الجمعة ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم مي محمد أسامة

سرديّات عجلة!

أين كنتُ قبل أن أكونَ معه، لا أعرفْ.المكانُ الذي أتيتُ مِنه، في ذاكرتي، مشوبٌ بكثيرٍ من البُعدِ و الغموض؛ مكانٌ مظلمٌ فسيحٌ و مزدحم. بإمكاني القولُ بأنّ حياتي بدأتْ معه، وأنني أحبّه كثيراً ، فقد ألفْتُه حدّ الحبّ.

كلّ صباحٍ بعدَ الفجر يوقظني بحنانٍ كي أرافقه إلى العمل، لم أتذمّر يوماً. أشعرُ حين تلمسني راحتاهُ السمراوينِ المعروقتين، بدفءٍ مباغتٍ أعشقهُ كذِكرى. بكلّ هدوءٍ و أناة، نسيرُ عِبر الشوارع التي بدأتِ للتوِ الحياةّ تدبّ في شرايينها بعدَ الوسن.

مضى زمنٌ على هذه الرتابة حيث بتّ أفقه جيّداً أين أقف، لانتظره، في ظلّ شجرةٍ خضراء ضخمةٍ قُربَ السور، في الحديقة العامّة؛ بجانبِ مقعدٍ خشبيّ مطليّ بالأزرقِ الداكنِ الذي بهتَ إثرَ تقادُمِ السنوات، و إهماله المتكرّر.أتثاءبُ يوميّاً من مللِ الساعاتِ الصباحيّةِ الأولى، قد أغرقُ في نومٍ مفاجئ ، تُخرجني منهُ دندنةُ عاملِ النظافةِ النَعِس هو الآخر.الشمسُ قليلاً ما تحسّس نورها عليّ، لكن دفئها يغمرني دائماً.سويعاتٌ قليلة و تجري الحياة أمامي لأراقبها بصمتٍ و أحفظ حكاياتها،قد أسردها يوماً لرفاقي أو زملائي..

اليوم، قبلَ أن تستعمرَ الشمسُ كَبِدَ السماءِ بكثير، شاهدتُ شابّاً وسيماً، أسمرَ اللونِ أدعجَ العينين ساحرهما. لحيتهُ الخفيفةُ المرسومةُ بعناية تشي بحداثةِ سنّه، ثيابهُ الغالية تحدّثك وحدها عن حاله..وقفَ إلى جانبي دونَ أن يُعير أدنى انتباهٍ لوجودي الرثّ، متلفّتاً بقلق يشوبُ أثره عينيه الجميلتين الواسعتين.تصرّفتُ بسكوني المعتاد دونَ نحنحةٍ أو حركة، بتّ أرقبهُ بصمتٍ حَذِر..بعد زمنٍ ليس بالقصير..ارتجفَ بدنهُ فجأة ، فألقى مظروفاً أبيضَ على المقعدِ بجانبي و أطلق لساقيهِ الريحُ باتّجاه قلبِ الحديقة..ما هي إلّا ثوانٍ معدودة ، لأفطِنَ سبب ارتجافه.. شقراءٌ في غاية الجمال، هيفاءٌ ممشوقة القامة نحيلتها.عينان نجلاوان ملائكيّتانٍ تطفو على ألقهما الطيبة والرقّة.جلست على المقعد الخشبيّ جائلة بناظريها في المكان، وقع بصرها عليّ فأدارت وجهها المسطورِ باللّهفة. تعثّرت يداها القلقتان بالظرف المتروك على ذات المقعد. بارتعاشةٍ ما فهمت مصدرها، فتحت الظرفِ و استغرَقت فيه.تشاغلت عنها بتأمّل ما حولي، ليشدّني من تأمّلي صوت نشيجها المكلوم، ناظرتُها بأسى و صوت النحيب يتعالى، و أفواج الدمع الملائكيّ تخون مقلتيها دون محاولةٍ منها لإيقافها.كِدت أشاركها البكاء..شعور بالحقد فجأة، غمرني، حقدت على ذلك الشابّ، رغم جماله،لأنّه من أهدى الأسى بمغلّف أبيض لهذه الغادة الرقيقة الصغيرة..بأناملٍ حريريّة رفيعة دقيقة، أزاحت خُصل الشعر المستلقي بطمأنينة على وجهها ، مُمرّرة إيّاهم في الوقت نفسه، لتجفيف الدمعِ..لماذا يا ربّي يحصل كلّ هذا، فوق طاقتي يا ربّ فوق طاقتي..

من خلالِ نشيجها انبثق الألم متحدّثاً..

لا أستطيع الذهاب معه، يا ربّ لا أستطيع ..أمّي تعتمد على راتبي، و أبي رجل عجوز لا نفعَ يرجى وراءه.متيّمة به أنا حدّ الوله، لكنّني لا أستطيع يا ربّ لا أستطيع..أهذه هي النهاية إذن؟ أهكذا يقضي العشق نحبه دون عزاء مرجوّ وتضيع أيّام الهوى بلا ثمن؟كيف أدع من لا معين له بعد الله سواي لأشتري أنانيّتي؟

صعبٌ مرير هو الاختيار ، له منفذ واحد مُغلق.. لا أستطيع..

بعينيها الطافحة بالعجز استشرفت السماء..انكسارٌ أثقل هيئتها..دسّت الظرف في حقيبتها، غادرت دون أن تنظر وراءها.

ربّما أكون عاطفيّة مُبالِغة..لكنّ بؤس هذه الفتاة ما برح يؤلمني بشدّة..كِدت ألحقها لأحتضنها و أخفّف عنها..كنت سأخبرها أنّ الله مع الحزانى الصابرين، وأنّ عمرها الغضّ سيُشرق يوماً بالسعادةِ القصوى..وأنّ ذلك الشابّ لا بدّ سيندم..لكنّها غابت عن عيني و أنا أفكّر بهذا..عافاها الله وأعطاها.

لبثتُ زمناً بعد رحيلها مغرقة بالأفكار و المشاعر المتناقضة قبل أن أسلو و أتابع التأمّل..

ما هي إلّا هنيهة صغيرة، حتّى أقبلَ أبو سعيد.هذا الرجل الذي يتّخذ من هذا المكان مهرباً من زوجته سليطة اللسان.. لا ألومها حقّاً، فهو رجل بادنٌ عظيم "الكرش" كريه المنظر، أحمر الوجه كثّ الحاجبين، يبدو أنّه متقاعدٌ عصبيّ المزاج حادّ الطبع.

يجلس على هذا المقعد كلّ يوم و جريدته في يده..يقلّبها دون اهتمام؛ في بعض الأحيان يتوقّف ليقرأ شيئا ثمّ يشتم و يُتبع شتيمته ببصقةٍ على الأرض..

غالباً ما يرنّ هاتفه، و نادراً ما يجيب. إلّا أنّه حين يجيب، يتحدّث بصراخٍ و يقذف ذراعيه كأنّه في خضمّ معركة طاحنة فاصِلة..

و دوماً ما ينهي حديثه قائلاٌ:

روحي، الله ينتقم منّكِ يا متوحشّة..و يُرفِقُ النهاية بهزّ قدمه متوتّراً مع بعض الشتائم غيابيّاً.يبصقُ لمرّة أخيرة و يغادر..

أدعو الله في سرّي أن لا أراه في الغد..عسى الله أن يجيب دعائي..غداً.

من أثرِ الإجهاد في الوقوف، والاستيقاظِ المبكّر..أغطّ في فواصل نومٍ كلّ بضعةِ ساعاتٍ دون عمدْ.

حين أفقتُ هذه المرّة، وجدتُ سيّدتانِ بثيابٍ رثّة تتجرعان مشروباً مثلّجاً في ظلِّ الشجرة..بجانبٍ كلّ منهما مجموعة من الحقائبِ و أكياس التسوّق.لم تنطق أحدهنّ بحرف..حتّى نفذَت العبوتان ..فحملت كلّ منهما ما جاءت به و رحلتا.

ثوانٍ معدودة و أتى طفلان يحملان كيساً ..يبدو على محيّاهما الريبة من وجودي ، فرشقاني بنظراتٍ مشكّكة،لم يطل وقتها.أدارا وجهيهما و جلسا على المقعد الأزرق..أخرج كلّ واحد منهما شطيرةٍ و بدأ يتلذّذ بقضمها..أخذَ أحدهما، الأكبر سنّاً كما يبدو، بين اللقمة و الأخرى،يداعب أصغرهما بإلقاء بعض النكات و الضحك أيضاً.وددتُ لو أنّ بإمكاني الاقتراب منهما فأنا أعشق الأطفال، لكنّ نظراتهم الأولى الباردة أرجعتني إلى الوراء، لأدعهما و شأنهما..أنهى الطفلانُ الشطائر..قفزا عن المقعد بسرعة، ردّد الأصغر: أسرع يا عليّ، سيرحلون من دوننا.و أخذا بالجري...ظريفان هما..و ممتع هو هذا النهار..

حثّت الشمس خطاها، و اصفرَ بشحوبٍ وجهها، و الملل بدأ بتواثبه ليلبسني،حين لمحته قادماً من بعيد.

عرفته من مشيته الغريبة و سرواله الذي يكاد يقع على الأرض، بضآلة حجمه و شعره المصبوغ بعناية، و معاني وجهه التي لا تُنبي إلّا عن سوء..هو "مدمنٌ" لهذا المكان منذ جئت إلِيه أو ربّما من قبلي.

من معه هذه المرّة؟

سعاد..؟

ليلى..؟ أو ربّما ناديا..؟

حين اقتربا تحقّقتُ منها، لم تكن واحدة من الخمسة أو العشرة اللواتي عرفتهنّ في زمني!

كانت "جديدة" .

سمينة مكتظّة كاللواتي سبقنها يكاد سروالها يستغيث من اكتنازها، إضافة إلى كونها قصيرة ، "مُستشقرة" كما يبدو من حاجبيها، ضيّقةُ العينين سمجةُ النظرات.
رديءٌ هو و ذوقه معه.

أجلسها بكلّ رومانسيةّ مدّعاة على المقعد ، جلس قربها، وأخذ بالهمس و هي بالضحك المصطنع مبديةً رِقّة صوت و سعادةُ نفسٍ لا تشبهها أبداً..وددتُ لو أنّ باستطاعتي دفعهما ليسقطا أرضاً أو رشّهما في الوجه بالعصير الذي يحملان..تأفّفت بصبرٍ عسى ينتهي هذا الإزعاج الذي سوّد نهاري الذي كان جميلاً.

بعد انتهاء اللمس و الغمز وبقيّة التمثيليّة التي سئمتها مع هذا "الدون جوان"، تنهّدا،و جلسا يتأمّلان ما حولهما متشابكي الأيدي ، و لإتمام مشهد الغرام هذا ،أخذ الجوّال يصدح دون إدراك :

حلوة الدنيي حلوة سوا
قلبي و قلبك فوق الهوا
داب الماضي..راح انطوى
و الزمن دواّر
الزمن دوّار..
حقّاً ..زمن..لا يدور إلا لصالحِ الحمقى..

قطعَ المشهد، لحسن حظّي، اقتراب صاحبي، و نظراته الفاحصة على "روميو و جولييت".

مدّ يده كي يسحبني من جانب السور ، فاهتزّ المذكور بصفاقة، و اغتصب شبه ابتسامة:

درّاجتك عافاك الله؟

نعم، ربّنا يسعدك..

و ابتعدنـا سويّـة، من حيث أتينا، بانتظار يوم آخر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى