الأربعاء ١٤ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم عمار بولحبال

سفينـــة الضيــــاع

الآن ترسو السفينة في آخر ميناء . وعلى الرصيف المقابل يقابلني وجه أمي الشاحب ولسانها يترجاني بالبقاء , بدموع منهمرة تعلقت بثيابي بكت .. توسلت ولكنني اتخذت قراري ... في هذا الميناء الأخير أتذكر طفولتي التعيسة وذلك النادي الذي كثيرا ما انبعثت منه ألحان الأمل المعلق باخضرار القرية المنسية ...

صورة معلمي تطفو وعبارته الرنانة تشق أذني وهو يردد دائما :

 يجب أن تذهب إلى المدينة .. وأجيبه ببراءة الأطفال :

 سيدي .. لماذا المدينة وهذا كوخنا و أمي وإخوتي ؟

ويرد معلمي :

  الآن تفقه مثل هذه الأمور, في المدينة ستتعلم أحسن ..

وكان معلمي يلح على عائلتي بإرسالي إلى المدينة لمواصلة دراستي وأن لا تتركني للنادي والغنم بعد الإبتدائية. كان يقول دائما: هذا الطفل سيكون له شأن عظيم ..

وتحقق أمل معلمي وسافرت إلى المدينة لمزاولة التعليم المتوسط وتدرجت عبر الأقسام حتى الجامعة وكان الكل يكن لي الحب والإعجاب , حتى زملائي بقدر ماكانوا يحبونني بقدر ما كانوا يغارون مني .. في تلك الفترة عشقت الليل السرمدي , ونغمات الناي التي لا تفارق مخيلتي .. في كل عطلة أجوب قريتي طولا وعرضا أتأمل الأيادي الخشنة , وهي تضرب بالماعول تارة وتقتلع تارة أخرى .. أنظر إلى أقحوان الربيع يساير الإبتسامة النرجسية للفلاحين , وأزهار الأمل ترسم مواسم الفرح على خدود الصبايا ...أه كم رددت مع مفدي زكريا مقطعه " شغلنا الورى ....و ملأنا الدنا ... إلخ

ففي شعاب قريتي تفجرت قريحتي وقرضت أشعارا تتغنى بالحب ...بالحياة ...بالوطن ....

حملت شهادتي بيميني وحقيبتي بيساري ورحلت أجوب المدن باحثا عن منصب عمل , قالوا لي عندما تنال الشهادة تجد عملا ولكنني الآن بلا عمل .. رباه لم يبق لي إلا الهجرة وكان وجه أمي يتصيدني في كل زاوية من زوايا المدينة .. دموعها ..توسلاتها لا تفارق مخيلتي ... في آخر يوم لي معها نهضت باكرا فتعجبت, و لم أكن قد أخبرتها بقراري في سلك طريق الهجرة .. لقد أعددت العدة وحضرت كل الوثائق ولم يبق أمامي إلا الرحيل ... سألتني والحيرة تسكنها:

-هل أنت مسافر إلى المدينة ؟

قلت ببرودة :

-بل مهاجر إلى أوروبا.

وصاحت بأعلى صوتها :

 مهاجر ... مهاجر لا ... لا ...

 قلت لها :

 أماه لم يبق أمامي غير هذا الطريق...

انهمرت الدموع من عينيها ولم يستطع أحد إقناعي بالبقاء ... مسكينة أنت يا أمي , هاجر زوجك في يوم ربيعي , وبعد سنوات عاد إليك في صندوق خشبي مع فجر أول يوم شتوي ، حتى الأمطار بكت موته ولم تتوقف إلا بعد أسابيع عديدة ..ابنك يقرر السير على درب الوالد والسفر إلى هناك وما أدراك ما هناك .

وكأن كل المدن أبرمت عقد عدم قبولي ... وسكنني الخوف والضياع ...وسقط القناع عن جنة الأمل الرابض وراء البحر, انهارت قواي وضاع الحلم .. لم يكن أمامي إلا السفر والترحال ولكن بلا أمل ... وامتدت يداي إلى ما كنت ذات يوم أومن أنه حرام ...فكم رددت قول امرؤ القيس : اليوم خمر وغدا أمر. حتى ملت حانات المدن وشقرواتها من لقائي ...

والآن في هذا الميناء الاخير سأكتب أسطورة ضياعي و أرسلها إلى أمي لتعرف آلامي ومعاناتي...اليوم سأدون بأحمر شفاه شقرواتهم عنوان ضياعي ... وأردد أنشودة احتضاري .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى