن للحظة أننا نحيي هذا العام ذكرى مرور ستين عاما على نكبة وحيدة، يخطئ من يظن أننا نحيي في كل عام ذكرى مرور عدد من الأعوام على نكبة واحدة إضافة إلى عام جديد، فنحن نعيش نكبة جديدة ومتجددة كل عام، مغايرة لما سبقتها..

نكبة تهجير..

نكبة ذبح..

نكبة تطهير عرقي..

نكبة تكسير عظام..

نكبة مجازر..

نكبة اغتيالات..

نكبة اعتقالات..

نكبة إذلال..

نكبة قصف..

نكبة تدمير منازل..

نكبة إبعاد..

نكبة حصار..

نكبة إفقار..

نكبة عطش..

نكبة ظلام..

نكبة احتلال لكل شيء، حتى لدقات القلب النابض بإيمان الشعوب بحقها في تقرير مصيرها.. إلى ذلك من مضافاتٍ إلى النكبة الأم متفرعةٍ عن جريمة كبرى اسمها الاغتصاب.

منذ ستين سنة، ونحن نروي ترابنا بالدم، نعبّد سبيلنا بالأرواح، نشمخ في عين الشمس بقوة العزيمة وصلابة الإرادة.
منذ ستين سنة، ونحن ننزف دما.. ودمعا.. وألما.. وثكلا.. وحرمانا أبويًّا.. وفراقا أخويًّا.. ونوما في العراء.

في كل عام نكبة جديدة تحاصر نفسًا تائقة إلى الشعور بكينونتها، في بيتها الذي وُلِدت فيه ولمّا ينتهي تَوْقُها إليه بعد، فهل سيعيدها خضيض المفاوضات إلى مسقط رأسها في الساحل؟ إنه خضيض مائي لا ينتهي بشيء، بل هو خضيض لا ينتهي، فيه وعودات لا تُنفّذ ولا تنتهي، ولقاءات لا تنتهي، ومطالب عدوانية استفزازية لا تنتهي، وتصريحات لا تنتهي.. وبالتأكيد أيضا بيننا هنا وبيننا هناك أمل لا ينتهي.

نكبة تلو نكبة تلو نكبة.. ونحن هنا باقون في الأرض وعليها.. لا اندحار ولا اندثار، مزروعون فيها كالشجر.. ملتصقون بها كالحجر.. نخط عليها الواقع الأحمر فيصير سِفْرا مشرّفا في تاريخٍ تسودّ منه وجوه العبيد.. عبيد يأبون التضحية بأحيازهم التي وُهبت لهم بعد مؤامرة السطو العلني.

ستون نكبة، اكتسبت خلالها "فلسطيني" خصائص جديدة في معاجم القهر، وأضحت تعني الحرمان من كل شيء، من النور والأكسجين والماء والغذاء.. ومن الحياة، فلنا هنا أطفال يُقتلون في بيوتهم وشوارعهم ومدارسهم، ولنا هناك في الشتات أطفال يولدون في بيوت ليست لهم، ويلعبون في شوارع ليست لهم، ويدرسون في مدارس ليست لهم، ويكبرون في أماكن ليست لهم، إنهم يعيشون في بيئة غير بيئتهم، وزمان غير زمانهم، أصلهم هنا وفرعهم هنا، على شاطئ البحر يجب أن يولدوا ويلعبوا ويتعلموا ويكبروا ويتزوجوا.. قرب البحر لا في الصحراء، في الوطن لا في الشتات، يتعلمون السباحة لا التسول لتحصيل كسيرة يابسة، في البيت الأصلي يتعطرون بنسيم البحر ولا يلفحهم لهيب البؤس، يستظلون بشاهقات حيفا والكرمل، لا بألواح الزينكو الصدئة، يأكلون السمك لا الجراد، يشربون الماء وليس الدم، فمن قدم لأبنائنا الدم ليشربوه؟ ألا تبا لذلك النادل المجرم في مقهى الجوع والعطش والتشرد والحرمان.

أبناؤنا عندما كانوا في بيئتهم لم يكونوا يعرفون سوى الماء والسمك والزهور، فمن أين عرفوا الدم والجثث والأسلاك الشائكة؟
ستون نكبة غيرت كل شيء، ستون نكبة امتزجت فيها أفراحنا بالألم، ستون نكبة اختلط فيها العرس بالمأتم، والعيد بالعزاء، ففي القدس يحتفلون بعرس بطولتهم في ذبحنا، وحول القدس نحيي مأتمنا الدائم، عزاءنا المفتوح منذ ستين عاما بستين نكبة:

فالعرس يخلخل مملكتي

والوحش يساير قافلتي

من قبل المولد يرقبها

والعرس تلوّن عمّا كان

***

أشتمّ العرس فيَزْكُمُني

فدخان العرس به لون

ممزوج من كلّ الألوان

***

يا عرسُ تعلّم تقوانا

قد كنت قديما تجمعنا

وبك الأيتام قد ابتهجوا

والجوع تلاشى في يومك

والآن دخانك يعمينا

ما عدتَ تحقّق أحلاما

ما عدتَ تحارب أحزانا

ما عدتَ تقرّب وجدانا

ما عدتَ توصّل أرحاما

ما عدتَ تطهّر أتربة

والعودةُ أضحت تخريفا

والخيمة ظلّت منزرعة

والجدّ استُبعد في المنفى

وقلوب الحشد غدت صنو الصّوّان

***

يا عرس دخانك شتّتنا

فغدونا نبكي وحدتنا

والشّارع يشكو ظلمته

والسّوق تموت بها الفئران

***

يا عرس لماذا تلفحنا؟

ألتحرقنا...؟

أوبعد حريق القلب حريق؟

أوبعد جفاف الجوف جفاف؟

فالجوف جفاه الوصل الحرّ..

والوصل استشهد في العدوان

***

يا عرس لماذا تلهينا؟

ألتنسينا...؟

أوتنسى الأمّ بهذا اليوم وليد الأمس؟

أوتنسى الشّمس حرارتها؟

أوينسى المعدم نبتته؟

أوتُنسى الأرضُ الأمّ الزّوج البنت الأخت بيوم العيد؟

فلماذا تلهبنا يا عيد؟

ألتُشعل ذاكرة الأحفاد؟

هل خلت تناسيها؟

أوتخفت نار الزّيت بترب الأرض؟

أوتهدأ عاصفة بخريف بوادينا؟

فلماذا تحرقنا يا عيد

والذّاكرة الحبلى ما زالت ملتهبة؟

***

يا عرس هواؤك حيّرنا

حتّى الإبل احتارت

وأناخت حملا في بطن الوادي

وجثت تترقّب سلطانا

أمضى أيّاما في المعبد

صلّى الفرض اللّيليّ وغاب

***

واعتاد المعبد زائره

والزّائر يحرس إيناسا

لا إنس به غير السّلطان

والزّائر سلطان السّلطان

***

..وتوجّعنا من دون صراخ

فالموت يعربد في المعبد

والماء تفحّم في المغطس

والسّور تداعى مستاء

والمعبد خارت أركانه

والوحش تناثر في السّاحة

والمملكة اندفعت نحو المدفن

كي تحمي روح مدينتنا

والرّوح تطير بلا استئذان

***

وتأخّر موعد قافلتي

والوادي ملّ القافلة العطشى

والجند ارتحلوا للوادي

والوادي أطبق معتذرا

ليسلّم عهدة حارسنا

والحارس يهزل في المنفى

والمنفى باتت تقرضه الجرذان

***

يا عرس زمانك زلزلنا

يا عرس تفكّر في المقدم

يا عرس ترفّق هذا العام

فالحارس مات به المنفى

والعدل اشتاق لمؤنسه

والشّمس تجلّت في المدفن

تمتصّ بقايا الحقّ من الأكفان


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى