الاثنين ١٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم أحمد الكبيري

سقوط الأقنعة في “الليل العاري” لعبد الرحيم العطري

بالرغم من أنهم ” أولئك الذين يصنعون الموت
يدعون إلى عزف الأسى…فسأظل رغم أنفهم جميعا
منحازا للإبداعات السامقة، متواطئا مع الأحبة و الرائعين..
إننا ننتمي لثقافة مجبولة على الحزن و الحداد
لهذا علينا أن نصنع الفرح و نحتفي بالأصلاء”

بهذه الكلمة ذات الدلالات الإنسانية العميقة والتواطؤ المعلن فيها مع كل ما هو جميل وأصيل، والتي قالها الباحث والمبدع عبد الرحيم العطري في حق روايتي “مصابيح مطفأة” ذات كتابة..أبدأ مقاربتي لمجموعته القصصية الأولى ” الليل العاري” . الصادرة حديثا عن منشورات” دفاتر الحرف والسؤال” في 94 صفحة من الحجم الصغير. وهي تضم إحدى عشرة قصة يوحدها تقارب حجمها واللغة التي كتبت بها وكذا تقاطع موضوعاتها.

و مقاربتي لهذه المجموعة الممتعة، هي مقاربة تقديمية انطباعية أكثر منها دراسة نقدية موضوعية للمجموعة. سأكتفي فيها بإبداء بعض الملاحظات وطرح بعض الأسئلة لتقريب النص من القارئ الذي أسعى إلى توريطه في التفاعل البناء مع النص و دفعه إلى مناقشته من الزاوية التي ستظل مغفلة عن عين هذه المقاربة .
وأول ما يلفت النظر في هذه المجموعة هو عنوانها الذي يستفز فينا مجموعة من الأسئلة، التي سنجعل من طرحها أساسا للغوص في عوالم النصوص وخطاباتها. فإذا كان الليل بالنسبة للكائنات الحية برمتها، ملاذا للراحة والنوم والسكون والتخفي، وبالنسبة لنا في ثقافتنا العربية والمغربية على وجه الخصوص يعني الستر والكتمان والعتمة، فإن المبدع العطري جعل من هذا الليل في مجموعته ليلا قليل الحياء إذ أسقط عنه كل أوراق التوت لتبدو سوءته ويمشي بين العالمين عاريا. فهل العري هنا يفيد الضوء المسلط على شخوص وفضاءات وأزمنة المجموعة القصصية أم يفيد السفور الكاشف عن سوءاتها التي لا ينفع في حجبها لا لباس النهار ولا حلكة الليل؟ ثم هل هذا الليل العاري يشكل فقط، جزءا من الظلمة المعربدة في واقعنا المعيش أم هو الظلمة نفسها؟ والعري هل يمس ما يحدث في الليل أم يمتد للكشف عما يظل معتما في واضحة النهار؟

وقبل الإجابة على هذه الأسئلة، أود أن أبدي بعض الملاحظات التي لا يمكن القفز عليها، والتي من خلالها قد أقدم بعض الإجابات.. وأول ملاحظة سجلتها وأنا أقرأ مجموعة الليل العاري للمبدع عبد الرحيم العطري هي أنها نصوص صعب تجنيسها . حتى وإن كان الناشر حسم الأمر بالكتابة على الغلاف ” الليل العاري ” قصص من أجل الياسمين، إلا أنني أعتبرها نصوصا خائنة لجنسها. وهي خيانة جميلة تعطي للنص إمكانية التداول كوحدة منفصلة عن الكل وكجزء متصل بهذا الكل. أي بمعنى، أنه يمكننا قراءة كل نص من المجموعة على أنه قصة مكتفية بذاتها، كما يمكننا قراءتها كجزء من عمل سردي متكامل من حيث بناؤه وفضاءاته وشخوصه.. وكذلك بقدر ما يحتفي النص الواحد بالتفاصيل الدقيقة، بقدر ما تلمح المجموعة بكاملها إلى عوالم شاسعة ومعتمة. وهذا ما دفعني لتسجيل الملاحظة الثانية وهي المتعلقة بموضوعات المجموعة. ذلك أن القارئ لمجموعة الليل العاري سيقف على أن هنالك دائما تيمة رئيسية توحد بين نصوصها. فإما أن تكون هذه التيمة، هي الفضاء الرئيسي في المجموعة، أي فضاء الحانة حيث تدور مجمل الأحداث وتنكشف جل الأسرار وتتعرى العتمة من تبانها. أو أن تكون هي الشخصية الرئيسية،أي الشاب المعطل الذي يشكل قطب الرحى ومحور الحكايات وأساس الموضوعات . وهذا من المكونات السردية التي تجعلنا أمام مجموعة قصصية تتوقف فيها الحكاية في هذا النص لتبدأ وتتواصل في نصوص أخرى ضمن سياقاتها العامة.

وهي بذلك، على الأقل من وجهة نظري، تشي بأصالة الكاتب وتفرده. لأنها تفضح انسجامه مع خطابه ورؤاه وتبرهن على قناعاته وتدل على أدوات اشتغاله، ومن ضمن هذه الأدوات اللغة، كمكون أساس في العملية الإبداعية. وهنا، لابد أن أشير إلى أن الباحث والمبدع عبد الرحيم العطري كما تعرفت إليه، يتميز بأسلوب خاص في الحديث كما في الكتابة.. وهذا الأسلوب أساسه لغة يتناغم فيها الشاعري العذب والبسيط العميق والثائر الغاضب. وهذا الأسلوب هو الذي جعلني أسجل أن المجموعة يطغى فيها حضور السارد وتوجيهه للأحداث والمواقف والرؤى نحو التحريض الصريح على المقاومة والصمود والإدانة المباشرة لكل أشكال الظلم والطغيان والقبح.
وحتى يتسنى لي أن أجيب على بعض الأسئلة التي طرحتها في بداية هذه المقاربة، انطلاقا من عنوان المجموعة وربطها بالسياق العام الذي أشرت فيه إلى الملاحظات االسالفة الذكر، لا بد أن أعود إلى نصوص المجموعة واستنطاق مكنوناتها.

نقرأ في القصة الأولى المعنونة بياسمين: ” تقترب من والدتها بعد أن أعياها التجول والتسول ، النوم يأتيها، من حيث تدري ولا تدري، تبدأ في البكاء، تطلب مغادرة المكان، تنهرها أمها، تعيرها بأوقح العبارات” اسكتي أبنت الفاعلة والتاركة”، توافق الأم على طلب طالب الفلسفة، ترتمي في أحضانه إيذانا بانطلاق موسم العري” ص7 - 8 . الفضاء هنا هو الحانة، حيث يعلن الكاتب عن هروب أم ياسمين من عوزها، وطالب الفلسفة من محاصرة أسئلة الواقع والمستقبل، وياسمين التي لا يتجاوز عمرها الست سنوات من طفولتها ، ليرتمي الجميع في أحضان الليل لممارسة العري..هذا العري الذي سيضيء واقعا معتما تعيش فيه الطفولة الضياع والحرمان والشباب حامل الشهادات العطالة واليأس وتعيش فيه الأمومة تمزقات الروح والجسد. ونقرأ في قصة تراجيديا الليل العاري:” لكنه هذه الليلة بحاجة إلى مكانه الطبيعي، يريد أن يعتذر لياسمين لما بدر منه في ليل عار فائت، يريد أن يقول لوالدتها المعتوهة، أنها تغتصب طفولة ابنتها بالزج بها إلى عالم الليل..”ص 21. لكنه سيفشل في تحقيق حلمه، سيفشل في إيجاد وضعه الطبيعي، كإنسان مستقر، يعمل نهارا ويأوي إلى فراشه ليلا يغمره دفء الأسرة وجدران البيت ..فيدعن لرغبته في النوم، حتى ولو كان هذا النوم في العراء كما ينام شباب معطل قرب أبواب الوزارات التي عودتهم على الوعود والخذلان. نقرأ في نفس الصفحة : ” قريبا من شباب معطلين اختاروا المبيت في العراء قبالة وزارتهم التي خذلتهم ولم تشغلهم، افترش ” الكارطون” منتظرا أول خيط الفجر…” هذا الفجر الذي وإن كان يعبر عن الأمل إلا أنه أمل بعيد المدى في ظل الظروف التي يقضي فيها شبابنا ليله كما تصورها لنا مجموعة ” الليل العاري”.

ونقرأ في قصة “حبل الكذب” التي تحكي لنا قصة الحاج عمر المقاوم، الذي هو الآخر يواصل حياته بوجه وقناع، وجه لليل وقناع للنهار.” بواسطة النفحة الوزانية، يستطيع الحاج عمر نهارا نسيان كل شيء ، بواسطتها يمتلك قدرة على مواصلة المسير في طريق ملآى بالخذلان والأنذال، وبواسطة الجعة وسعيدة قيدومة عاهرات الحانة وخالد/ربيعة يستطيع ليلا أن ينسى ويغرق في صناعة الحياة حد الانتشاء، ولو كانت حياة مزيفة..”ص 39. وكما يلاحظ هنالك استمرار الفضح والإدانة للنهار من خلال تعرية الليل.. فالحاج عمر في هذه القصة يهرب للحانة ليلا ليعيش سقوطه وخيباته وكذا انتقامه من الزمن الذي حضي فيه الانتهازيون والخونة بشرف المقاومة، بينما ارتمى المقاومون وأبناء الشهداء إلى الظل أو الهامش..ونقرأ في القصة الأخيرة من المجموعة المعنونة ب”خروج،” والتي تفضح تجارة اللحم البشري بالتقسيط ، فتيات بكر بئيسات، وجميلات تقدم مقابل حفنات من الدولارات لمشايخ المال والجهل والتصابي : ” لما يتعبان تأخذهما بنت الكواي إلى حانة النصراني لتقتل النادل القزم غيظا وحنقا، تحجز جناحا كاملا وتطلب أفخر المشروبات، وفي الأخير ترمي لمسيو طونيو المال أرضا، لكن القزم لا يعبأ لما تفعل، لا يهمه هو إلا المال الذي يجنيه منها..” ص 92.

وبهذا المعنى الذي سارت علية المجموعة من أول قصة إلى آخرها تسمح لي أن أخلص إلى القول بأن” الليل العاري” للمبدع عبد الرحيم العطري، هو ضوء كاشف، واحتجاج مباشر، وإدانة صريحة لنهارنا الزائف الذي تغتصب فيه طفولتنا، وتقهر فيه رجولتنا، وتذل فيه أمومتنا، ويعطل ويطفأ فيه شبابنا، ويدفعنا بالتالي إلى هذا السقوط القاتم في عتمة ليل لا يرحم والاستسلام لجبروت زمن تضيع منا فيه الكرامة. نقرأ في نفس النص الأخير:” لا معنى للكرامة في ليل موغل في عرائه، ليل عار من كل الأقنعة..”ص 89

وخلاصة القول، فالمجموعة راهنت إبداعيا على موضوعات تحتفي بالليل وبالهامشي، لتضيء نهارنا بشموس الحقيقة التي يأبى البعض إلا أن يواصل تغطيتها بالغربال، كما راهنت المجموعة أيضا على استقلالية النص الواحد وتواصله ضمن باقي نصوص المجموعة الأخرى، وأعتقد أن للتفاصيل التي تعنى بها السوسيولوجيا كتخصص للمبدع عبد الرحيم العطري، دور كبير في عمق تحليله ووصفه ورؤاه.

قدمت هذه الورقة ضمن فعاليات حفل توقيع “الليل العاري” المنظم يوم الجمعة 7/07/2006 ، بدار الشباب تابريكت سلا ، من طرف جمعية رواد الجامعة الشعبية السلاوية .


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى